الأربعاء ٢٦ أيار (مايو) ٢٠١٠
بقلم زهير الخراز

ضجر وحجر 

في حصن حصين.. في ركن نسجته رتيلاء عجوز.. في قلعة يسكنها جن معتوه.. وأنت منغرس وسط بقايا السجائر وزحام أوراق ممزقة، منتصبا في غطرسة وكبرياء كرجل لا يهاب الظلام تحوم حولك نهود ورؤوس من حجر وخشب.. تمزق الكلمات تحيلها إلى مخلوق مشوه، فتحصل على أجنة بشعة من الورق الأبيض، الجن المعتوه بجانبك يداعب أوتار الرباب فيخلق لحنا شجيا قديما قدم السماء.. يلدغك من حين لأخر بدبوسه الرفيع.. يغيضك كثيرا ويحرضك على رمي القلم بعيدا.. ثم يحثك على تقديم القربان لنصب السيدة«ح» لكنك تمانع فتكثر من أعقاب السجائر، وتجهز بأنفاسك الشيطانية على كلمات لم ترى النور بعد.. وحدها السيدة «ح» استطاعت أن تنجو بأهدابها السوداء من نقمتك على جنس الورق الناعم.. هي الآن تتوسط رفوف الكتب، نائمة في إطارها الأزرق.. تنتظر خطابا من فنان يسكنه جن معتوه و» المفارقة شاسعة بين تمثال من حجر وصورة غنية بألوان زاهية «وها أنت تتذكر رغم مقاومتك الشديدة رأيها الصارخ في أعمالك الحجرية الباردة» تلك التي تصيب الناظر إليها بالزكام «رأي حكيم قاصر لكنه يثير فيك الهذيان.. وها أنت تنهض منفعلا تكسر القلم، تقذف به بعيدا، فيستقر على ظهر كتب صفراء.. يتقيأ القلم وتمتص الكتب بقعه السوداء. 

يغزو قلب «الجن» لذة الانتصار فيصرخ صرخته البلهاء ثم يقذف بدبوسه الرفيع عبر النافذة يسقط على ذيل قطة حمراء تصرخ القطة من الألم فتقفز من مكانها هلعة، ثم تبدأ في خدش مؤخرة الدبوس بمخالبها الصغيرة، والسيدة «ح» في إطارها الأزرق تنظر إليك بنصف ابتسامة، والى الأبد لن تتغير في موازين العالم شيء.. نفس الابتسامة الغريبة.. نفس النظرات الساذجة، ونفس الأنين الصادر عن القطة الحمراء. وثلاث سنوات انقضت في عتاب وخلاف مع امرأة لا تتذوق فنون الجنون.. وها أنت ملتصق بجنب النافذة.. تسبح في دوامة هذا الليل اللامتناهي وكأنك على موعد مع كائن من كوكب بعيد كي يريحك على خصلات شعره ذي اللون الغريب. 

 أراك تفر من الليل في تردد مضحك.. تبحث عن قلم بديل.. وتهمس بكلمات خافته «لتكن المحاولة الأخيرة» وها أنت تثير غضب الجن المعتوه فيصفع وجهه ويجيد البحث عن دبوسه الرفيع لكن القطة الصغيرة تكون قد أحالته إلى غبار بمخالبها الصغيرة.. ينتفخ وجهه من الغضب فيصبح خانقا: «أف.. حتى القطط يصيبها الضجر.. يا للضجر..» وأنت ذلك اللامبالي الذي لا يكترت بما يحدث حوله.. تتعجل الكتابة للمرة السادسة بعد المائة.. تنفض الورقة، وتضيق الخناق على قلمك التعس بأصابعك المجنونة.. آه لو كانت السيدة «ح» تجيد عزف أنغام الجنون مثلك!.. لو أنها صدقت هذيانك يومها وقالت بمليء فمها:«أصدقك.. ليس غريبا.. ليس محالا أن ينطق تمثال من حجر!..»

لو كان قد حصل ذلك لتغيرت الآن موازين العالم.. لكنها رفضت وبشدة عنيدة الانسياق لجنونك الجميل.. أو تراها متمنطقة إلى أقصى هذا الحد؟ والآن ليس لك من خيار سوى أن تعلن حربا تجاه كل كائن يسخر من رأي فنان.. ضيق الخناق على قلمك.. وانفض الورقة البيضاء جيدا.. ثم اكتب.. اكتب باسمي أنا.. باسم ساحر رأى في السيدة «ح» طفلة كبيرة.. لكن ليتها كباقي الأطفال.. وإنما ساحرة تطاولت وسرقت وجه طفلة جميلة.. 

أكتب: «أنت.. السيدة «ح» المتواجدة على هامش المدينة.. المفتونة بمداخنها السوداء.. أنت يا من تجيدين الفرار، والتحول المرعب.. إليك أوجه خطابي.. ربما كان آخر خطاب..» سيدتي «ح»: هو ذا نصبك الآن يتثاءب وسط قلعتي المنيعة كهيفاء تجسد بدء الخليقة.. ملامح يلفها الضباب.. والجسد سافر. وأنت بعيدة عنه يبدو أكثر غرابة. أقسم لك أن رائحة أنثاه تزكم أنفي بشذاها النفاذ.. اعترف لك، أنها كتلة من حجر مصقول بعناية.. ودم أصابعي الجريحة قد أخذ مجراه على بشرته البيضاء..لكن الحياة يا سيدتي «ح» تدب في هذه الكتلة باستفزاز كبير.. أراك تبتسمين كما جرت العادة.. لكنك سيدتي قاصرة عن التقاط أسرار الحجر والألوان الحية.. فأحمر الشفاه لون ميت.. وأصباغ أظافرك الطويلة تلوث البصر..

«هو ذا نصبك الآن بخريطة وجهه المطموسة، في انتظار ملامح أكثر ثباتا واستقرارا، لكنك نموذج عنيد أبى إلا أن يحتفظ بأقنعته الكبيرة المتنوعة، بل الزائلة.. وإني سيدتي لطامح في اقتناء نموذج لطيف يجسد الكمال والثبات.. يحفظ ماء وجهك وينتشلك من عالم الانفصام الرخيص..»

أرى الجن المعتوه يهمس فوق رأسك.. يضجرك.. فتمزق الخطاب السادس بعد المائة، تحتضن رأسك الساخن بين يديك الباردتين وتعلن الامتثال لانفصامية السيدة «ح» وان كانت ملامح نصبها لم تنبت بعد. 
 


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى