الجمعة ١ آب (أغسطس) ٢٠٠٣
رواية من أدب السجون

عاشق من جنين ـ الحلقة الرابعة والأخيرة

رأفت خليل حمدونة ـ سجن نفحة الصحراوي ـ فلسطين

طلبت أم خليل يد خمس فتيات من أهلهن علي التوالي ، إلا أن الجميع قدم اعتذاره ومبرراته غير مقنعة لم تكن أم خليل متفاجئة من تلك الأعذار ، وتقرأ ما يخفونه من تخوف .

ذهب خليل لبيت صديقه محمود ليشكره علي وقفته الرجولية معه خلال اعتقاله ، طرق الباب وإذا بفتاة كالبدر في ليلة كماله تفتح له الباب ، لم يعرف خليل من تكون هذه الأميرة الساحرة الجميلة .

أخفضت الفتاة نظراتها خجلاً فسألها عن أخيها ، استقبل محمود صديقه بالمزيد من الترحيب ، صارح خليل صديقه بألمه ونظرة الناس إليه ، وتساءل : هل هذا جزاؤنا يا محمود ؟ فهل العيب أن نجود بأعمارنا وشبابنا وتعليمنا ، ونضحي بالغالي والنفيس ، وبكل ما نملك علي حساب مستقبلنا وسعادتنا وأهلنا دفاعاً عن الدين وتراب الوطن وكرامة الناس ثم تكون مبررات رفضهم الحقيقة للارتباط بنا خوفهم من دخولنا السجن ، فهل يا صديقي نحن عشاق للعذاب كما يظنون ؟ أم أن هنالك من البشر من يتمنى أن يكون في السجن ، فنحن يا محمود نعذب أنفسنا ليرتاح الناس ، ونحرم من الحياة ليجدوا فيها متاعهم ، ونتحمل قسوة السجان لحفظ كرامتهم حرياتهم ، هل هذا جزاؤنا وهل نحن منبوذون لهذه الدرجة ؟ قاطع محمود خليل وقال : استهدِ بالله يا صديقي ، فالناس تفخر وتتشرف بنا وتحبنا وتقدر لنا تضحياتنا وحرماننا فنحن في نظرهم أبطال ، ومن يرفضك يخسرك ولا يستحقك ، فالذي يضحي بعمره وشبابه وسعادته لأجل الناس ، يكون أكثر تضحية للمحافظة علي زوجته وأولاده والخوف عليهم والتفاني في تحقيق السعادة لهم .

ابتسم محمود في وجه صديقه وقال : إذا نحن خطبناك يا خليل فهل تقبل بنا ؟

تفاجأ خليل من عرض صديقه ولم يصدق ما سمع وتلعثم في الكلام وقال : هل تعني ما تقوله يا محمود ؟

نعم وأعيده وأؤكده .

فقال وبِمَن ؟

بأختي سهام التي فتحت لك الباب عند حضورك .

وما الذي يضمن موافقتها وموافقة والديك ؟

قال محمود لن أدخر جهداً وسأرد عليك .

عاد خليل من بيت صديقه مُحلّقاً في السماء ، لم يشعر بخطوات قدميه علي الأرض ، فلقد مسحت سهام من ذاكرته كل الصور ، شعر وكأنه وُلد من جديد ، فحمد الله على قدره الذي كان يجهله ، وأدراك أن الله كان يخبئ له ما هو أجمل وأفضل وأرقي .

وقصد بيت جده الذي صارحه بالأمر ، سُعد الحاج أبو حسن بموقف محمود وقال : ما فعله صديقك هو أصل الدين وقمة الأخلاق وأروع الأمثلة يا جدي فبارك الله فيه وفي أصله وتربيته وأهله ، فلقد كان لله خير صديق ومعين .

كانت أجمل اللحظات وأسعدها يوم أن حضر محمود وأبلغ خليل أن الفتاة والأهل موافقون عليه ، وبإمكانه الحضور مع أهله ليطلبوا يدها من والده .
استقبل أبو محمود عائلة أبى حسن والشيخ حافظ وأبا إبراهيم والحاج مصطفى ، الذين طلبوا يد سهام لابنهم .

وافق الطرفان علي المهر وكل التفاصيل وموعد الفرح، لم تم أيام طويلة حتى تزوج خليل من سهام ، التي كانت تخفي وراء خجلها كل الحب والعطاء والوفاء والتضحية ، فساندت زوجها وتفهمت ظروفه ، فحّولت بيته إلى واحة من السكينة والمودة والرحمة والسعادة أكمل خليل دراسته الجامعية وتوظف وبنا بيتاً جميلاً متواضعاً بمساندة زوجته التي باعت ذهبها ومعونة أهله وبعض المدخرات من عمله .
مرت السنون سريعة علي الزوجين وهما يعيشان في قطعة من الجنة علي الأرض ، فعوض الله خليل عن سني عمره التي ضاعت وعن عذاباته وتضحياته ، وعن المال الذي سامح به وعن ليلي بألف ليلي في سهام ، فرزقه الله بطفلين رائعين وجميلين .

تقدم لليلى قريب لها من المدينة ، فتودد لها ولعائلتها ، فطلب منهم قرضاً من المال ، بحجة إكمال مشروع سيؤمِّن فيه لابنتهم مستقبلاً جميلاً .

وبعد أقل من سنة من فترة الخطوبة اكتشفت أن هذا الشخص يـأخذ الأموال لينفقها علي شرب الخمر وتعاطي المخدرات ، طلبت منه ليلي أن يطلقها فوافق بشرط إعادة المهر وكل النفقات التي أنفقها في فترة الخطوبة ، والمسامحة في كل الديون التي اقترضها منهم.
أشفق خليل على حال ليلى وما تعرضت له من أزمة ، ولم يكن في وسعه إلا التدخل لوضع حد لهذا السكير فذهب بصحبة محمود إليه وطلب منه أن يطلق دون شرط .

تراجع خطيب ليلي عن المطالبة بالمسامحة في الأموال التي اقترضها والنفقات التي أنفقها أثناء الخطبة وأصر علي تحصيل المهر ، والذي رأي خليل ومحمود أن هذا حقه الذي تنازل عنه سابقاً بمحض إرادته .

خجلت ليلي من نفسها وشكرته على موقفه ورجولته وتذكرت معاملته معها وكرمه .

نسي خليل ليلي التي لم يقصِّر معها ، وبقيت هي تراقبه وتراقب سعادته مع زوجته وأبنائه فلا تملك في قلبها إلاِّ الندم والحسرة .
حضر خليل لزيارة جده الذي اشتاق له ، فوجده في قمة الغضب .
ما ذابك يا جدي ؟

أجاب الجد وهو يرتجف في صباح الغد ستُدنَّس باحة المسجد الأقصى بقدمي يهودي صهيوني .

قال خليل : لكنها خطوة خطيرة وتمس بعواطف كل المسلمين في العالم .

زاد الجد توتراً من مداخلة حفيده ورد عليه : أيُّ مسلمين هؤلاء الذين تتحدث عنهم ، ألم يقرأوا سورة الإسراء من القرآن أم أنهم لا يعلمون أن هناك شيئاً اسمه المسجد الأقصى يتهدده الخطر والتدمير من اليهود ، الذين يحملون الهيكل المزعوم علي أنقاضه .
لا يحك جلدك إلا ظفرك يا جدي ، فمن سيحول دون دخول هذا السفاح المجرم الحاقد إلي المسجد الأقصى هم أبناؤه ، والذين تحملوا واجبه عشرات السنين ودافعوا عن شرف هذه الأمة التي ماتت .
أُعلن عند دفن أوسلو عن أول خطوة حاول أن يتخطاها ذلك الصهيوني في باحة المسجد الأقصى و التي تصدت له الحشود التي تجمعت من كل الوطن فأوقفوه .

ضحى عشرات المصلين بأرواحهم وحياتهم لمنع هذه الخطوة التي كانت شرارة انطلاق انتفاضة الأقصى لتحقيق الحرية والاستقلال .
خرج الشعب الفلسطيني بأطفاله وشبابه ونسائه وشيوخه لمظاهرات ومواجهات جابت كل الشوارع ، نصرةً للأقصى وتأبيناً لشهدائه الأبطال .

لم يدع الجيش اليهودي جموع المتظاهرين يُعِّبرون عن غضبهم ورفضهم لسياسة التهويد اليهودي لمدينة القدس وتدمير المسجد الأقصى ، فأطلق النار وقذائف الدبابات وصواريخ الطائرات بدون رحمة ولا تمييز في كل الاتجاهات علي الأطفال العُزَّل الذين واجهوا بالحجر همجية الجيش المدجج بالسلاح .

صمد الشعب الفلسطيني ببسالة في وجه أعتى ترسانة عسكرية في المنطقة ، وتطورت أشكال مقاومته ، فأعطوا دروساً في النضال والمقاومة .

جُنَّ جنون قادة الجيش والدولة اليهودية ، الذين لم يتوقعوا هذا الكم عندهم من الخسائر البشرية والاقتصادية ، والهزائم العسكرية المتلاحقة ، فقتلوا الأبرياء الرضع في مهدهم ، والأطفال في أحضان آبائهم وعلي مقاعد الدراسة ، واقتلعوا الشجر وحوّلوا الحدائق والمزارع والبساتين إلي كومة مكسرة من الحطب وهدَّموا البيوت علي رؤوس أهلها ، و أزالوا مناطق سكنية واسعة ، وسووها بالأرض ، ودمروا المساجد والمدارس والكنائس والمؤسسات والمصانع والشوارع والجسور والمستشفيات ، فقتلوا وجرحوا عشرات الآلاف من شعب أعزل أغلبهم من المدنين والآمنين .

حقد خليل على الذين باعوا ضمائرهم ودينهم وشعبهم ووطنهم مقابل حفنة تافهة من المال ، فكان المتعاون مع العدو في نظره أشد خطراً من الاحتلال نفسه ، فمعظم شرفاء الوطن وأبطاله ومقاوموه ذهبوا ضحية في اعتقالهم أو اغتيالهم لخيانة هؤلاء العملاء الذين قدمَّوا المعلومات لمخابرات العدو وأجهزة أمنه ، ورصدوا تحركات المقاومين ، وحددوا مساكنهم ومواقعهم وتواجدهم ، وجعلوهم لقمةً سائغة وهدفاً سهلاً لطائرات العدو وصواريخه .

استخدم هذا الجيش في حربه الإرهابية والبربرية كل أنواع الأسلحة المحرمة دولياً من اليورانيوم ، وغاز الأعصاب ، وقنابل الغاز الخانق ، والرصاص المتفجر وقذائف الدبابات ، وكل أنواع الطائرات الأمريكية.

لم يَسلم بيت من شهيد أو جريح أو معتقل أو متضرر في مصنع أو بيت أو مصدر رزق ، فعاني معظم الشعب من الفقر وبات أبناؤه دون لقمة العيش .

لم يجد الشعب الفلسطيني الذي قاتل اليهود نيابة عن الأمة والمسلمين لحماية المسجد الأقصى في انتفاضته من يتضامن معه في معركة الأمة التي انفرد بها ، وتحمل تكاليفها وأعباءها ، فلم تسانده الجماهير معنوياً ولا مادياً بالسلاح وبتوفير لقمة العيش للجياع من أبناء شهدائه أو مقعديه أو معتقليه الذين امتلأت سجون العدو ومعتقلاته بهم أو في إيجاد المأوي لمن تهجروا وتدمرت بيوتهم .

وجد الشعب الفلسطيني نفسه وحيداً في هذه المعركة المقدسة ، التي كان يجب أن يشاركه فيها كل المسلمين والعرب ، ففي اللحظة التي كان دمه يراق ويسكب علي الأرض ، كانت كؤوس الخمر تصب علي الموائد ، وفي اللحظة التي كان ينام فيها الشعب الفلسطيني علي أزيز الرصاص ، كانت تقام الحفلات والأغاني الماجنة والراقصات علي شاشات التلفاز ، وكانت أكثر العبارات كرهاً علي مسامع الفلسطينيين هي عبارات وتصريحات الرفض والشجب والاستنكار .
لم يترك الحاج أبو حسن نشرة من نشرات الأخبار حتى استمع لها، وأشد ما كان يغضبه هو نتائج جلسات مجلس الأمن والشعور بالمؤامرة في عدم بعث قوات دولية تحمي الشعب الفلسطيني من إرهاب جيش الاحتلال ، ونتائج القمم العربية والإسلامية التي غالبا ما تتحول إلي منبر من تراشق الاتهامات وتبادل اللعنات والشتائم .
كان على يقين بأن هناك مؤامرة عالمية اشترك فيها الجميع بدون استثناء بهدف كسر إرادة وعزيمة هذا الشعب العظيم والعنيد والمكافح ، والنموذج الأرقي في الجهاد والتضحية والصبر والعطاء والمقاومة .

كان الحاج أبو حسن يقول لخليل ومحمود وسامي وعدنان الأمل فيكم يا أبطال ، فجنين التي تأكلون من خيرها وتربيتم في أزقة مخيمها ارتوت بدماء الشيخ المجاهد عز الدين القسام ورفاقه في أحراش يعبد .

هذه الانتفاضة هي تواصل لانتفاضة النبي موسى التي انطلقت من القدس ، وانتفاضة يافا ، وهبة البراق ، والخليل ، وتكملة لجهاد جدكم عبد القادر الحسيني والقسطل ، وحتى النفق والأقصى .
عليكم أن تكونوا فساميين في خياركم ، فكل العالم يراقب صمودكم ، فأنتم جنود الوعد الآخر ، وأنتم الفئة المؤمنة التي مدحها رسول الله ( ص ) ، وأنتم أحباب الله ورسوله عي هذه الأرض المباركة والمقدسة .

تصدر محمود وخليل قيادة المخيم والوقوف من خلف تنفيذ العمليات العسكرية والاستشهادية .

فكانت قيادة دولة الاحتلال تري في مخيم جنين بؤرة انطلاق الإستشهاديين ، واستطاع المجاهدون من جنين علي قلة الإمكانيات المادية أن يحققوا توازن الرعب مع الدولة العبرية
أجمعت قيادة العدو علي تنفيذ مذبحة همجية ومجزرة بشعة لهذا المخيم المكافح والبطل ، كان خليل ومحمود علي رأس قائمة المطلوبين للعدو ، الذين رأوا فيهم مهندس العمليات ، فاستعد الصديقان بصحبة المقاومين بوحدة ميدانية رائعة وثقة إيمانية عالية بنصر الله ، لمواجهة أرتال الدبابات والمعدات العسكرية وآلاف الجنود المدججين بالسلاح .

ذهب خليل لوداع أهله فقبل أمه وجبين سهام وأوصاها بأبنائها ، ثم ودع جدته ووقف أمام جده وقال : لن أنسي وصيتك يا جدي وسنجعل من جنين قصة بطولية وأسطورة تاريخية تُحكي للأجيال .
عانق الجد أبو حسن حفيده وتلميذه فقبله ودعا له ولصديقه والمجاهدين بالنصر.

حضر محمود ببزته العسكرية ممتشقاً سلاحه ومتطوقاً بحزام ناسف على جسده ليودع أخته سهاماً وأولادها بعد أن ودع والديه وأهله ، شعرت سهام أن أخاها يودعها الوداع الأخير ، فظهر ملاكاً بصورة رجل ، مسح محمود دموع أخته سهام التي تأثرت من هذه اللحظات ، فأعطاها صندوقاً من الحلويات لتعطيه لأمه لتوزيعه إذا ما سمعت بخبر استشهاده ، وطلب منهم ألا يبكوه .

أخرج محمود مصحفاً صغيراً من جيبه وتناول رصاصة من مخزن سلاحه ووضعها في يد الطفل الذي تحمله سهام وأوصاها أن تربي عليها أبنائها .

توزع المجاهدون علي كل بوابات المخيم ، وانتشروا في أزقته ، فأقاموا الكمائن والخطط العسكرية ، وجهزوا أسلحتهم وعبواتهم الناسفة التي تم تصنيعها يدوياً وميدانياً ، وأعلن الجيش عن بدء المعركة .

حلقت طائرات دولة الاحتلال في سماء المخيم ، وأخذت تلقي بحممها وصواريخها علي كل جسم متحرك في أي مكان منه وحاول الجيش اقتحامه مرات عديدة .

طلب الجيش من سكان المخيم عبر مكبرات الصوت بالخروج منه كما طلب من المقاومين بتسليم أنفسهم ، فلم يخرج إلا عدد قليل من المرضي والأطفال وكبار السن والنساء .

أقسم الحاج أبو حسن علي إلا يخرج من بيته بعد الهجرة حتى ولو دفن في بيته .

عمد الجيش علي قطع المياه والتيار الكهربائي ودخول سيارات الإسعاف والطواقم الطبية والمعونات.

كان كل العالم يشارك جيش الاحتلال في ارتكاب جريمته وهو يراقب المجزرة القائمة دون أن يحرك ساكناً أو ينتصر ولو إعلامياً للشعب الأعزل ، الذي يقود ملحمة بطولية عظيمة ومعركة تاريخية أسطورية وغير متكافئة .

اشتدت المحنة علي أهل المخيم الذين امتنعوا عن الحركة داخل بيوتهم ، فاقتصدوا في الطعام والشراب في محاولة لتحقيق الصمود والانتصار .

أقام خليل مركزاً لقيادة المقاومة في أحد البيوت ، فأعد عرفة للتموين وثانية للسلاح وثالثة للتخطيط والرابعة لعلاج الجرحى ، وكان علي اتصال دائم بمعظم المجاهدين وتصله إخبارهم ، وتحركات الجيش عبر عيون تم توزيعها في كل الأزقة .
وزع خليل أدوار أصحابه والمقاومين من شباب المخيم فكانوا يتبادلون الأدوار والمهمات والراحة ما أمكن لاستئناف المقاومة .
كان يقول لأصحابه نحن أعددنا ما استطعنا من قوة وإمكانيات متاحة ولكن النصر من عند الله ، فعليكم بالتوكل و الذكر والقرآن حتى وسط المعركة .

كان للصيام دور كبير في تسيير المعركة وإعداد المجاهدين والشوق للقاء الله والشهادة ، كما أنه كان حاجة للصمود لشحة الطعام والشراب .

لم يتوقع جيش الاحتلال صموداً رائعاً كالذي واجهه في تلك الأيام ففي اليوم الأول أمطر المخيم بوابل من القذائف والصواريخ ، وهم الجيش باقتحام المخيم إلا أنه واجه قتالاً أسطورياً ، فأعطب المقاومون دبابتين وجرافة ضخمة ، واستولي الأبطال علي ثلاث بنادق رشاشة تركها الجيش الجبان لحظة تراجعه .

لم تجد الأمهات وسيلة لتهدئة الأطفال الذين ارتجفوا من زخات الرصاص ودوي الطائرات وحركة الدبابات ولم يتمكن المجاهدون من نقل الجرحى وتقديم العلاج للمصابين اللذين بقوا ينزفون حتى الشهادة .

تكررت عمليات الاقتحام للجيش وتكررت عمليات التصدي والصمود ، فدب الرعب في قلوب جنود الاحتلال حتى البكاء ، فتراجعوا جزعاً من حتمية الموت الذي شهدوه علي اثنين من جنودهم .

وفي صباح اليوم الثاني قرر قادة جيش الاحتلال دخول المخيم ولو بمجزرة ، فحرقوا بيتاً وقتلوا كل من فيه من الأبرياء ، واستطاع عدنان قتل جندي ثالث وإصابة أربعة آخرين .

بدأت المعركة مبكرة في فجر اليوم الثالث ، فتيمم خليل لقلة المياه التي انحصرت إلا للشرب وصلي الفجر ثم قصد التحرك لاستطلاع شوارع المخيم الذي كان يضج بالانفجارات ، فصادف في طريقه جثثاً ممزقة ومتفحمة .

لقد داست الدبابات والجرافات جدران البيوت في اليوم الرابع ، فهدمتها علي رؤوس ساكنيها .

لم يهنأ جيش الاحتلال بخطوته التي رأي فيها جزءاً من خطته للسيطرة علي مخيم جنين ، حتى تزلزلت الأرض من تحت أقدامه ومعداته وآلاته العسكرية بفعل قافلة الشهداء التي تسابقت علي الشهادة .
وفي اليوم الخامس لم يرَ رئيس أركان الحرب بُداً إلا من الإشراف بنفسه علي المذبحة عبر طائرة عمودية حلّقت في سماء المخيم .
كان يشهد بالعظمة لهؤلاء المقاتلين الذين لم يرَ أمثالهم في كل الحروب السابقة منذ قيام دولة اليهود مع دولٍ وجيوش ، واعترف قائد الحرب عبر الإعلام بشراسة المقاومة التي خلّفت ثلاثة قتلي آخرين من صفوفه وأدرك عواقب الانسحاب وانعكاسها علي مصير جيشه أمام عناد المجاهدين ، فقرر التواصل في المعركة .
كانت الاشتباكات متواصلة علي مر الساعات ، استهجن رئيس الوزراء اليهودي الأنباء التي يتلقاها ، فأصر في اليوم السادس أن يستطلع المعركة بنفسه .

منع جيش الاحتلال إدخال الطواقم الطبية للمخيم وسيارات الصليب ، وحتى إمداد الأهالي باليسير من الضروريات المعيشية والطبية ، واستطاع جيش الاحتلال اقتحام أجزاء من المخيم الأمر الذي زاد من إصرار المقاومين علي التصدي .

استبسل أحفاد الجد أبي حسن في المعركة ، كان سامي يتطوق كما محمود بحزام ناسف ، وخلال المقاومة أصيب بشظايا قذيفة أقعدته ، أسرع عدنان لإسعافه فرفض ، قبَّل
سامي أخاه مودعاً وأوصاه بالسلام علي أمه وأهله وجده ، أصر سامي علي عدنان لتركه ، ليستقبل بجسده قوات الاحتلال التي تقترب منه داخل المخيم ، ابتسم سامي لهذا القدر ، وحين وصولهم ذكر الله وكبر ثم تفخَّر فيهم ، فقتل جنديان وأصاب ثمانية آخرون ، فأعاق زحف الآليات العسكرية لقلب المخيم , تعاهد المقاومون علي الشهادة في اليوم السابع من الحصار بعد أن قاربت ذخيرتهم والطعام والشراب علي النفاذ فأعلنوا النفير تصدياً للاحتلال .
تفاجأ المقاومون بعدد من النساء والشيوخ والأطفال اللذين أرغموا علي الخروج من المخيم جوعاً وعطشاً ، فاستخدمهم جيش الاحتلال كدروع بشرية ، ليستر بهم جبنه ويحمي بهم نفسه .

علم خليل ومحمود بحصار جيش الاحتلال لمجموعة مقاتلة اُستُنفدَت ذخيرتها في أحد البيوت ، فخرج بمعية أصحابه لإنقاذهم ، دخل خليل ومحمود معركة بطولية مُشَرِّفة دامت ساعات من الاشتباكات وتبادل لإطلاق النار الكثيف ، فاستعان الجيش بالطائرات العمودية التي غطت المنطقة بالصواريخ ، فاستطاعوا محاصرة البيت واعتقال المقاومين الستة الذين كانوا بداخله .

جَّرد الجيش المقاتلين من ملابسهم أمام أعين الأهالي الذين احتمي بهم ، ووضعهم صفاً واحداً مقيدي الأيدي ومعصوبي الأعين ثم أطلق النار علي رؤوسهم وصدورهم فمزقهم علي مرأي الأمهات .
اشتد الخناق في اليوم الثامن علي المجاهدين ، فنحفت أجسادهم من الجوع والعطش واصفرت وجوهم من السهر والتعب ، ولم يتبق في جعبتهم إلا القليل من الأسلحة ، فأوصي خليل المقاومين بالدقة في إصابة الهدف وعدم استهلاك الذخائر إلا في جسد العدو.

تقدم جيش الاحتلال في قلب المخيم الذي تحول إلي ساحة واسعة من الركام ، ونقل الجيش عدداً من الشهداء عبر برادات كبيرة إلي أماكن مجهولة .

نفدت الذخيرة من محمود ولم يَتبق إلا الحزام الناسف علي جسده ، فأبي الاستسلام الذي سيعيده للسجن مرة ثانية ، كان يدرك أن الجيش سوف يقصد بيته في محاولة لاعتقاله ، فأقسم أن يلقنهم درساً لن ينسوه، قبَّل محمود خليل مودعاً إياه وأوصاه بنفسه والمناضلين وبأخته سهام وأبنائها ، وتواعدا علي اللقاء علي حوض الرسول ( ص ) في الجنة ، تعانق الصاحبان بحرارة ودموع .

كان محمود سعيداً بأمنية الشهادة وكأنه يري مكانه في الجنة ، ويستعجل تلك اللحظة ليرتقي إلي العُلى مسجلاً لشعبه صفحة ناصعة وجميلة ومشرفة في التاريخ .

توغل الجيش في قلب المخيم الذي داهم المطلوبين وكان يقترب من بيت محمود الذي تحصن فيه ، فوصل لأطراف المنزل عشرات الجنود ، ذكر الله وكبر ثم تفجرًّ ، فاعترف جيش الاحتلال بمقتل ثلاثة عشر جندياً وأصاب تسعة آخرين بجروح متفاوتة .

أصيب جيش الاحتلال بالهلع والخوف وتحولت كل الأرض من تحت أقدامهم لبركان يغلي غضباً وشعروا أن الموت يطاردهم في كل مكان ، فلم يشعروا بأمنهم في مواقعهم وبرهم وبحرهم ومستوطناتهم ، وفي الحافلات والأسواق والملاهي وفي كل مكان .

علم خليل باستشهاد صديقه محمود وفي اليوم التاسع من حصار المخيم قاتل قتالاً شرساً، وأقسم أن ينتقم لدمه ، فاستنفر أبطال المخيم في معركة متواصلة وحاسمة .

دخل جيش الاحتلال وسط المخيم فهدموا بيت الحاج أبي حسن والمنطقة المحيطة به ، فتحول المخيم إلي ساحة مدمرة.

واجه خليل ورفاقه أرتال الدبابات والجرفات واستطاعوا قتل جنديين في ذلك اليوم ، وفي نهاية اليوم التاسع للحصار انسحب جيش الاحتلال من المخيم بعد أن ارتكب في حق الأبرياء جريمة تقشعر لها الأبدان ، ومذبحة تعبر عن جيش فاقد لأدني الأخلاق العسكرية والإنسانية ويمثل دولة قائمة علي الظلم والإرهاب والفساد والتخريب .

انتصر أبطال المخيم علي جيش الاحتلال وترسانته العسكرية وعلى كل المتآمرين عليه من الحكومات والأنظمة والمؤسسات الدولية القائمة ، كما وانتصر علي الجوع والعطش والتعب .

كانوا عمالقة في نضالهم ، وعظماء في تحديهم وأبطال في صمودهم وكبريائهم وتضحياتهم.

دخلت وسائل الإعلام ونقلت آثار الجريمة وكأن المخيم تعرض لزلزال قوي فدمره ، وقلبه رأساً علي عقب ، وكانت رائحة الموت تنبعث من عشرات الجثث الملقاة في الشوارع والأزقة .
سارع أهل المخيم لمحاولات إنقاذ الأحياء من تحت أنقاض البيوت المدمرة .

كان خليل علي يقين بأن جده لن يخرج من بيته ثانية لا لحيفا ، فتأكد بوجوده تحت الأنقاض ، تعاون شباب المخيم بآليات بسيطة في محاولة لإنقاذ الحاج أبي حسن من بين الركام والجدران المهدمة .
أُغميً علي الحاجة أم حسن التي لم تتحمل الخبر ، ولم تتوقع ما حدث ، فنقلوها بصحبة ابنتها فاطمة إلي المستشفى ، كانت نعمة بحالة نفسية صعبة ، حيث خبر استشهاد ابنها سامي ، وفقدان والدها تحت الركام ، وإغماء أمها ونقلها إلي المستشفى .
أخذ خليل يرفع الركام بيديه ، ولم يتطلع لشيء سوي إنقاذ جده الأحب إلي قلبه ، فاستطاع بصحبة الأهالي أحداث حفرة في الجدران المهدمة ، نادى خليل علي جده من الشقوق ، فلم يسمع ما يطمئنه ، لم يشعر باليأس وظن أن الجد أصابه الإرهاق والتعب من الجوع والعطش ، فواصل مع الأهالي إزالة الركام حتى تمكن من النزول بنفسه وسط الغرفة المظلمة ، فعثر علي جده الذي لم يتكلم ، رفع يده وتركها فسقطت ، ثم وضع أذنيه علي صدره فلم يشعر بحراك ، فتناول يده وفحص نبضه فتأكد أنه ما زال علي قيد الحياة .
رفع خليل جده بين ذراعيه بمساعدة الأهالي ونقلوه علي وجه السرعة إلي المشفى ، طمأن الطبيب خليل علي جده الذي توقع معافاته بعد ساعات ، فبقي بجانبه حتى بدأ بالهمس ثم فتح عينيه .
لم يترك خليل زوجته سهام في مصيبتها والتي بكت أخاها بكاءً مُراً كلما تذكرت لحظات وداعه وكلماته .

واسى خليل زوجته وقال : مثل محمود لا يُبكَي يا سهام أخوك بطل وقليل أمثاله ، فيا ليتني وأبنائي وكل الشعب مثل محمود ، إذا كان لابد من البكاء ، فيكون علي الجبناء والمتخاذلين والشعوب النائمة والأمة التي ماتت .

لن ننسي محموداً الذي وهبني إياك ودبًّ في قلبي الحياة ، وسأبقي أتذكره في كل اللحظات.
لم يمر أسبوع علي مجزرة المخيم حتى أعلن خليل بنفسه المسئولية عن العملية الإستشهادية التي نفذها فدائي بطل من مخيم جنين وأسفرت عن قتل عدد من الجنود رداً علي المذبحة وعلي استشهاد صديقه محمود.

نفذ أبطال جنين العمليات العسكرية بعد احتلال المخيم الذي لم ينكسر ، فبقوا مثلاً رائعاً في التحدي والتضحية .
مرت الأيام علي خليل الذي وهب حياته للجهاد والمقاومة وفي إحدى الليالي عاد لبيته فرأي جده العجوز أبا حسن يلاعب أطفاله ويرسم لهم خارطة الوطن ويقول هذه حيفا ، وهذا مفتاح بيتنا فيها ، وهذه الأوراق تثبت ملكيتنا لعشرات الدونمات لحقولها وبساتينها ، وهي أمانة في أعناقكم ، ولن تعود إلا بهاذين وأشار بأصابعه التي ترتجف إلي القرآن والرصاصة التي أهداها محمود قبل استشهاده إلي أطفال أخته سهام .
فسعد خليل بوصايا جده الذي لم يتعب وابتسم في وجهه ووجه سهام وتناول سلاحه وذهب .

رأفت خليل حمدونة ـ سجن نفحة الصحراوي ـ فلسطين

تمت بحمد الله
21/3/2003م
نفحة


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى