الأحد ١٠ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٩
بقلم غزالة الزهراء

رقم أربعة

لقد شارف سنها على الخمسين عاما، هذا مخيف جدا بالنسبة لها حيث زج بها في بوتقة خانقة من الحيرة والارتباك، ارتباكها تفاقم بصورة عشوائية مذهلة، وما زاد الطين بلة أنها تعاني من جفاف الأمومة وقلة الحظ.
هي ربة بيت ممتازة دون منازع، أناملها الذهبية تجيد فن الطبخ على أصوله، زد على ذلك تهوى عالم الأشغال اليدوية من حياكة، ورسم على الزجاج، وصناعة الورود بالجوارب الشفافة الملونة، أما في مجال المعجنات فلها أكثر من تجربة فيه، بمعنى ذلك أنها متفوقة بامتياز.
بنات الجيران، وبنات العمات والخالات يرفلن حاليا في أعشاشهن الزوجية الهنية، وبالتالي أنجبن الذكور والإناث ماعدا هي فلم ينصفها الحظ في دنياها، ولم يطرق بابها النصيب على غرار الأخريات اللائي سبقنها.
تلقت مكالمة هاتفية من غريب لم يسبق لها أن عرفته.
ـــ ألو، من؟
ـــ أنا سعيد.
ـــ لا أعرف شخصا بهذا الاسم، أنت مخطئ يا سيدي.
ـــ فعلا أنا مخطئ، جربت هذا الرقم ولحسن حظي كان لي ما أردت.
ـــ ماذا تعني؟
ـــ من فضلك، امهليني دقيقة واحدة، سأشرح لك ذلك باختصار شديد، بودي إتمام نصف ديني، هلا فهمت مبتغاي؟
ـــ هل تتوق لإتمام نصف دينك عبر الهاتف وأنت لا تعرفني، ولم ترني ولو مرة في حياتك؟ أيعقل هذا؟
ـــ هذه أفضل طريقة لدي.
ـــ عجبا !ما هذا الهراء؟
ـــ هذا ما أحبذه، صدقيني و.......
ـــ لا تسترسل في الكلام أيها السيد، ولا تعيد الكرة ثانية.
بقيت ممسكة بهاتفها في يدها، وعلى إثر هذه المكالمة غير المنتظرة تسائل نفسها مرارا وتكرارا: أيجدر به أن يكون صادقا في نواياه، ويريد إتمام نصف دينه كما قال؟ لماذا لا أجرب حظي معه مادامت قدرة القادر ساقته إلي؟ ولم لا أمنح لنفسي فرصة التعرف عليه؟ الفرصة الثمينة تأتي بين يدي المرء مرة واحدة في العمر، وإن أهملها فهو الخاسر لا محالة.
تتوقف عن التفكير فجأة كأنما نسيت أمرا بالغ الأهمية لم يخطر على بالها قط، ثم تعود من جديد راشقة نفسها بحراب مدببة من التقريعات المثخنة جراحا: ماذا فعلت به أيتها البليدة الحمقاء؟ ألم تطلبي منه ألا يتصل ثانية؟ ألست أكثر غباء من بعض غيرك من نساء الأرض؟
في اليوم الموالي عاود الاتصال.
دق قلبها بشدة، وارتجفت كسنونوة في عشها داهمتها نوبة برد قارصة.
ـــ مساؤك فل وياسمين، نيتي شريفة يا.......
ثم أضاف: ما اسمك؟
ـــ أمينة.
ـــ أنا سعيد جدا بسماع صوتك، السعادة الحقيقية نحن من نبحث عنها فهي لا تأتي إلينا على طبق من ذهب.
ـــ طبعا، أنت محق.
ـــ كم تبلغين من العمر؟
ـــ ألا تراه سؤالا محرجا؟
ـــ لا، أبدا، من باب الفضول أسعى إلى معرفة ذلك.
تلفظت بصعوبة بالغة وكأنما السيف البتار موضوع على رقبتها: خمسون عاما.
ـــ أما أنا فقد تخطيت الخمسين سنة.
أحست بالاغتباط يتملكها كونه يفوقها سنا.
تابع قائلا: هذا لا يؤثر على علاقتنا إطلاقا.
امتدت اتصالاتهما الهاتفية على مدار شهرين متتابعين، وحين كسب ثقتها العمياء فيه ضرب لها موعدا.
وافقت بسهولة ودون تردد.
أي فستان سترتديه في صبيحة الغد لتقابل به فارس أحلامها المنتظر؟ وأية اكسسوارات تتزين بها لتبدو أروع امرأة في عينيه؟
في تلك الليلة الليلاء لم يغازل الكرى أجفانها، باتت تتقلب في سريرها ذات اليمين وذات اليسار إلى أن أعلن الفجر الصبوح عن ميلاده المبارك.
في حدود الساعة العاشرة بالضبط تهيأت للخروج احتراما للموعد المتفق عليه، ألفته هناك بانتظارها يعد الدقائق على أصابعه لملاقاتها، المكان يبدو شبه خال، انزعجت بعض الشيء، أرادت أن تقفل راجعة من حيث أتت، ولكنها في الأخير استجمعت شجاعتها وتابعت خطاها في يقين كبير.
رحب بها أيما ترحيب، وقال عندئذ: أنت أجمل امرأة اكتحلت بها عيناي اليوم.
ـــ هذه مجاملة منك، لك ألف شكر.
ـــ ليست مجاملة، إنها الحقيقة.
واحتواه صمت عميق، عميق جدا.
تقلصت في مكانها، لم تستشعر بطعم الأمان معه، رائحة نبيذ مزرية تنبعث من فيه، يا إلهي !أيكون من فصيلة العابثين الذين يتفننون في الايقاع بالنساء في أحبولة المكر؟ أيدبر لي مكيدة يصعب علي الخروج منها؟ كيف أتخلص من هذه الورطة اللعينة وبأسرع وقت؟ وهل أتحرر من مخالبه، وأعود سالمة إلى أهلي من غير أذى يطالني؟
وبينما هي غارقة في بحر مخاوفها المتلاطم أمواجه داهمها بسؤاله لينتشلها مما هي فيه: فيم تفكرين؟ أأنت منزعجة من شيء؟
مرتجفة من الداخل كأنما حانت ساعة إعدامها: لا، مطلقا.
أوشك أن يخاطبها بصوت عال لتسمعه: الآن جاء دورك أيتها الجميلة، ها أنت تقعين في قبضتي المحكمة وقوع طير مكسور الجناحين، أنت ضحيتي الرابعة، أين تفرين من شراستي أيتها البلهاء؟
ليكسب ودها أكثر فأكثر فتح علبة صغيرة، وأخرج منها خاتما، وقال متصنعا البراءة بمعناها الحقيقي: هذا خاتم زواجنا، البسيه حالا.
ومن ثم سحب من جيبه مفتاحا وهو يقول بدهاء كبير: هذا مفتاح شقتنا الجديدة، فلننصرف الآن إلى عشنا الهادئ.
بتر حديثه رنين هاتفه الخلوي، نآى عنها قليلا، وأدار لها ظهره، وطفق يتحدث بصوت خافت كأنه الهمس كيلا تتقاطر في أذنيها كلمة من كلماته.
في هلع شديد حدثت نفسها: هل أبقى مكتوفة اليدين دون أن أحرك ساكنا؟ علي بإيجاد حل لمعضلتي وإلا ستمزقني مخالبه، يالها من ورطة لعينة أوقعت نفسي في بؤرتها الأشد اسودادا !لا، لن أبقى هكذا دون فعل شيء.
وسرعان ما انحنت على التقاط حجرة صماء، وسارت نحوه بحذر كي لا يتفطن لها، ضربته على قفاه، سقط أرضا وهو يغمغم، أما هي فلاذت بالفرار.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى