الأربعاء ٢٨ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٦
بقلم أحمد الحارون

فليسعني قلبُكِ!

يُخيلُ إليَّ أنَّ الحبَّ والجنونَ يولدون من رَحِمٍ واحدةٍ وإن تباعدَ الأبوان، فرأيُ العاشق في كلِّ النساءِ هو نفسه رأيُ المجنونِ في جلِّ الناس، فكلاهما واهي الحجةِ ومردودٌ كلامه، والمجنونُ فقدَ الإحساسَ بالزمن، فالماضي والحاضرُ والمستقبلُ عنده سواءٌ، والعاشقُ لا يأبهُ بما مضى ولا ما هو آتٍ طالما الحبيبُ هو الحبيبُ.

وفي الحب لكل امرئ عقله العاطفي الذي يدخل في خصومة عن عقله الواعي، ويغيب المنطق لديه، فيرى بعيون قلبه ويتكلم بلسان حبيبه، ويرى ببصر المجنون، فهذا الملحد ينتفي عنده ضمير المؤمن، وذاك العاشق ينتفي عنده ضمير الأنا، وهذا الفاجر خاصم التقوى فلا تلحظه إلا عابثاً، وذاك الولهان تقيأ القسوة فلا تراه إلا رقيقاً، ومع الحب يصحو ضمير المستهتر فيسترد وعيه وورعه ويعيد تنسيق ذاته من جديد، هكذا في الحب كل شيء لدى المحبِّ له قانون مختلف وتأويل غير الذي اعتاده وتعوده.

وعشتُ طوالَ عمري أقرأُ عن الاحتلالِ وأمقته، والآنَ هي تغزوني على البعدِ، وتحتلُ أدقَّ تفاصيل حياتي، وتهيمنُ على ذاتي، فما عرفتُ أمتع من احتلالها لقلبي وهيمنتها على كياني!! فتبّاً لكلِّ حريةٍ تفتقد الحبَّ وتغتال المشاعر، ومرحى بكلِّ استعمار يعيدُ تنسيقَ الذاتِ وتضاريسها من جديدٍ، إنه الخضوعُ الواعي والممتع في آنٍ؛ فما أجملَ حديــــقة المشــــاعر داخل النفس! هكذا ... ودون سابق معرفة قذف بها القدر في طريقي، تلتمس عود ثقاب في يدي لينير مصباحاً في يدها، دخلت مدينة القلب على حين غفلة من أوردته، تطرق باب التساؤل برفقٍ، فانفتح لها الفؤاد بضفتيه ودرفتيه، أقبلت بوصلٍ فاتصلت، وأحسنت الدخول ولم أحسن أنا الخروج، أيقظت الماضي النائم في أعماقي، تحكي آلامها فتثقل كفة الأحزان عندي بقدر ما تخف لديها.

كانت النفائس وأنا اللص الذي لا يريد أن يكون لصاً، واللص أحيانا يسلب بقوته فكانت تسلبني بضعفها، وهذا سارق يقتنص بحيلته أكثر من إقناعه لضحيته، لكنها كانت تسرقني بكبرياء خاضع وخضوع واعٍ، وأنا مسروق عن بينة لا غفلة، ومسلوب عن إرادة لا تغافل؛ ومع دقات العاشرة أقول لظلام الليل: باللهِ رويدكَ لا ترحل حتى يدركَ الفؤاد صبابته، وتقرُّ الروح بمطلوبها فربما تشبعّ!
تصدح وهي تشكو، تعزف وهي تغفو، ترتخي أوتار القلب عند حديثها، قلب ينبض بحروف اسمك بلا تصنعٍ فتسمعه كأنك أول مرة تنتبه لجمال وقعه وتناسق حرفه، تطمئن عليك دون كلام، نفسها من ذاك النوع الذي تألفه قبل أن تحدثها، تنفذ خلالك دون إذن رغم صرامتها الناعمة، وتغتالك رغم رقة جوانبها، تصطنع قوة وتتمنى في داخلها إنساناً يحتويها، ترنو كرانية مغمضة العين،،وتتكلم بصمت مطبقة الشفتين؛ وتهفو كهيفاء وهي تسبح في أعماق النفس، تبدل روحك إلى روضة وهي تتريض، تملك درفتي قلبك كحارس أمين، تثير ثرثرتك فلا ينقطع حديثك، في كل لحظة معها تضيق المساحات فتتلاشى، وتتقارب الأرواح فتتآلف، تعرفها ساعة وكأنك تعرفها ساعة وعيتَ.

كان حبُّها من ذاك الذي تختاره ويقهرك في آن، يتملك دون قيد، يحتويك بعيداً فلا تطمع في مزيدٍ؛ هو إحساسٌ وتغريدٌ صادح يعزف على قيثارة القلب، فيشدو لحناً لا يحمل بين طياته مصالح أو مطامح؛ ولقاؤها على ضآلته يحمل الفصول الأربعة في قلبك، صيف الحنين وربيع اللقاء وخريف ما قبل النهاية ثم شتاء الرحيل، هي عنواني الذي اختزلتُ الماضي فيها، وتؤرخ لما هو آتٍ، وكنتُ في معيتها أشبه بحصباء في مجرى نهيرٍ عذبٍ، فكما تكون الحصباء جزء من طبيعة النهر، وتضيف إليه جمال الصحبة والرونق، كان حديثها معي أشبه بجريان الماء وعذوبته، فإذا غابت صرت كالحصباء التي خرجت من مجرى السيل تتقاذفها الأيدي وتركلها الأقدام.

كانت أشبه بطاووس يزهو في تواضع، وحمامة تهدل في صمتٍ، تمنحني بعض ريشها لأشبهها، فأتخايل ويحسن لوني الأسود في حضرتها، وحين تغيب أعود أدراجي فلا ريشة منها نبتت، ولا تغير مظهري، وإن سرت عدوى طيرانها في ذاتي ومعانيها في نفسي، فلا أعود غراباً كما كنت، هكذا فعل حبها بي، وصنعت هندستها في تعاريج قلبي، وتفاعلت حكمتها وهي الحكيمة العارفة بباطني، فكانت كطبيبة تخاطب قسم أفئدة لا ألسنة، فكانت عندي دنيا المعنى ولم أكن لديها دنيا المبنى، كانت حسنة البيان واللسان، فاتنة في هدوئها ورقتها، تأتيك في كل لحظة أجمل من سابقتها، أنظر في أعطافِ كلامها فتمنحُ حروفها رونق الحياة، كأن الصورة تتمايل وتتدلل وتأمر وتخضع في آنٍ، تطلب منها سيفاً لرقبتك كما تطلب منها قبلة لفيكَ، كلاهما عذب وعذاب، ولا هي ترحم فتهنأ بالأولى، ولا تقسو فتتعذب بالثانية، يخيل إليَّ من فرط نعومتها أن الماء لو صُبَّ عليها سيجرحها، فهي تكوين مدهش وتناسق متناغم، يكادُ مخُّها المستور يبين من رقة عظامها، ذات هي بلا غلاف، ونواة تخلت عنها قشرتها، تولت القشرة حياء لأنها تستر جمال لبها؛ في أصابع قدميها فتنة مثل أهداب عينيها، لا يجري حديثها كما يجري عند الناس، تتنهد بعيونها، وتتكلم بأعماقها، تمضغ الحروف مضغاً فتخرج الكلمات متثائبة، صوت يهمس ولا ينطق، تسعد بسيرتها وعلى يقين أن سريرتها أنقى، وفي القرب منها معنى الحياة، والبعد عنها خير وأبقى.

وبين ليلة وضحاها كنتُ في حبها أشبه بجمرةٍ مشتعلةٍ، لا يكفيها حطب الكون، تتوق إلى هل من مزيد، لكن كما تتآكل الجمرة من غَرْفَةِ ماءٍ، تبرد جمرة قلبي حين تستشعر تهديد كرامتي على البعد، إلا كرامتي التي هي في حقيقتها ديني وخلقي، فلا كرامة دون دين، ولا حب دون كرامة،


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى