الجمعة ٥ شباط (فبراير) ٢٠١٦
بقلم نمر سعدي

سبايا الملحِ

سيكونُ ليلٌ آخرٌ
يرتاحُ فيهِ الأنبياءُ من المزاميرِ الخفيفةِ والتأمُّلِ
مثلما يرتاحُ راعي الريحِ من سَفَرِ البراري
سيكونُ بحرٌ آخرٌ في حبَّةِ الرملِ الفقيرةِ
كيْ أعلِّقَهُ على حُزنِ الضحايا
ثُمَّ أسندَ أغنياتي في المساءِ على ثراهُ
لكيْ أضيءَ بكلِّ أعقابِ الدموعِ رذاذَ ناري
سيكونُ قلبٌ للمزاجيِّينَ منتصفَ الطريقِ
محلِّقٌ ينشقُّ من صرخاتهِ طيرانِ
من صلصالهِ قمرانِ في وضَحِ النهارِ
سيكونُ صوتٌ غيرُ مسموعٍ
لقدِّيسٍ كجان جينيه
يضيءُ بقبرهِ الجيريِّ وجهَ الليلِ
أو يمشي إلى صبرا وشاتيلا على قدميهِ
من أقصى الشمالِ الأطلسيِّ
لكيْ يُعيدَ إلى الحقيقةِ طفلةً
ويُعيدَ زنبقةً بغيرِ دمٍ لأضلاعِ الصواري
*
 
طباق
 
لا أحبُّ الطباقَ المراوغَ
لكنني قد أُحبُّ الخريفَ بلا سبَبٍ
والسفرجلَ يا أختيَ القبَّرةْ
لا أُحبُّ مثاليَّةَ الشعراءِ
ولكنني قد أحبُّ فماً واحداً
لنساءِ القصيدةِ
أو قمَراً يطلبُ المغفرةْ
لا أُحبُّ انتهاءَ الفصولِ
ولكنني قد أُحبُّ الغنَّاءَ
المقطَّرَ من جسَدِ الشجرةْ
أُحبُّ تفاصيلَ سيِّدةِ اللازوردِ
وسيَّدةِ الأقحوانِ
فكيفَ إذنْ يا إلهي الحبيبْ
صوتُ فيروزَ لم يمنعْ المجزرةْ؟
 
يحدثُ أن
يا قلبُ يحدثُ أن تغيبَ صديقةٌ
عن بوحكَ العبثيِّ أسبوعينِ
أو قمرينِ مكتملينِ
أن تتزوَّجَ امرأةٌ وتغرقَ في الحياةِ حبيبةٌ
أن تشتهي صيفاً بعيداً عنكَ
يحدثُ أن تشمَّ فقاعةً في صوتها
وتجسَّها بتنهدِّ الأعمى
ويحدثُ أن تغطِّي الآنَ سيِّدةٌ
ملاءتها بأعقابِ السجائرِ والمحارِ وبالزهورِ
وسِفرِ بوشكينَ الشقيِّ وبالنجومِ..
وأن تموتَ من الحنينِ
إلى فضاءِ روايةٍ لا تنتهي أبداً لتسكنَها
ويحدثُ أن أقولَ لقطرةِ المطرِ الصغيرةِ:
لم أزل وحدي على عرشِ الترابِ فضاعفيني..
أو أضيءَ بدمعةٍ وجهاً يرفرفُ في دمي الأزليِّ
يحدثُ أنَّ أصغرَ جملةٍ بيضاءَ موسيقيَّةٍ
تقتادني في الليلِ من حيفا إلى الدامورِ
يحدثُ أن أشيرَ لبجعةٍ ولطفلةٍ
ولسروتينِ على حوافِ قصيدتينِ صغيرتينِ:
خذوا مكاني
 
حُبُّ الحياةِ
 
لصباحاتِ كانونَ أسبابُها كي نحبَّ الحياةَ
غمامٌ على الأرضِ
أنشودةٌ للقرنفلِ لا تنتهي
مطرٌ في الشفاهِ
وصايا المُحبِّ لمحبوبهِ
قمرٌ ناصعٌ في النهارِ
حديثُ النساءِ الصباحيُّ عن وجعِ الحُبِّ
رائحةُ القهوةِ العربيَّةِ
في الشارعِ العامِ في الناصرةْ
غوايةُ فيروزَ
أغنيةُ البحرِ
شوقُ الغريبِ لمسحِ غبارِ طفولتهِ
عن مرايا الصباحِ الجليليِّ
أو وهَجِ البرتقالِ الحزينِ
بحاكورةِ البيتِ ...
أو خدَرٌ موغلٌ في الجسَدْ
حينَ تغفو ذراعٌ بعفويَّةِ الماءِ
تشبهُ خفقَ قلوبِ الطيورِ على الخاصرةْ
بائعُ التُحفِ الأربعينيُّ يبحثُ عن قوتهِ
وحمامٌ يعاكسُ قابلةً خلفَ نافذةٍ
في صباحِ الأحدْ
سنحبُّ الحياةَ كما لم يحبَّ الحياةَ أحدْ
 
أوديسُ الجديدُ
 
ويقولُ أوديسُ الجديدُ:
توهَّجي كالشمسِ في جسدي
فنولُ الثلجِ ينقضني كغزْلٍ فائضٍ
عن حاجةِ امرأةٍ من الدنيا
سأطوي البحرَ طيَّ قصيدةٍ يا زوجتي..
ولتكملي نقصانَ أغنيتي الأخيرةِ
عن سبايا الملحِ..
أو فلتغفري لي نزوتي البيضاءَ
يا بنلوبُ إنَّ هوايَ هاويتي
وقلبي كالفراشةِ في السراجِ
فنبتةُ الفلِّ المريضةُ
لن تحوكَ قميصَ نومكِ في غيابي عنكِ
إلا إن طلبتُ أنا إليها أن تحوكَ
وكومةُ الصَدَفِ المعذَّبِ لن تضمَّ حفيفَ صوتكِ
مثلَ زادِ الدربِ لي
إلا إذا زينْتِها للبحرِ خلخالاً
وللريحِ الحرونِ قلادةً فضيَّةً..
هل بعدَ أن تأوي عصافيرٌ إلى أوكارها
والشمسُ تخلدُ للمنامِ
ويجمعُ اللهُ الحبيبَ إلى حبيبتهِ
ويُنفخُ حينها في الصورِ
يا قمرَ الزمانْ
هل يستريحُ المتعبانْ؟
 
ديسمبرُ السيَّاب
 
يومُ الخميسُ أو اندلاعُ العطرِ بالليمونِ
في ديسمبرِ السيَّابِ..
من شمسِ الغروبِ قطفتُ زنبقةً
وبحتُ لغيمةٍ أرضيةٍ:
لن تفهمي قلقي المشبَّعَ كالهواءِ
بوجهِ فاتنتي وظلِّ قصيدةٍ سريَّةٍ
وبكلِّ أنفاسِ النبيذِ أو الظباءِ...
كأنَّ لوك نورانَ تأتي من بعيدٍ
كي تتمَّ المشهدَ الشعريَّ
حارسةً لايقاعِ الزهورِ
لرغبةٍ تخبو على الأهدابِ
كي يتوَّهَجَ القمرُ النهاريُّ الكسيرُ..
وفجأةً تمضي فأسمعُ في الفراغِ
بكاءَ نهرِ بويبَ أو صوتاً سرابيَّاً يقولْ:
(وذهبتِ فانسحبَ الضياءْ
لم يبقَ منكِ سوى عبيرْ
يبكي وغيرُ صدى الوداعِ إلى اللقاءْ
و تركتِ لي شفقاً من الزهراتِ جمَّعها إناءْ).
 
جمرةٌ مائية
 
حُلُمٌ يكبرُ في أمكنةٍ أخرى
على مرأى بحيراتٍ من الزنبقِ
قالَ شاعرٌ عن نفسهِ..
أنا ما تتركهُ ريحُ مجازِ الظلِّ خلفَ الأرضِ
قالتْ وردةٌ عمياءُ في نظرتهِ عن نفسها
أغنيةٌ تفتحُ في الريحِ جناحيها
على كحلِ المسافاتِ الخياليَّةِ
كي يعبرَ سربُ اللقلقِ البريِّ
قالَ الحجَرُ المسكونُ بالحيرةِ..
مثلُ جمرةٍ مائيَّةٍ قلبي
يقولُ العاشقُ المارقُ
لا أرتاحُ في أرضٍ
ولا تنطفئُ الشموسُ في أصابعي
وكلَّما مرَّ عليَّ العمرُ يزدادُ أُواري.
 
سالومي
 
عصفورةٌ عصبيَّةٌ يدُها
وتومئُ باتِّجاهِ مجرَّةِ الليمونِ
قلتُ لها: لماذا تصغرينَ إذا كبرتُ
وتدلقينَ دموعَ نايكِ في قرارِ القلبِ
مثلَ حليبكِ الفجريِّ؟
يا تفَّاحةَ الشهواتِ في فمِ أمِّنا حوَّاءَ
لا تتحوَّلي ملحاً
ويا سيقانَ سالومي أرقصي حتى الصباحِ
على الدمِ الجمريِّ
يا امرأةً تسمَّمَ قلبُها
وذوتْ سنابلُها الصغيرةُ
لم تزلْ في الأرضِ سالومي العجوزُ
وفي صباهُ الغضِّ
أو في عمرهِ النبويِّ يحيى المعمدانْ.
 
شاعرة
 
تُنشبُ الاستعارةُ فيَّ وفي الأقحوانةِ أظفارَها
عندما لا أرى خضرةَ الضوءِ
مثلَ الفراشةِ حولَ اسمها حائمةْ
هيَ شاعرةٌ في الحياةِ ولا تكتبُ الشِعرَ
لكنْ (مجازاً) تخطُّ قصيدتها ثمَّ تمضي على عجَلٍ
(آهِ من حجَلٍ هاربٍ من يديَّ)
لأحرسَ أقمارَها واحداً واحداً بعدَها من فمي
أو لأمحو رسالتها بشفاهي وبالقُبَلِ الصائمةْ
كانَ (لستُ أخاطبُ غيرَ المضيئينَ) آخرَ أبياتها..
كيفَ لم أحفظ امرأةً مثلَها في حياتيَ عن ظهرِ قلبٍ
ولم أنسَ شِعراً لاحدى النساءِ
كما قد تناسيتُ أشعارَها؟
 
لا تضيِّع كأندلسٍ قلبَها
 
كانَ عرَّابَ ريحٍ يدُلُّ المشاةَ
وغيمَ النوارسِ حيناً إلى رغبةٍ غامضةْ
وحيناً إلى البحرِ أو شجَرِ التينِ والمنتهى
وبشمعِ أصابعهِ في الظلامِ
يقودُ الطيورَ إلى سرحةِ الشمسِ والمشتهى
ثمَّ يبكي بغيرِ دموعٍ ويضحكُ من غيرِ قوسِ قزحْ
وفي قلبهِ وترٌ ساحليُّ الندى والفرحْ
(آهِ من تلكما المُهرةِ الراكضةْ
بينَ عينيَّ أو في دماءِ الوريدْ)
كانَ عرَّابَ ريحٍ يغنِّي وحيداً
إذا هبطَ الليلُ من قمرٍ في مدارٍ بعيدْ:
لا تضيِّعْ كأندلسٍ قلبَها
فالصديقةُ مثلُ القصيدةِ إنْ ذهبتْ لن تعودْ.
 
ماءٌ شفهيٌّ
 
لو قلتِ: هذا العمرُ أقصرُ (في حضوركِ)
من هروبِ الحُلمِ من قلبي
وأصغرُ من هبوبِ قصيدةٍ في خلسةِ المشتاقِ
صدَّقتُ العبارةَ واكتفيتُ بنجمةٍ فوقَ السياجِ من الندى
ومشيتُ مشيَ النائمِ
لو قلتِ: أمطارُ الخريفِ قصيدتي الأولى
لصدَّقتُ الإشارةَ والمجازَ
أو اكتويتُ بمائكِ الشفهيِّ أو جمرِ الرذاذِ الناعمِ
لو قلتِ: حوَّاءُ البريئةُ لم تغرِّرْ مرَّةً بحبيبها
لأكلتُ تفَّاحَ الغوايةِ كلَّهُ
وتركتُ ميراثَ الحنينِ لآدمِ
لو قلتِ: راحتْ كلُّ أيامي سدىً
لشطرتُ مرآةَ السرابِ بقُبلةٍ
وبحثتُ عن قلبي بعشرِ مواسمِ.
 
كتابة
 
الكتابةُ ليستْ دواءَ الكآبةِ
لكنها قد تكونُ لتزجيةِ اليأسِ
من قدَرٍ ظالمٍ
أو تكونُ محاولةً للتخلُّصِ
من فائضِ الوجدِ في أوَّلِ الليلِ
أو فرصةً كي تكونَ لبضعَ دقائقَ
ما تشتهي أن تكونَ
ولا شيءَ أيضاً..
وقد لا تكونُ طريقتَنا
في التأمُّلِ والحُبِّ والمستحيلِ
وقد لا تكونُ...
الكتابةُ مثلُ النداءِ الأخيرِ الذي لا يصِلْ
إلى أيِّ أرضٍ أو امرأةٍ
عبرَ مَدِّ الرمادِ وجَزْرِ القُبَلْ
أن تقولَ لسيِّدةٍ (مثلاً):
آهِ لو كنتِ أبعدَ من كوكبٍ
أو أقلَّ جمالاً
تُرى كنتُ أغلقتُ نافذةَ البحرِ خلفيَ
مثلَ همنغوايَ من دونما غضبٍ
ومضيتُ إلى النومِ
والقلبُ منتبهٌ كالحَجَلْ؟
 
أضيئي شفاهي
 
أضيئي شفاهي بسنبلةٍ واحدةْ
وضلعي بعشرِ نجومٍ
وقلبي بخمسِ قصائدَ بحريَّةٍ
ثمَّ عرِّي دمي الشاعريَّ
وغطِّي جراحَ بنفسجةِ الشاهدةْ
ولا تتركي فوقَ ريحِ الصليبِ
أصابعَ طفلٍ يسمِّرها بردُ كانونَ..
هاتي هواء نظيفاً
لأنفخَ في غُصَّةِ القلبِ بعضَ الأغاني
وأصنعَ من طينِ حزني عصافيرَ
من أجلِ طفلٍ على الردمِ يبكي
لأنَّ الحروبَ الكثيرةَ قد يتَّمتهُ مراراً
فلم يعرفْ اللحمَ
من عهدِ معجزةِ المائدةْ.
 
حَدْسُ الجفاء
 
لن أستريحَ.. فبعدَ هذي الحربِ
سوفَ يقودُني حَدْسُ الجَفاءِ
لأوَّلِ الأشجارِ أو لحديقةِ النسيانِ كالمنفيِّ
قد تغفو يدايَ على تماثيلٍ
تخلِّدُ رغبةً سريَّةً بتخلُّصِّ الإنسانِ
من جدليَّةِ الخسرانِ والماضي
وقد يمشي صدايَ على خطى امرأةٍ
فتبسمُ لي لكي لا يختفي
قمرُ النحيبِ من السماءِ
فيحتفي مطرٌ بحبَّةِ حنطةٍ سمراءَ
بعدَ رجوعِ كلِّ الجندِ من ليلِ الحروبِ
وتقتفي أثري الفراشةُ في غبارِ الطلعِ
أو في حبَّةِ العنَبِ الأخيرةِ
في فمِ امرأةٍ تقايضُ وردةً بالبرقِ
كي يعلو الغناءُ على هديرِ الطائراتِ
وكي تعلِّقَ في المدى
بملاقطِ اللبلابِ والنعناعِ
بعضَ قصاصةٍ شِعريَّةٍ في قلبها...

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى