الجمعة ١٤ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٢
بقلم حوا بطواش

عائدون الى الرّوضة

"أرجوك، لا تطلبي مني ذلك مرة أخرى." تذمّر زوجي. "أنت تعلمين أنني أكره الذهاب الى هناك."

أمسكت بيدي الدعوة التي تلقيناها منذ عدة أيام الى اللقاء التمهيدي لابنتنا في روضتها الجديدة.

"وهل تظن أنني متشوّقة للذهاب الى هناك؟ ولكن لا خيار لدينا. يجب أن يذهب أحدنا الى هناك."

"اذن، اذهبي أنت."

"قلت لك يجب أن أذهب مع أختي الى المستشفى لزيارة صديقتي التي ولدت بنتا بالأمس. لا أستطيع أن أذهب."

"أنا أيضا لا أستطيع. أنا آسف."

"لماذا تفترض دائما أنني من يجب أن يذهب الى هناك في كل مرة؟" أرَيته الورقة التي بيدي. "مكتوب هنا) : أولياء الأمور الكرام...) أذكرك أن أولياء الأمور هم الأب والأم. لماذا يجب على الأم دائما أن تذهب الى مثل هذه اللقاءات؟"

"الكل هناك سيكون من النساء. المعلمة، المساعدة، أولياء الأمور... لا أحد من الرجال في القرية يذهب الى هناك."

"بل هناك من يذهب وقد رأيتُ ذلك من قبل. لا شك عندي أنه سيأتي أب واحد أو اثنان. لا تخَف. لن تكون وحدك، يا حبيبي. إهدأ قليلا. مم أنت خائف؟"

"لست خائفا ولكنني لست مرتاحا. افهميني."

الحيرة طوّقت ملامح وجهه واستولى الإرتباك على حركاته. تعجّبت. ماذا يقصد بكلامه؟ لقد ذهبت بنفسي دائما الى كل اللقاءات التي تدعو اليها المدرسة او الروضة أولياء الأمور، ولم يذهب هو الا مرة واحدة او مرتين. فما الذي حصل في تلك المرتين حتى يرفض العودة الى هناك مرة أخرى؟ ثم تذكّرت المرة الأخيرة التي كنت فيها في لقاء في روضة ابنتي قبل ثلاثة أشهر فقط في حفلها الختامي.

قلت له خلال تفكيري: "اهه... فهمت."

ودون أن يسأل ماذا فهمت قال ممتنّا، كأن صخرة أزيلت عن ظهره: "شكرا لك يا حبيبتي."
واختفى من أمام وجهي بسرعة.

إنه على حق، فكرت. لن يكون ذلك مريحا... بالنسبة لرجل.

أجّلت موعد زيارتي الى صديقتي الى اليوم التالي، وذهبت مع ابنتي الى الروضة. لم يأتِ الكثيرون من أولياء الأمور الى هناك. كان من الواضح أنهم لم يعلموا باللقاء اذ أن الدعوة وصلت عن طريق البريد خلال الأسبوع الأخير من شهر رمضان، حيث لم تعُد بالناس قوة ولا اهتمام أن يذهبوا الى البريد ليجدوا مزيدا من الضرائب التي يجب أن تُدفع، مزيدا من المال الذي يجب أن يُنفق في مثل هذا الشهر، شهر الصوم، الذي ينبغي حسب كل منطق أن تقلّ فيه النفقات على الأكل، ولكن ذلك ما لا يحدث في الواقع. أضِف الى ذلك أننا على أعتاب عيد الفطر السعيد، والعودة الى المدارس بارزة تماما في الأفق، مهدّدة، مخيفة.

جلسنا على الكراسي الصغيرة حول الطاولات. الأولاد رسموا على الأوراق، لعبوا بالألعاب أو تنقّلوا بين زوايا الروضة المختلفة. توجّهت مع ابنتي الى زاوية القراءة لمشاهدة الكتب. ثم جلسَت ابنتي الى الطاولة وأخذت تقلّب صفحات كتاب عن الحيوانات أثار اهتمامها. بعد قليل من الوقت، دخلت بنت علينا، الوحيدة التي جاءت مع كلا والديها، وليس مع أمها. انتبهت الى الشبه الكبير بينها وبين أمها، التي كانت تقريبا في نفس عمري، محامية ناجحة. لمحت أباها واقفا لدى العتبة، يراقب. لا بد أنه أيقن أن لا مكان له هناك، إذ ذهب تاركا ابنته وحدها... معنا.
جلست البنت معنا الى الطاولة وابتسمت. ثم مالت ببصرها الى الكتاب الذي أمسكته ابنتي وبادرت بإخبارنا بلهفة أنها كانت في حديقة القرود وتحدّثت عن شيء ما رأته هناك، أو حدث هناك، لست متأكّدة أنني فهمت كل ما روَت، أو ربما لم أكن مهتمة كثيرا. لا أدري. ولكنني سألتها: "أكنت خائفة؟"

فقالت: "لا، كنت مرعوبة."

اندهشت من تلك البنت الصغيرة التي في نفس عمر ابنتي، والتي سبق لها أن زارت حديقة القرود (التي نخطط أنا وزوجي أن نزورها مع الأولاد منذ عامين) والتي باتت تميّز بين أن تكون "خائفا" و"مرعوبا". متى تعلّمت كل هذا؟

أخيرا، جلسنا بشكل دائرة على تلك الكراسي الصغيرة، نصغي الى المعلمة التي أرادت الترحيب بنا وقول بعض الكلمات بمناسبة افتتاح العام الدراسي الجديد. أمامي جلست أم أحد الأولاد التي يبدو أنها لم تتوقع ولا خطر على بالها، أو ربما لم تبالِ على الإطلاق (لا نستطيع أن نجزم بالأمر) أنها ستضطر للجلوس على هذا الكرسي الصغير أمام الجميع، فلو أنها علمت بذلك مسبقا ربما لم تكن لتختار لبس تلك التنورة القصيرة التي تلزمها للحفاظ على رجلين ملتصقتين طوال الوقت، دون أن تفلح بذلك. بدت أنها تشعر بالملل وتأفّفت بضجر بين دقيقة وأخرى.
ألسنا نستذكر أحيانا أشياء سمعناها أو رأيناها في صغرنا؟ مثل تلك اللحظات تذكّرني دائما بما قاله جدي، رحمه الله، (وأغضب بذلك العديد من الناس) قبل ثلاثين عاما، حين كان إمام قريتي. في ذلك الوقت، لم يكن من المقبول في قريتي أن تلبس المرأة بنطلونا، بل تنورة فقط، طويلة كانت أم قصيرة. بضع بنات شابات فقط، جريئات ربما أو ربما متمرّدات، بدأن بلبس البنطلون بدل التنورة. فاسيقظ السؤال: هل يجوز حسب ديننا الإسلام أن تلبس النساء البنطلون؟ فكان جواب جدي: "لبس البنطلون مع بلوزة طويلة أفضل من لبس التنورة القصيرة". اليوم، إذ لا تحتاج المرأة في قريتي الى الجرأة ولا التمرد حتى تلبس البنطلون، أستطيع أن أفهم تماما ماذا كان قصده.

تأملت حولي قليلا. لم يكن أب تلك البنت الصغيرة موجودا بعد في الروضة.

انتهى الإجتماع.

غدا يعود الأولاد الى الرّوضة والى المدرسة بعد طول عطلتهم التي أرهقتنا. نعود لنوقظهم باكرا في الصباح، نحثّهم ليستعجلوا غسل وجوههم وتناول فطورهم وتنظيف أسنانهم ولبس ملابسهم وترتيب شعراتهم وانتعال أحذيتهم... لنبعث بهم الى ذلك المكان الذي نعرفه ونجهله في ذات الوقت، مكان لا نعرف تماما ما يفعلون به... وما يفعل بهم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى