الخميس ١ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٥
بقلم نجمة خليل حبيب

سميرة عزام (1926_ 1967)

مناضلة آلمها حزيران حتى الموت ومبدعة غفت عنها الدراسات

«لم تظلم كاتبة في الوطن العربي كما ظلمت سميرة عزام . . . هذه المرأة الخضراء الظل . المبدعة المناضلة، الشامخة المقاتلة. هي رائدة القصة القصيرة ولم تأخذ حقها من النقاد ، ولم تنشر أعمالها كما ينبغي لكاتبة في مثل مقدرتها». "1 "

لعل في هذه الشهادة، ولو متأخرة، ردّ اعتبارٍ لكاتبة مبدعة كان غيابها دراماتيكيا في توقيته وطريقة حدوثه. إذ أن سميرة عزام قضت إثر نوبة قلبية وهي في طريقها من بيروت الى الاردن للم شمل جماعتها السياسية التي بلبلتها الهزيمة الحزيرانية. ويعتقد الكثيرون ممن عرفوا الكاتبة معرفة حقيقية، ومنهم صاحبة هذه المقالة، أن الهمَّ الحزيراني هو المسؤول الاول عن موتها. ونحن اليوم إذ نتذكر سميرة عزام نتذكر فيها الاديبة المبدعة التي لم يشغلها إبداعها عن هموم قضيتها ولا أخذت قضيتها من مستوى إبداعها

وللكاتبة خمس مجموعات قصصية هي :
 أشياء صغيرة ( 4591 )
 الظل الكبير ( 6591 )
 . . . وقصص أخرى (0 691 )
ـ الساعة والانسان (؟. . . )
ـ العيد من النافذة الغربية (؟. . . )

كما ان لها رواية لم تكتمل بعنوان " سيناء بلا حدود " وبعض القصص القصيرة غير المنشورة.

رغم ان الدراسات التي تناولت أدب سميره عزام قليلة ومتسرعه، إلا أن هنالك رأيين متناقضين بالنظر الى أدبها. إذ يرى أحدهما فيه أدب فلسطيني بامتياز سواء ما كان منه مباشراً أو غير مباشر، فيما يرى آخرون ان الكاتبة التي ابتعدت عن شعبها وأوجدت لنفسها مكانا بعد هجرتها من فلسطين (كانت تعمل في أذاعة الشرق الاوسط)، لم تستطع ان تتحسس معاناة هذا الشعب في مخيماته واقتصرت اهتماماتها على موضوع المرأة. . . فأين تقع سميرة عزام من هذين الرأيين ؟

الحقيقة التي لا جدال فيها هي أن أدب سميرة عزام كان في مرحلته الاولى يزخر بمشاعر الالم والخيبة والمرارة، فصور البؤس تكاد تهيمن على مجموعاتها الثلاث الاول هيمنة شبه كاملة. والقضية الفلسطينية التي هي في جزئها الاكبر ، مأساة إنسانية، يقوم بينها وبين نماذج الكاتبة القصصية قاسم مشترك هو مزيج من خيبة ويأس والم وصراع بقاء. من ناحية اخرى نلاحظ لدى قراءتنا لأدبها، ان تغييرا في المنهج والطرح بدأ يطرأ على هذا الادب مع بداية التغيير الذي بدأ يطرأ على حياة الفلسطيني. لقد أخذت قصصها تنبض بالتفاؤل والامل ابتداء من اوائل الستينات مع ظهور فجر المقاومة الفلسطينية. ولعله من المفيد قبل الشروع قي البحث عن فلسطين في هذا الادب ،إلقاء الضوء على رؤية صاحبته السياسية .

تعتقد الكاتبة، ان الشعب الفلسطيني مر قبل الستينات، في مراحل سياسية ثلاث: مرحلة الضياع وهي الفترة الاولى، اول عهده باللجؤ ، ما بين 1948 وحتى منتصف الخمسينات، حيث كان همه إيجاد المأكل والمأوى والملبس، وإن اعتنق مبادئ ما فهي مبادئ تعتمد على القوى الدينية والسلطة التقليدية. هاتان السلطتان اللتان .كان وقتها يأمل فيهما خيرا، ولكن . . . وبعد ان خاب أمله ولم تستطيعا أن تعيدا له فلسطينه، بدأ ينضم الى اعدائها المتمثلين بالاحزاب السرية والمرخصة. وقد كان الفلسطيني مادة دسمة لهذه الاحزاب، لذا كان حضوره قويا بارزا في معظمها على امتداد الوطن العربي، سواء منها اليمينية أو اليسارية. إلا أنه ما لبث ان اكتشف ان هذه الاحزاب تعتبر قضيته مجرد واحدة من قضاياها العديدة بينما يريدها هو اللب والاول والاخير "2". فحركة القوميين العرب مثلا، والتي كانت تستقطب قسما كبيرا من الشعب الفلسطيني، كانت تنظر الى الوحدة العربية كحركة شاملة تجمع الامة من المحيط الى الخليج لتكون قوة فاعلة في العالم، بينما كان الفلسطيني ينظر اليها كقوة فاعلة تستطيع ان تعيد اليه فلسطينه. لذلك بدأ ينظم نفسه في تشكيلات خاصة لها خصائصها داخل هذه الاحزاب فكانت مثلا حركة شباب الثأر داخل حركة القوميين العرب .

هذه المراحل الثلاث ، ما لبثت ان تطورت فيما بعد لتصل الى قناعة جديدة هي ضرورة الاعتماد على النفس وبدء حركة الكفاح المسلح فكان ان ظهرت "منظمة العاصفة " التي قامت بأول عمل عسكري ضد الدولة الصهيونية والتي نمت وتطورت حتى وصلت الى منظمة شرعية تحمل اسم منظمة التحرير الفلسطينية .
والسؤال الذي نحن بصدده هو: أين يقع ادب سميرة عزام من قضية شعبها ؟ ! . . . علما ان القدر لم يمهلها لتشهد تطورات هذه القضية، فقد قضت بعد فترة وجيزة من حرب حزيران.

إن القراءة المتأنية لهذا الأدب تظهر أن عزام كانت من حيث تدري او لا تدري مسكونة بالهمّ الفلسطيني. فما مشاعر الالم والتحسر والضياع إلا ترجمة لمعاناة الفلسطينيين في زمن كتابة تلك النصوص. وهي وان لم تخلع على شخصياتها صبغة فلسطينية صريحة، الا ان ملامحهم كانت تطل وكأنها خارجة لتوها من احدى المخيمات الفلسطينية "3". ففي مجموعتها الاولى "أشياء صغيرة "، صور لأناس يبحثون لأنفسهم عن مكان في هذا العالم . . . يصارعون البقاء ، يحتالون بشتى الوسائل لتأمين معاشهم إلا أنهم دائما مخيبون. ففي قصة "حكايتها ""4" تصوير دقيق لصورة من صور الظلم الاجتماعي يقع على بطلة القصة، وما هذا الظلم الفردي الا جزء من الظلم العام الذي وقع على الشعب الفلسطيني. فكأن الكاتبة أذ تبرر لبطلتها سقوطها فهي إنما تبرر سقوط شعبها. فكما ان الحياة قست على بطلة القصة وتركتها وحيدة قاصرا في خضم الحياة، كذلك ترك الشعب الفلسطيني وحيدا يصارع قوى عالمية لا طاقة له على مجابهتها. وكما ان الحرقة والالم جاءاها من إدانة أخيها لها كذلك كان الفلسطينيون يتألمون ويتحرقون لآن اصابع الاتهام كانت توجه إليهم بانهم باعوا أرضهم لليهود وتخلوا عن قضيتهم كمثل ما اتهمت البطلة ببيع شرفها. وكما تشفق البطلة على اخيها رغم انه حكم عليها بالموت وتجد له الاعذار هكذا كانت حال الفلسطينيين في دول اللجؤ المضيفة. وبالعودة الى زمن كتابة القصة نرى ان هذه الحالة كانت تعمّ الشعب الفلسطيني بمجمله. كما ان لعلاقة التجاذب والتنافر التي كانت قائمة بين الفتاة وأخيها مقابل لما قام بين االفلسطيني وإخوانه في الدول المضيفة. فهي تحتمي به من المعلّم ومن عوض ومن الناس ومن الاحاسيس التي تعصف بقلبها. وهي تشفق عليه بعد ان صار كبيرا من ان يبيع حياته رخيصة. وهو من جهته يتحسس الامها حتى دون ان تبوح بها وييبكي لبكائها دون ان يدري دوافعها لهذا البكاء . . . وفي زمن آخر يشتري سلاحا ليقضي به عليها. لا تحتاج الصورة الى كبير جهد لاستشفاف العلاقة بينها وبين علاقة الفلسطيني بمحيطه في مطلع الخمسينات . ثم ان الكاتبة تصف الفتاة بانها مرذولة في منفاها إذ طردها النذل إلى الشارع مطعونة الكرامة، سليبة الاباء، وجلى، حيرى، باكية محطمة . . . تعصف بها النقمة وتلاحقها الرزاية الى كل مكان . . . وهناك ، في القرية ، تعلمت أن تحقد وأن تنتقم ، تعلمت ان تصهر بشريتها ، تعلمت أشياء واشياء . فلو اننا استبدلنا كلمة قرية بكلمة مخيم ، ألا يكون ذلك تصوير لحال الفلسطيني يومذاك؟ ! . . .

الخييبة في قصة الى حين"5"
رغم الطابع الاجتماعي الذي تنحوه أقصوصة "إلى حين"، ورغم تركيزها على عيب اجتماعي وتحليل دقيق لظاهرة متفشية في مجتمعنا، إلا أن حيثياتها تحمل معاني فلسطينية، وتكشف عن معاناة عميقة من الالم والمرارة والاسى، وإلا لكانت الكاتبة انجحت الخطة التي حبكتها العمتان ، وجعلت العريس يقع في الشرك. إذ أن ظروفا مؤاتية كثيرة كانت كفيلة بإنجاح الخطة . فالفتاة "حلوة" وابنة "عيله" وحكم الجيرة يجعل الاتصال ممكنا والشاب لطيف وقد استهوته الفتاة. فلو ان نفس الكاتبة لم تكن مشحونة بخيبة عميقة لكانت سارت بشخصياتها غير هذا المسار الدرامي . ولعل قائل يرى مرد هذه النهاية الفاشلة الى فلسفة تعتنقها الكاتبة ، لا الى حالة ذهنية تعيشها. ولكن لو كان الامر كذلك حقا، لكانت القصة سارت مسارا اخر. لكانت الخطوبة تمت، مثلا، أو حتى الزواج، ومن ثم يعقبهما فشل. كما انه لا يخفى ما تحمّله الكاتبة للشخصية المحورية سعاد من أدانة على سلبيتها، فهي تؤمر فتطيع، تخطط لمستقبلها عمتان فشلتا في إنشاء اسرة فلا تعترض. . . ألا يتضمن هذا الطرح إدانة للفلسطيني الذي أسلم أمره للقيادات العربية العاجزة ؟ ! . . . لماذا تغاضت الكاتبة عن رسم ما يدور في خلد الفتاة من مشاعر ـ اللهم إلا تلك الومضة العابرة (فهي في احلامها أجرا منها في الحقيقة ) ـ ثم لماذا اختارت عمتين عانسين للعب دور القيادة في حياة الفتاة ، لماذا غيبت الام مثلا. أليس في تغييبها تمهيد لكسر هارمونية الحدث وجره الى نهايته الدراماتيكية تلك؟ . . ولماذا جعلت العريس وهو شخصية محورية في القصة طالبا، والطالب شخصية لم تتحق استقلاليته بعد، فهو لا يزال عالة على المجتمع ولا يملك حرية القرار؟ لماذا كل هذه الشخصيات العاجزة في القصة ؟! . . . العمتان، العريس، الفتاة، الام المغيبة . . . إن القصة، على قصرها، تؤدي في النفس مثل الاحساس الذي تؤديه رواية الكاتب غسان كنفاني "رجال في الشمس ""6". فمثلما قاد عملية التهريب داخل الخزان هناك رجل عاجز جنسيا ، كذلك كانت القيادة هنا لعمتين فشلتا في تاليف أسرة اسوة ببقية ابناء البشر . العقم، رمز العجز، كان هناك جسديا ، اما هنا فهو نفسي. ومثلما أدَّت قيادة ابي خيزران الى فشل عملية التهريب، كذلك أدت قيادة العمتين إلى فشل الزواج. وحتى لهجة المرارة في نهاية القصتين هى ذاتها. في الاولى انتهى امر المهربين الى كومة زبالة وهنا انتهى أمر الفتاة بالعودة الى ما كانت عليه من أمر مزرٍ قبل بدء الحدث. الفرق الوحيد بين القصتين هو ان الاولى كانت واضحة قي رمزيتها، فأشخاصها فلسطينيون ومأساتهم فلسطينية، في حين كانت شخصيات قصة "الى حين" شخصيات قي المطلق لا تنتسب الى زمان او مكان معينين. ولكن أعماقها الحقيقية تنتسب االى زمن البؤس الفلسطيني، يوم كانت النكبة ما تزال صدمة على الدماغ، تذهل وتحبط وتخلخل الكيان . . . أما لماذا كان القصد في رواية كنفاني مباشرا وهنا لا، فلأن الرواية كانت قد كتبت في زمن متأخر عن القصة بثماني سنوات، أي حين بدأ الفلسطيني يستفيق من صدمته، يقبل الهزيمة ويعترف بها، في حين كانت ولادة قصة سميرة عزام في زمن الغيبوبة، في زمن كان الفلسطيني خلالها لا يجرؤ على كشف نفسه ، كان احساسه بالعار قويا، فهو لم يع بعد حقيقة ما حدث ، وأثر الخطيئة يحمله في دمه كالزانية التي يفضحها امر حملها "7"

صراع البقاء في "عقب سيجارة" "يائع الصحف" و "نافخ الدواليب"
مسالة المعاش مسالة عامة يشترك فيها جميع أبناء البشر وتأمين الكفاية الاقتصادية غاية كل مخلوق على هذه الارض، اذ انها صورة من صور صراع البقاء. وان رفلت بعض المجتمعات في نعيم ورخاء اقتصادي لفترة زمنية ما، فهي مع ذلك لم تعدم وجود حالات من البؤس والبطالة وضيق ذات اليد المذلة احيانا. واذ تكثر مثل هذه الحالات فانما تكثر إبان الحروب أو عقبها حصيلة ما يصيب الفرد من تشرد واكراه على ترك ارضه أو مصدر رزقه فينشأ عن ذلك افواج من الجياع الذين تضطرهم الحاجة الى الاحتيال على معاشهم بشتى السبل. لذلك تكثر مثل هذه الصور في اعمال المجلين من الادباء على مر العصور ، خصوصا في فترات الكساد الاقتصادي. فمن "دافيد كبرفيلد"، الى "البؤساء"، الى "بائعة الخبز"، الى ام مكسيم غوركي الى معذَّبي طه حسين، صور لصراع الانسان مع الرغيف . . . وأدب سميرة عزام مليء بمثل هذا الصراع وهي، كعادتها، تختار نماذجها مطلقة حرة خارج حدود الزمان والمكان. الا ان معرفة بسيطة بخلفية الكاتبة تجعلنا نستشعر ملامحها الفلسطينية ، ولربما، على حد تعبير جبرا ابراهيم جبرا ، طالعة لتوها من احدى المخيمات .
ففي قصة "عقب سيجارة " نرى المرأة مرمية على السرير الفقير تعاني آلام المخاض وزوجها قابع ذليل بعد ان أدّى به فقدان نور عينيه الى خسارة عمله. ألا توحي هذه الحالة التي صارت اليها العائلة المذكورة بحالات مماثلة لآلاف من الفلسطينين الذين كانوا يعانون الإملاق والفاقة نتيجة خسارتهم لأرضهم مصدر رزقهم ؟ ! . . الا يمكن ان يكون فقدان البصر رمزا لفقدان الوطن؟ ! . . . وهؤلاء الصبية الذين يحتالون على معاشهم بجمع اعقاب السجائر واستبدالها بقطع صغيرة من الهريسة، ألا يشبهون اطفال غسان كنفاني أمثال حميد بائع الكعك وطفل المنزلق وطفل زمن الاشتباك ؟ ! . . . كلهم يصارع البقاء وكلهم يحتال على معاشه. الفرق الوحيد هو ان اطفال كنفاني ينتمون الى هوية محددة وأنساب فلسطينية واضحة في حين كان الاطفال هنا اطفالا في المطلق بلا انساب. ولعل في نهاية القصة إضاءة تثبت هذه المقولة، فضابط الشرطة يظهر ليشهد على ماضي الرجل العريق ويزيح عنه تهمة الذل التي الصقت به ( ألا يدعي كل فلسطيني عندما يلاقي نفسه في موقف مهين أنه كان له ماض عريق في وطنه ؟ ! ! . . . )
في قصة بائع الصحف
يتساءل بعض النقاد لماذا لجأت الكاتبة الى هذه النهاية التعسة في قصة "بائع الصحف"، ويعزون الامر الى سوداوية في نفس الكاتبة هي بعض من مرض العصر وواحدة من صفات الشخصية الرومانسية . الا انني من جهتي ارى فيها انعكاسا للقضية الفلسطينية. فبائع الصحف شخص نشيط ممتلئ حيوية، ناجح مخلص لعمله، انتقاه مما يناسب اهواءه، فقد أعرض عن اعمال اخرى كأن يكون بائع امشاط ودبابيس في محطات السيارات، وهو متقن لصنعته يعرف أصولها والطريقة المثلى للوصول الى مبتغاه. كل الدلائل تشير إلى أن الشخصية صاعدة في خط إيجابي، ولربما أخذ القارئ يهيء نفسه للوصول بهذه الشخصية الى نهاية مفرحة، ولكنه لا يلبث ان يفاجأ بانكسار الحدث انكسارا صادما مؤلما. والقارئ المتسرع قد يعتقد ان مثل هذه النهاية لعبة فنية لجأت اليها الكاتبة لتعطي قصتها صفة المميز الذي يثبت اكثر في الاذهان. اما القراءة المعمقة فترى ابعد من ذلك.

لقد اتفق معظم النقاد العالميين ان نفس المبدع كالمرآة تعكس صور الحياة، فهو إذ تقع الاحداث عليه يستقبلها كغيره من البشر، ولكنه لفرط حساسيته ورهافة مشاعره، يكون احساسه بها اشد واعمق ، فتنصهر في داخله ويعيدها الينا بصورة اخرى، تماما كمثل النحلة التي تمتص رحيق الزهر فتحوله الى مادة مغايرة هي العسل. هذا الرحيق هو نفسه العسل ولكن بصورة تختلف عما الفناه نحن. وهذا ما فعلته الكاتبه في هذه القصة، لقد امتصت نفسها نكبة شعبها فصهرتها وحولتها الى شيء مغاير للمألوف، لذلك كان من غير الممكن ان تنتهي هذه القصة نهاية سعيدة، وإلا لكانت الكاتبة في واد وشعبها في واد آخر. ولعل هذه النهاية هي صك البراءة الذي أزاح عنها تهمة الانسلاخ عن شعبها وعدم تحسسها ماسيه، فالاديب الحق هو من كانت اغواره بعيدة، يستطيع ان يحول العادي الى مدهش، وان يأخذ من صورالحياة ابسطها ويعبر بواسطتها عن رؤيا عميقة، وبقدر ما يكون موضوعه بسيطا وعاديا بقدر ما يكون تاثيره افعل، لانه بذلك يكون بعيدا عن الخطابي والمباشر الذي تمجه النفوس عادة. يكون كالموسيقى المنبعثة من زقزقة العصفور تنساب الى داخل النفس على مهل دون جلبة ولا ضجيج .

بهذه الطريقة عبرت سميرة عزام عما جرى في فلسطين عام 1948. وبقالب قصة بسيطة عادية بطلها بائع صحف ولكنه بالحقيقة نموذج تمثل همومه هموم شعب. فالايدي الخفية والترام الاخر الاتي من وراء المنعطف، تصنع له مصيره كمثل ما صنعت المؤامرات الخفية مصير الشعب الفلسطيني الذي كان يشبه عبود باندفاعه وحيويته واقباله على الحياة. فمثلما انكسر الحدث في القصة حدثت النكبة . . يقول غسان كنفاني في قصة رمزية قصيرة "الاخضر والاحمر": كان ماض الى الزوج والولد وجدران اللحم والدم التي كانت دائما هناك، في ايار وفي غير ايار . . . لم يكن يظن لحظة واحدة ان بينه وبين الزوج والولد وجدران اللحم والدم والحب لحظة موت واحدة، واقفة عند المنعطف، مشهرة اظافرها . . . ولم يكن يعرف انها هناك"8". إن ما قالته هذه القصة مباشرة عبرت عنه قصة "الى حين" باسلوب مختلف

الهم الفلسطيني في أدب سميرة عزام

إذا كانت كتابات سميرة عزام الاولية تنحو في ظاهرها منحى اجتماعيا، وتتحاشى الظهور بثوب فلسطيني
واضح، فان هذا الامر بدأ يتغير مع تقدم عمر القضية، وبدأت نماذجها تعلن عن نسبها الصريح. من بين هذه النماذج، ما عالج خاصية الانسان الفلسطيني: موقعه الجديد في هذا العالم ، العقبات التي برزت في وجهه والمشاكل اليومية التي كان عليه ان يعالجها ويتخطاها. ومنها ما عالج مواضيع نضالية وابرز صورا بطولية وقسم آخر تحدث في لواعج الشوق والحنين الى ذلك الوطن المسلوب. وبين هذه وتلك طرحت الكاتبة رؤيتها السياسية ، مقنعة حينا سافرة احيانا اخرى.

معاناة اللجؤ في: "فلسطيني"، "لانه يحبهم" و"عام آخر"
في قصة بعنوان "فلسطيني" "9" من مجموعة "الساعة والانسان"، تعالج الكاتبة هماً عاناه وأحس به معظم الفلسطينين عموما، واولئك الذين لجأوا الى لبنان خصوصا ـ عنيت به مسالة الانتماء ـ فالفلسطيني ـ كونه لاجئا ـ محروم من ابسط الحقوق المدنية، محروم من حق الحصول على عمل ـ اللهم الا ما تؤمنه هيئة اغاثة وتشغيل اللاجئين ـ محروم من حرية التنقل، من جواز السفر، من نعمة المناداة باسم محدد، من نعمة الاستقرار . . .لذا امسى امر الحصول على الجنسية اللبنانية هاجسا يراود البعض. لا لنقص في وطنيتهم ولا انسلاخا منهم عن قضيتهم بل لانها باب يسهل لهم الولوج في المجتمع الجديد ( كما كانوا يبررون ). فاستغل المراوغون هذه اللهفة واصطادوا في الماء العكر. وخلاصة القصة أن فلسطينيا ملّ حالته الشاذة هذه، وأراد التخلص من ادران اللجؤ بالحصول على الجنسية اللبنانية. وقد كان الثمن الذي طلبه ذلك الشخص المتعارف عليه بالسمسار ، باهظا جدا ، ولكنه بعد ان عدد مساوئ كونه لا يحمل جنسية، قرر ان يضحي ببيع قسم كبير من مخزنه، ليؤمن المبلغ المطلوب ثمنا للهوية. وعلق على تصرفه بسخرية قائلا : "ساعلق فيها ( يعني واجهة الدكان) تلك الهوية ، فقد يعرف لنا الناس اسما" . . . لكنه صعق وآلت أمانيه الى سراب بعد عدة اسابيع ، عندما تبين له ان الرجل الذي مهر له الهوية كان مزورا مشهورا وقد القي القبض عليه، فذهبت امانيه ونقوده هدرا

لقد استوفت الكاتبة في قصتها جميع الشروط التقنية التي تواضع عليها المنظرون للقصة القصيرة : وحدة في الزمان والمكان. وحدة في النسيج والبناء. سيطرة الاحساس الواحد. كشف رائع لما يعتمل في داخل الشخصية المحورية. إلا ان جملة واحدة اخرجت القصة من فنيتها واسقطتها في الخطاب الشعاري المباشر : " ستظل حقيقتك مفرغة حتى تملاها بغير الزور ، بغير خديعة المزورين "10" وفي قصة "لإنه يحبهم" "11" تعرض الكاتبة الى الحالة المزرية التي آل اليها الفلسطينيون. فقد دفعت الظروف الصعبة بعضهم الى الانحراف فبرز بينهم اللص والمجرم والبغي. تقول القصة على لسان احد الشخصيات: "في مثل ظروفكم يا صاحبي لا يدري المرء في اية لحظة يمكن ان يصبح لصا" "12"، ولكنها تعود وترد على هذا الادعاء على لسان بطل القصة: "وصفي ليس نذلا . . . كاد يضرب طبيبا لانه رفض ان يكتب تقريرا لامرأة فقيرة يخولها دخول المستشفى . . ليس لصا. . . مساعداته الصغيرة لعمته الارملة وابن خالته العاطل عن العمل تاتي قبل اي حساب في مرتبه""13". وكذلك القول عن "فياض الحج علي" فهو لم يكن مجرما، إلا انه فقد الكرامة حين فقد الارض . . . وكذلك البغي التي احترفت الاثم . . . وبعد ان يستعرض كل هذه المآسي يخلص الى قرار بضرورة حرق مخازن المؤن في وكالة الغوث، لانها برأيه، هي المسؤولة عن الخدر الذي اصاب شعبه وهو يريد لهم ان يجوعوا ليتمرد فيهم اليأس على الرغيف الذليل.

لقد وقفت الكاتبة في بداية القصة وقفة محايدة لا يتعدى دورها دور ساعي البريد الذي ينقل الخبر، فكادت تقنعنا لوهلة بهذا الدور، إلا ان النهاية اربكت القصة واوقعتها بوعظية مباشرة، وبدا الحدث لامنطقيا والعقدة مصطنعة غير مقنعة. وبدت الاسقاطات والشعارات السياسية واضحة مفروضة على سير الاحداث :" انظروا ها انا أدوس دقيقكم بحذائي ،أعفر قدمي بتراب فولكم . . . أعلمكم ان جوعوا ليتمرد فيكم الياس . . . لتكبروا على الرغيف الذليل ""14". أما أسباب هذا السقوط، برأيي المتواضع، فيعود الى الجو المشحون الذي كانت الكاتبة تعيش تحت وطاته زمن القص. وكوني شاهدة من تلك الحقبة، أستطيع ان اتحسس مشاعر الكاتبة والألم النفسي الذي عانته في حينه. لقد كانت الصحف اليومية تطلع وصفحات حوادثها تمتلئ بأخبار الجنح والجرائم، مركزة بالتفصيل الدقيق على جنسية وعمر ومكان إقامة صاحب الفعلة عندما يكون الجاني فلسطينيا. فهذا فلان ابن فلان . . من مخيم كذا . . . قتل . . . سرق . . . اعتدى . . . وكان هذا التشهير المتعمد يؤلم الكاتبة ويؤذي مشاعرها، ولطالما وقفت في حيلتها اليومية موقف المتهم الذي يجهد لدفع التهمةعن نفسه. ولعل هذه القصة هي بالاساس من هذا الباب

الملاحظ في أدب عزام ان العقال ينفلت من يدها عندما يكون الموضوع فلسطينيا مباشرا في حين تبقى مسيطرة على كل خيوط حبكها في غير ذلك . . . هل هو الهم الذي يرخي بثقله على قلبها وعقلها فيخرجها عن فنيتها ؟! . . . أم ان الكاتبة ارادت ان تسخر فنها لغرضها السياسي (الوطني) متخطية كل القيم الجمالية والموازين التي تحكم فن القص، فالموضوع خطير ومصيري ترخص إزاءه كل التضحيات ؟ ! .

يعرف كل من مارس الكتابة الابداعية انه ليتم له عمل أدبي ناجح لا بد ان تكون هنالك مسافة بينه وبين الموضوع الذي يعالجه. ويحضرني بالمناسبة رد للشاعر أدونيس عندما سئل عن موقع زوجته الدكتورة خالدة السعيد في أدبه فقال: انا لا استطيع ان اكتب شيئا عن خالدة انها لصيقة الى النفس فلا استطيع ان اجعل بيني وبينها مسافة تمكنني من رؤياها موضوعا"15". ويعلم كل من عرف سميرة عزام ان فلسطين لم تكن عندها في القلب بل كانت القلب كله. وفي قصة "عام اخر" "16" عرض للمعاناة من جانبها النفسي. تأكيد على حرص اللاجئ الفلسطيني وسعيه الدؤوب لرأب الشرخ الذي أصاب عائلته وذلك عن طريق تصوير لهفة أم لملاقاة ابنتها بعد ان حرمتها لسنوات طوال ووصف المشقة التي عانتها هذه الام في رحلتها من لبنان الى القدس العربية لتحظى بهذا اللقاء. ولكي يستطيع القارئ فهم أبعاد المعاناة في القصة يجب ان يعي الظروف التي كانت قائمة آنذاك والتي تتلخص بالاتي: لغاية ما، كانت سلطات الاحتلال الاسرائلي تسمح لعرب فلسطين المسيحيين المقيمين في الداخل بالذهاب مرة في العام الى القدس العربية لزيارة الاماكن المقدسة خلال فترة عيد الميلاد. وكانوا هم من جهتهم يستغلون هذه المناسبة لملاقاة افراد اسرهم المقيمين في دول اللجؤ والتعرف على احوالهم. وتصور القصة بفنية عالية رحلة الام ومعاناتها للقاء ابنتها التي لم تتمكن من المجيء الى القدس ذاك العام لان زوجها مريض. فتعود مخيبة مكسورة الخاطر. إلا ان الامل يظل يحدوها بامكانية التعويض في العام التالي ."إذا عشت عاما اخر فسآتي اليها زاحفة . . وإذا عاجلتني رحمة الله . . فلن أموت الا بحسرتين حسرة بلدي وحسرة ماري وقبلة على خدها ! "17".

يلاحظ ان الكاتبة تحاشت ما وقعت فيه من وهن في القصتين السابقتين. فلا وعظ ولا حكمة صارخة ، انما انسياب طبيعي للاحداث ورشاقة عبارة تقودنا بهدوء للنهاية المؤلمة وتترك للمتلقي متعة استشفاف الرؤية الخفية التي ارادتها. ولعل اصدق وادق تعليق على هذه القصة هو ما اورده الباحث هاشم ياغي ، يقول: ان القصة غنية بالحياة وفيها استطاعت الكاتبة ان تملأ الجو بحيوية رائعة على لسان بطلتها العجوز (أم عبود) وكانت البراعة من الدقة بحيث انهمرت العجوز بحديثها الذي كان يفيض ملتصقا بالاماكن وايحاءاتها بلا مشقة ولا تدبير عميق منها . "18"

نضال، بطولة. . . في "خبز الفداء"، "الطريق الى برك سليمان" "19"

قد تكون قصة "خبز الفداء " من انجح القصص التي عالجت موضوع المقاومة الفلسطينية عام48. وتكمن قيمتها بتلك المقدرة التي مكنت الكاتبة من سرد الحقيقة التاريخية بطريقة فنية مبدعة: فالأسلوب سلس مكثف بالعبارة الشعرية والصور تتلاحق بتسلسل طبيعي لا مبالغة فيه ولا إدعاء ولا حتى عاطفة مسطحة . . . لا وعظ ولا إرشاد الى ان تاتي النهاية مقنعة على قساوتها. وباختصار، تتحدث القصة عن ضراوة المعركة وعدم التكافؤ بين الفلسطيني وعدوه المدرَّب. كما أنها تؤرخ لمعركة حيفا وما نجم عنها من نزوح وضغوط على المواقع الاخرى. وتمتزج في القصة معاني الحب والبطولة . وقد تكون سميرة عزام من اوائل الذين ابرزوا للمراة دورا إيجابيا في النضال نابعا من قناعاتها الشخصية لا ردّ فعل على حادثة ما أو استجابة لظروف خارجية قاهرة. فسعاد اختارت المقاومة إيمانا محضاً وحاربت كل الضغوط التي وقفت في وجه اختيارها: تمردت على قرار الاسرة ولم يستطع اخوها ان يحملها على النزوح الى لبنان مع بقية العائلة بل قاومته فضربها "ولم تجد امامها الا الفرار . . . إنها آخر من يسافر" . وتخاف الكاتبة ان يساء فهم دوافع بطلتها ، فتوضح: "وانفجرت في وجهه [حبيبها]: "لا ليس بسببك . . صحيح انني أحبك ولكنك لست كل شيء؟ ! ! . . . ""20"
لم ترهق الكاتبة الفكرة بكثير من الشروحات ولم تطلق لبطلتها العنان لتعطي حبيبها درسا بالبطولة والوطنية، بل اكتفت بقول "ولكنك لست كل شيء." فكانت هذه العبارة على قصرها كافية لتقول لنا وللحبيب الشيء الكثير. كما أن القصة تتميز بحرارة وانسيابية الحوار الداخلي الذي قام في نفس البطل. أيسمح او لا يسمح لرفاقه ونفسه ان يتغذوا خبزا مغموسا بدم الحبيبة؟. وقبل ان ينتهي به القرار الى نعم، تكون الكاتبة قد هيأتنا لقبول الامر على صعوبته. "ثم يحمل خبزاتها وبكل الجو الشعائري الذي يقدم كاهن كنيسة شرقية خبز المسيح يقول لهم : كلوا هذا هو جسدي . . . وهذا هو دمي فاشربوا" "21" . رمزية لا يغفل عنها قارئ متمعن رمزية تماهي الفلسطيني الفدائي بالسيد المسيح الذي قدم نفسه على الصليب الذي قدم نفسه فداء لبني للانسان. "في الطريق الى برك سليمان" صورة أخرى من صور النضال الفلسطيني، وفيها تصوير لضغط الظروف على مقاتلي48، الامر الذي اضطرهم الى ترك المعركة والهروب مكرهين. وتسرف الكاتبة في وصف حالة بطلها الذي تخلى عن سلاحه بعد ان سدت جميع السبل في وجهه ولم يعد لمقاومته اي معنى سوى انها انتحار رخيص. فكأنها بذلك ارادت ردا على الاتهامات التي كان يرمى بها الفلسطينيون زمن القص من انهم تخاذلوا وجبنوا وباعوا بلادهم لليهود. وتهيئنا القصة للحدث منذ الجملة الاولى : "كان يدري أنها معركة غير متكافئة ، فرصاصاته رغم حقدها لا تفعل اكثر من ان تستثير زخة دمار جديدة . وكان يدري ان إطلاقها لون من الوان العبث ، فرشاشه ليس أكثر من لعبة اطفال امام القذائف التي تتوالى . . [ رغم كل هذا صمد على امل ان تتغير الظروف] وكانت زوجته تقف وراءه تقوي فيه عزيمة الصمود ، وتحاول ان تغالب هلعها امام إلتماعات القذائف" "22".
يسيطرعلى القصة عجز شامل ممثل باسم القرية وموقعها وصولا الى سقوطها في ايدي العدو: كانت بتر (اسم القرية) ترتمي ضعيفة على كتف الوادي . . . كانت الطريق خالية البيوت، ساكنة كأنها أنصاب في مقبرة أثرية . . . ولم يقرأ صلاة ما فقد اخرسه الحقد ""23" . هكذا الى ان تنتهي القصة بماساوية سوداء، موت الطفل وضياع الزوجة بين الزاحفين الى برك سليمان وانضمام حسن الى جموع العجزة الزاحفين. قد يكون في القصة بعض وهن، إذ يقول قائل : ولماذا ترك حسن زوجته تضيع منه . . لماذا دفن ابنه بسرية وصمت مطبق ثم أكمل زحفه مع النازحين ؟ ! . . إلا أنّ لامنطقية الاحداث التي وقعت في حينه تبرر للكاتبة لامنطقيتها، فكأنها تقول: إذا كان كل شيء قد سرى ذلك اليوم عكس المنطقي والمبرر والمعقول، لماذا تكون حياة حسن غير ذلك ؟ ! . . .ويرى الباحث هاشم ياغي ان سميرة عزام ضغطت على المغزى في هذه القصة. فهي برأيه قد قفزت عن المحطات الطبيعية في مأساة هذا النضال فحولت القصة بذلك الى مغالاة ومبالغة وما يقرب الموعظة. ثم يتساءل لماذا جاءت الشظية بالطفل وحده دون امه وابيه ، ولماذا الاصرار من الزوج على كتمان الامر عن زوجته ثم دفنه دون علمها فيقول: "أحس ان المبالغة وضغط المغزى هما اللذان لعبا دورا في مثل هذه النتيجة التي تكاد تعترض بناء هذه القصة "24".

ناستولجيا ورومانسية لمقاومة النسيان والامحاء

عندما يكون الموضوع فلسطينيا فان لغة سميرة عزام تشف وترق في رومانسية عذبة حتى تكاد تبلغ نوعا رقيقا من التعبد. وتنتهي مجموعتها الخامسة "العيد من النافذة الغربية "بمجموعة من النصوص بعنوان " وجدانيات فلسطينية" "25". وفيها تنطلق الكاتبة مغردة جمال بلادها، مسبحة بمجدها. . ولن يستطيع قلم ان يختصر هذه الصفحات مهما برع. فكل لوحة منها هي اختصار لقطعة من وطن عزيز: "وتسالني عن ربيعنا فماذا اقول ؟ سخاء كيفما تلفتّ وخضرة ولون حتى لكأن الحجر يوشك ان يورق . . . ربيعا يأتيك محمولا على غمامات من أريج البرتقال، قداح ابيض يتنفس في حنايا البيارات" "26". وعن جبال بلادها تقول : "على مدارجها السمر تنعقد أعياد الكرمة ومواسم الزيتون والرمان والمشمش . . . هواء يحمل لك العافية وبلدان وقرى رشت كيفما اتفق للناس ان يجتمعوا على رزق او جمال . . . "27". وعن حنين الاحباب للاحباب تقول: "على البوابة اللقاء . . . فرحة شحيحة كبرق صيفي ، يوم منتزع في غفلة من الايام" "28".
لن اجهد هذا البحث بالامثلة على شاعرية هذه النصوص، فالمجموعة متوفرة في معظم المكتبات العربية العامة. وحتى بعض الاجنبية: أقله مكتبات بانكستون ومكتبة فشر التابعة لجامعة سدني

سميرة عزام في راي معاصريها
رغم ان الدراسات التي تناولت ادب الكاتبة قليلة ومتسرعة، إلا انها، في مجملها، سواء كانت تعليقا في صحيفة او دراسة اكاديمية، كلها اجمعت على اعتبارها اديبة رائدة في مجال القصة القصيرة. يقول الباحث سهيل ادريس في معرض تعليقه على مجموعتها "اشياء صغيرة ": "ينهض فن سميرة عزام في هذه المجموعة على قوة ايحاء في خلق الجو النفسي، وتبلغ المؤلفة في عدد من الاقاصيص درجة رفيعة من التحليل تشهد بان موهبتها القصصية عظيمة الامكانات . . . يرفدها في ذلك اسلوب حي مشرق فيه اختيار وصناعة، ولا اقول تصنع، وعصبية وموسيقية " "29". وفي معرض دراسة عن القصة القصيرة في فلسطين والاردن يقول هاشم ياغي: إن هذه المجموعة (الظل الكبير) تدل بوضوح على ان كاتبتها ممن يحترفون فن القصة احترافا ويعرفون ابعادها معرفة علمية خصبة، وهذه المجموعة تدل على ان قدم كاتبتها أرسخ منها في مجموعتها الاولى ، مع ان مجموعتها الاولى "اشياء صغيرة" تدل ايضا على مستوى رفيع في فن القصص وبناء احداثه "30". أما الشاعر ابوسلمى فيقول : "لا أدري إذا كانت هنالك قاصة عربية تجاري سميرة عزام في قصصها الرائعة، إشراق عبارة وسمو فكرة ووضوح لوحة ورشاقة ريشة وحرارة عاطفة ورهافة احساس" "31". في حين يرى رجاء النقاش ان الحقيقة الاجتماعية والانسانية والوطنية واضحة ساحقة الوضوح في كتاباتها . وهي برايه استطاعت ان تقرأ نماذجها فتحسن . . . "كانت سميرة عزام تحمل في قلبها مأساة فلسطين سواء عبرت عن ذلك مباشرة او عبرت عنه بطريقة غير مباشرة " "32"، ويقول في مكان اخر : "ادب ميرة عزام ادب ثوري ." "33". . .

سميرة عزام المناضلة

لم تكن سميرة عزام من تلك الفئة التي لحضورها صخب وجلب بل كان عملها صامتا يتوخى الفعل لا رنينه . هي واحدة من مؤسسي التنظيم السري (ج ت ف ) الذي كان يعمل بين لبنان والاردن لتوعية الاجيال العربية وتهيئتها لخوض معركة التحرير وقد تتلمذ في مدرستها الوطنية العديد من شبان وشايات فترة الستينات وهي : "العربية الفلسطينلة الصميمة ـ الودودة قلبا، الصلبة موقفا ـ والتي لم يذكرها احد في تاريخ نضالنا مع أنها أوّل من أسهم في تاسيس وتشكيل تنظيم فلسطيني . . "34"
كان لها مدرسة وطنية متميزة عما كان سائدا في الاوساط الفلسطينية في تلك الحقبة. لقد قاومت بشدة تلك الاقليمية التي تدعي ان فلسطين لا يحررها الا ابناؤها . وآمنت أنّ الصراع مع اسرائيل هو صراع بين حضارتين. لذا فمعركة فلسطين هي معركة كل العرب ، وما الفلسطينيون إلا جزء طليعي منها. كانت تدعو الى العقلانية والتكتم في العمل النضالي، وقد ادانت نشرات تنظيمها السرية انطلاقة شعلة الكفاح المسلح في حينه، إلا ان التيار العاطفي الذي واكب الانطلاقة اخمد مثل تلك الاصوات، بل ذهب ابعد من ذلك فخوّنها. . . من تعاليمها السياسية الدعوة لتامين الجوار قبل البدء بالمعركة ، وبرأيها لا يمكن ان تبدأ حركة مقاومة ناجحة ان لم يكن لها حكومات وطنية مساندة .

حاولت سميرة عزام ان تتجلد بعد نكسة حزيران وتظهر لمن تتلمذوا عليها، تفاؤلا وإيمانا بالمستقبل. هذا ما كانت تنطق به الشفاه، اما ما كان يبطنه القلب فقد أدى به الى الانفجار. كانت سميرة عزام في طريقها الى الاردن للاتصال ببعض مجموعات تنظيمها السري هناك فوافتها المنية في الطريق . . . " لم تمت سميرة بداء او مرض وإنما ماتت نتيجة الجرح النازف من خاصرتها ، وماتت لأنها عربية [صميمة]تحمل في قلبها هموم الامة كلها وكان تعبها الشخصي هو حلمها الكبير في ان ترى أمتها منتصرة ، وان ترى الوحدة حقيقة والانسان حراً . . . والليل قد ازاح سدوله عن رؤوسنا وقلوبنا. " "43".

هوامش

  1. سميرة عزام ، الساعة والانسان ، الغلاف ، دار العودة ، ط : 2 ، 1982، بيروت ـ لبنان (سيعتمد البحث هذه الطبعة في جميع إشاراته اللاحقة .
  2. انت الكاتبة تعلن عن رايها هذا في مجالسها الخاصة والعامة . وهي ليست معتقداتها الشخصية فقط بل معتقدات الحركة السياسية التي كانت هي واحدة من مؤسسيها . وهي موجودة في نشرات الحركة الداخلية ل (ج ت ف )
  3. التعبير مستوحى من قراءة نقدية لجبرا ابراهيم جبرا في ادب غسان كنفاني .
  4. سميرة عزام، أشياء صغيرة، دار العودة ، ط : 2 ، 1982، بيروت ـ لبنان، ص : 7 - 25
  5. مصدر نفسه ، ص : 29ـ 39
  6. غسان كنفاني ، الاثار الكاملة ، الروايات ، ص : 37ـ 152، ط: 3 ، 1968، مؤسسة الابحاث العربية، بيروت ، لبنان
  7. أشياء صغيرة ، مصدر سابق ، ص : 49، 91، 99 .
  8. غسان كنفاني ، القصص القصيرة ، مصدر سابق ، ص : 354
  9. الساعة والانسان، مصدر سابق، ص: 83
  10. مصدر نفسه، 92
  11. مصدر نفسه، 5
  12. مصدر نفسه، 12
  13. مصدر نفسه، 7
  14. مصدر نفسه، 25
  15. جريدة النهار الاسترالية ، عدد ، 7 ـ 1ـ 97 ص: 13
  16. سميرة عزام، الظل الكبير، دار العودة ، ط : 2 ، 1982، بيروت ـ لبنان، ص: 69
  17. صدر نفسه، 77
  18. هاشم ياغي، القصة الفصيرة في فلسطين والاردن، ص : 282 ، ط: 2 ، 1986، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ـ لبنان
  19. وقصص اخرى ، مصدر سابق ، ص : 37 ، 32
  20. مصدر نفسه ، ص : 85
  21. مصدر نفسه ، ص :92
  22. مصدر نفسه ، ص :26
  23. مصدر نفسه ، ص :23
  24. هاشم ياغي ، مصدر سابق ، ص : 192
  25. سميرة عزام، العيد من النافذة الغربية، دار العودة ، ط : 2،، 1982، بيروت، ص: 93ـ 143
  26. مصدر نفسه ، ص: 39 ، 831 ، 901
  27. سهيل ادريس ، مواقف وقضايا ادبية ، ص : 201 ، دار الاداب ، ط : 2 ، 1891، بيروت ، لبنان
  28. القصة القصيرة في فلسطين والاردن ، مصدر سابق ، ص : 179
  29. مجلة الاداب ، عدد : يناير ، 68 ص:43
  30. مصدر نفسه، ص: 36
  31. مصدرنفسه، ص: نفسها
  32. هامش (١)
    -# هامش (١)
مناضلة آلمها حزيران حتى الموت ومبدعة غفت عنها الدراسات

مشاركة منتدى

  • هذه مقالات جميلة ورائعة

    • يقال ماتت بحادث سيارة
      الله اعلم

    • شكراً لمروركن الكريم على هذه القالة

      سميرة عزام كانت أماً روحية لي وللكثيرات من بنات جيلي. كانت مثلنا الأعلى في الوطنية والإبداع الملتزم. انا أعرف معرفة جازمة ومطلقة ولا شك في صدقها أن سميرة عزام ماتت بالسكتة قلبية في الرمته على الحدود الأردنية. وكانت في طريقها إلى الأردن للملمة شتات تنظيم طريق العودة الذي أصابه تزعزع نتيجة هزيمة حزيران المروة. وانا أعلم علم اليقين أن سميرة عزام لم تكن تشكو اي مرض عضوي. كانت محبطة جداً بعد هزيمة حزيران.
      أرجو ان أكون أشبعت فضولكن الجميل سيداتي العزيزات

    • شكراً لمروركن الكريم سيداتي العزيزات

      ماتت سميرة عزام بالسكتة القلبية نتيجة ضغط هزيمة حزيران على نفسها ا

      كنت قد التقيت بها قبل موتها بأيام قليلة. كانت تجهد كي تخفي توترها وتحاول أن تبدو متفائلة ولكن لغة جسدها: ابتسامتها الحزينة نظرتها الحائرة وضغطها المبالغ فيه على عصاها التي كانت تستعين بها على المشي لخلل في رجلها اليمنى، كان يفضح قلقها

  • إنني منذ فترة أقرأ عن هذه الإنسانة المتميزة... وأقوم بعمل بحث عنها...لم أكن أعلم عنها شيئا وعندما علمت وقرأت أحببتها وأحببت أدبها..وشخصيتها.. إنسانة عالية الهمة حاملة لهم الأمة...إنها فلتة أرجو أن تتكرر... إنسانة بكل معنى الكلمة..مناضلة.. شاعرة.. أديبة.. مرهفة الإحساس..عربية.. بل تقول عن نفسها:
    "عربية أنا حد التطرف ... و مسلمة حد التصوف .." مع أنها كانت مسيحية.. أدعو الله أن تكون قد أسلمت قبل موها...
    لقد بكيت وأنا أقرأ هذه المقالة...إنها إنسانة تستحق كل التكريم...طيب الله ثراها..

    • اريد أن اسئلك هل لديانة مكان في حكمنا على الشخص ؟؟؟
      من الممكن ان تكون مسلمة لا علاقة لها بالاسلام والدين والتسامح!
      والوطنية الفلسطينية ليست محصورة على المسلمين فقط
      ملاحطة أنا فتاة مسلمة متدينة .

    • الأخت فاتن... نعم قلت إنني أعجبت بها إعجابا شديدا ولم أترك البحث عنها ولا عن قصصها مع أنني لست مغرمة بالقصص لكنها حببتني في القصص..وأعلم أنها مسيحية وأن عندها التزام بمسيحيتها وهذا لا يقدح فيها في شيء..فالملتزم شخص مطلوب في كل عصر وليس المتعصب.. ولكن ثقافتها عربية إسلامية..
      ولكني من حبي وإعجابي بها تمنيتها مسلمة..ولعلك فهمت قصدي الآن....ولكن هذا لا يقدح من أدبها في شيء كما قلت سابقا ولا في شخصيتها الفذة..أكثر الله من أمثالها..وكم من المرات بكيت وأنا أقرأ عنها..وبكيت من تعليق الدكتورة نجمة حفظها الله حين قالت أنها أمها الروحية وكيف ماتت وماذا قالت لها..

    • أختي فاتن.. لم أستطع أن أكتب ما أريد في رد واحد بسبب التحديد..شيء آخر لعله خطأ مطبعي يحصل مع الجميع..وهو :كتبت أسئلك..والصحيح "أسألك" بحيث تكون الهمزة على ألف وليس على نبرة لأنها مفتوحة وما قبلها مفتوح...مثل: مئذنة بكسرالميم تجعل الهمزة على نبرة، بينما نكتب مسألة .. ولو كانت مئذنة مفتوحة الميم لكتبت مأذنة كما كتبتها سميرة عزام..
      لذا أفضل أن أقرأ النص قبل إرساله حتى أقلل الأخطاء قدر الإمكان

  • الأخت فاتن..ومن ثقافتها الإسلامية..قولها في إحدى قصصها..
    يا ابي حدثني عن هذا المسجد الذي تظل تذكره.. قال ماذا اقول؟! مأذنة - الصحيح مئذنة لكنها كتبتها هكذ- عالية ينتشر
    منها في كل فجر صوت يعلمك ان تحب الله.. ويملأ نفسك خشوعا
    لمولد نهار جديد. صوت المؤذن يقع في الفجر نديا مأنوسا في آذان السامرين )الصلاة
    خير من النوم( ومع صوته تدب الحياة في مدينتي، يتحرك الخبازون والكسبة وتتناغم
    اصوات باعة التمرية في اصابيح الشتاء... ثم تبدأ خطوات العمال تدب على الطريق
    المرصوفة يسعون الى حيث كتب لكل منهم رزقة.."
    وغير ذلك كثير

  • سلام علیکم
    هل بامکان أحدأحدکم إرسال بعض قصص سمیرسمیرة عزام?
    لقد شكلنا في الآونة الأخيرة صفوف تعليم الغة العربية و في حصة الأدب العربي نتداول بعض أعمال روائع الكتاب و قد وصلنا إلى سميرة عزام
    نظرا إلى وجودنا خارج الوطن العربي و هي الاحواز يصعب علينا الحصول على بعض الروايات ...قرأنا و درسنا قصة الساعة و الانسان و لم نحصل على قصة أخرى ...
    و شكرا لكم

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى