الاثنين ١ آب (أغسطس) ٢٠٠٥
بقلم عبد الرحيم العطري

فى رثاء عصرنا

موت المعنى

عندما يقرر جيل دولوز وضح حد خاص لعلاقته بهذا العالم، ويلقى بنفسه من النافذة ولا ينتبه لفعلته هاته إلا قلة من المهووسين بالهم التساؤلى، وعندما ترحل الأميرة ديانا وتتجند الأقلام كلها لرثاء ذكراها، وعندما تصير النشرات الإخبارية متخمة عن آخرها بأخبار حيوانات بريجيت باردو وتفاهات غيرها من أبطال الوقت الوهميين، عندما يحدث هذا كله، فهذا يعنى أن العالم غارق فى البلاهة والتفاهة، وأنه ما ينفك يلهث وراء المبحوث عنه لهزم قلق أسئلته الشقية التى تعصف به وتقوده كرها نحو أحلك النهايات.

غياب المعنى

إن السمة المميزة لعصرنا هذا هى أنه عصر موت المعنى، إنه عصر القحط الروحى والفقر المعنوى، فكل أكاذيب السرعة والتكنولوجيا والتقدم والرفاه تشى بغياب المعنى واحتضاره قبلا فى معارك خاسرة فقد فيها الإنسان إنسانيته، واستحال فيها إلى حيوان ناطق فقط، فالحروب البشرية صارت أكثر عنفا وضراوة، إنها لا تلبث أن تضع أوزارها إلا لكى تشتعل مجددا وبصيغ أكثر كارثية ودموية وفى أكثر من مكان، ليس هناك إلا من أخبار الحرب والموت الفظيع، فمسلسلات السلام سرعان ما تنفرط سبحتها، والسلم الاجتماعى آيل للسقوط فى أفق الارتكاس نحو مجتمع الغاب، فبالرغم من كل ملامح التقدم التى يتبجح بها زمننا الرديء هذا والذى هو زمن القمع كما قال الراحل عبد الرحمن منيف، فإن الفاقة والحرمان والبشاعة هى صفات وصور مأزمية تبصم جانبا من الحياة البشرية سواء فى دول الشمال أوفى ضفة الجنوب المعذبة.

فعندما ندمن التأمل النقدى ونرتكن إلى هاجس السؤال، ونعاين ما يعتمل فى عصرنا من ضياع وتيه، من حروب وسلام مغدور، من موت كئيب يرفض الانسحاب من بين ظهرانينا، عندما نفعل ذلك كله يتأكد لنا بقوة أن العمر الافتراضى للمعنى من الوجود قد زال وانتهى، وأننا انخرطنا قسرا فى اللا معنى السديمى، وفى عمق البقع السوداء كما يقول كافكا...

فى كل شيء يلوح اندحار المعنى وسرابه، وهوما يدفع نحو السؤال عن المعنى واللا معنى، وشعرة العقل أو اللا عقل التى تفصل بينهما وتحتم علينا بعدا الدخول فى وضع ما لا نحسد عليها فى مطلق الأحوال.. فلا يسعنا إلا أن نتساءل مجددا عما يعطى لوجودنا أو غيابنا معنى محتملا، وما الذى يسحب من تحتنا بساط المعنى؟ ويحشرنا بالتالى فى متاهات اللا معنى؟ وقبلا هل نحن فى حاجة قصوى إلى المعنى فى زيف اللا معنى؟

لمجابهة هذا الشقاء التساؤلى لا مناص من التأمل لقراءة تفاصيل الحياة واكتساح لغتها البئيسة بحثا عن معنى الأشياء أولا معناها فى عصرنا الطافح بالرداءة والابتذال.

موت الفرد

إن الحداثة كمشروع مجتمعى تجديدى جاءت لتبشر الفرد بفردانيته، بحريته، بقدرته على الفعل، لقد جاءت وفقا لأدبياتها الأولى لتؤكد له انتهاء عهود صكوك الغفران ومحاكم التفتيش، فالحداثة فى بعدها العام تؤمن بالفرد والحرية، وتنتصر للاختلاف وكل القيمة التى تقطع مع التقليد والأبوية، ولكن المشروع الحداثى لم تصدق كل نبوءاته، ولم يخلص الإنسان من القهر المجتمعى ولم يعترف له فعلا بحريته الفردية على الرغم مما يظهر من نزوع كونى نحو تأكيد الحق الفردى فى تقرير المصير عن طريق توطين الحريات الفردية كالانتخابات التى ما هى فى النهاية سوى حروب سلمية للتداول على السلطة

إن حرية الفرد فى المجتمع الحديث ما هى إلا وهم قاتل، وهذا ما أكده لويس ديمو فى إحدى دراساته، إذ يقول بأن المجتمع الحديث عرف عقلنة جديدة للقمع وتناميا مفزعا لآليات تقليم الأظافر وقص الأجنحة، وعرف ارتفاعا حقيقيا لصيغ القهر الاجتماعى، الشيء الذى أدى إلى ضياع "الأنا" وسط زحام "النحن".

فالفرد صار أكثر انصياعا لقيم الجماعة وأكثر انصهار وتحللا فى بوثقتها، وهو ما يؤدى نهاية إلى إلغاء فردانيته وتبخيس حريته وفعاليته الاجتماعية. فهل مات الإنسان/الفرد فينا كما صرخ نيتشه ذات مرة وهو يبحث عن السوبرمان؟ وهل ما يتعالى الحديث عنه آنا من حقوق للإنسان ما هو إلا سراب جميل ينضاف إلى سراب المعنى؟

إن عمليات الفرملة والقمع وتقنيات إعادة الإنتاج والتدجين، وما إلى ذلك من تقنيات تذويب الفرد وقتله تؤكد ما قاله ماركس بأن هذا المجتمع يحكمه أجداده، وأنه مجتمع خاضع للموتى، أى أنه يأتمر وينتهى بالفائت والغائب، وفى ذلك نفى وإلغاء مباشر لحرية الفعل والتجاوز. والواقع أن الإيمان بالفرد وحريته كرؤى حداثية لا يعد عقوقا أو خروجا على معايير الجماعة، ولكنه تأكيد على الاختلاف تلافيا لضياع الأنا، واحتراما للجماعة وتحصينا لذاكرتها ومستقبلها، وهو ما لا تعيه جيدا أنظمة العصر الراهن، ولهذا نجد ذات الأنظمة الحاكمة والمتحكمة فى المصائر والاختيارات، تجتهد فى ابتداع كل الأساليب التى تقود نحو محو الفرد وتحويله إلى مجرد رقم من الأرقام فى فضاء منقوع فى اللا معنى..

مجتمع القطيع

لكن هل وصلنا إلى درجه عليا من البؤس المجتمعى؟ هل مات الفرد والإنسان؟ كيف ولماذا يحدث ذلك؟

فى قصة "وداع السلاح" ناقش ارنست همنغواى فكرة مقلقة تتعلق بالفرد فى المجتمع، إن كان فى مقدوره أن يدير ظهره للعالم وأن يعيش لنفسه بعيدا عن صخب الناس وحفلاتهم التنكرية التى هى الهدف الأثير للسوسيولوجيا كما صرح الراحل بيير بورديو أكثر من مرة.

وعليه فقد اختار بطلا القصة كاترين وفريدريك أن يعيشا فى قمة جبل بعيدا عن العالم المزيف، وفى النهاية المأساوية كنهاية مبدع القصة، بعد موت كاترين سيصيح فريدريك مختزلا كل المعانى الهاربة "إن العالم يحطم الفرد"، وعلى نفس الدرب نقول بأن المجتمع الحديث يسحق الفردانية ويدجن الأفراد محولا إياهم إلى أرقام مدمجة فى أقراص مدمجة، أو أصوات انتخابية فى معارك السياسة الخاسرة، أو زبائن مستهدفين فى جيوبهم وراحتهم فى أتون الاستهلاك والماركتينغ، هذا هو عصرنا – وللأسف الشديد – عصر الجماهير، عصر القطيع المساق نحو ما يبتغيه الذين هم فوق من مالكى وسائل الإنتاج والإكراه.

لا مكان للفرد، ولا كلمة إلا للجماهير/القطيع، الذى يشار إليه بالرأى العام والمواطنين والشعب وما إلى ذلك من التسميات المخادعة، فهذا القطيع يوجه قسرا نحو مسارات مدروسة بغير قليل من الدهاء، اعتمادا على أجهزة إيديولوجية وأخرى قمعية حسب ما تمليه الظروف.. وربما هذا ما جعل الكثيرين من آل القلق الفكرى يختارون الرحيل بعيدا عنا، ربما لأنهم لا يريدون أن تغتصب حريتهم فى الفعل والاختيار ولهذا اختاروا الرحيل ألما وجنونا وانتحارا رحمة من قضاء الساعات الطوال أمام فضائيات تحقق فى البقع العالقة فوق فستان مونيكا ولا تعير أدنى اهتمام لما يحدث فى فلسطين والعراق وغيرهما من الدول التى ما زالت تؤدى ضريبة نظام العالم الجديد..

فى ثقافة القطيع تصير المسايرة فعلا مباركا وتمسى المساءلة ذنبا يستحق العقاب، وبالطبع ففى وضع كهذا سيكون القهر والنبذ الاجتماعى بالمرصاد لكل من سولت له نفسه باقتراف "جرم" السؤال والخروج عن طوع السائد والمبارك من طرف الجميع، فلا مجال للمبادرة والتساؤل النقدى قبالة ثقافة الإجماع والقطيع.

قطعان بشرية إذن فى جل أرجاء المعمور يتم تعليب وعيها الجمعى فى قوالب جاهزة لإدمان المسايرة ونبذ النقد والمساءلة، يتم تشكيلها حسب مقتضيات اللعبة الدائرة، حتى تكون جاهزة للتحكم فيها عن بعد وبأقل الخسائر، وحتى تكون – وهذا هو المهم – جاهزة لقول لا ثم قول نعم إن استدعت الضرورة ذلك، ولرفع شعارات واستهلاك منتوجات معينة وباختصار لفعل ما يتوجب فعله وما تقتضيه ضرورة الصالح العام..

تكنولوجيا القمع

والواقع أن كل هذا ما كان له أن يكون، وأن يتجذر واقعيا، وبهذه الأشكال المفزعة لولا القمع، فالدولة، أية دولة، تلجأ فى سبيل ترسيخ مؤسساتها وحضورها إلى جهازين متلازمين هما الجهاز القمعى والجهاز الإييولوجى، فالأول يعمل على تصريف العنف المؤسسى والتحكم فيه، والثانى يقوم بتقديم حقنات سوسيو سياسية لشرعنة القائم والحفاظ عليه، إلا أن الدولة فى المجتمع الحديث نجدها قد أولت عناية فائقة للجهاز القمعى ولم تعد تطلب خدمات الجهاز الإيديولوجى إلا فى أوقات محدودة، وعليه فقد تولدت لدينا تكنولوجيا جديدة هى تكنولوجيا القمع، وهى محصلة نهائية لسباق التسلح وجنون السيطرة الكوكبية، وهو أيضا اختبار موضوعى لقدرة الأنظمة الحاكمة على تطويع الأفراد وتحويلهم إلى أجساد طيعة تماما كما هوالأمر بالنسبة لمؤسسة العقاب كما يقول ميشيل فوكو.

إن تكنولوجيا القمع لا تظهر آثارها فقط فى الطفرة التى عرفتها مؤسسات العقاب والامتداد البوليسى الذى صار مكتسحا لكل التفاصيل الإنسانية، ومحصيا لكل الأنفاس والحركات والسكنات، ولكنها تكاد تبين فى الوضع الذى انتهت إليه الإنسانية فى كثير من بقاع الأرض، والتى تشهد استنفارا مخزيا للأجهزة القمعية، وتلوح آثارها أيضا فى "القبول الاجتماعى" والتسليم النهائى بضرورة العنف والقمع، فتكنولوجيا القمع لم تعد تثير الاستغراب، لقد غدت جزءا من المشهد اليومى، وهكذا تواصل الدولة فى ضفتى الشمال والجنوب استعراض عضلاتها القمعية فى تحد سافر لقيم السلم والأمن الاجتماعيين، إنها تستعرض عصيها ومسدساتها بهدف زرع الخوف لا غير، فمن الرؤوس المعلقة عند أبواب المدن والأجساد المصلوبة فى الساحات العمومية إلى الكرسى الكهربائى وغرفة الغاز وحبة الموت الرحيم، ليس هناك إلا تطور فج فى سبل تطويع الجسد الإنسانى والانتهاء من شغبه، إنها حالات بائسة من قاموس مجتمعى قمعى بالأساس يكيل لنا الموت الفظيع فى كل آن، إلى الدرجة التى صار من غير الممكن استشعار حضوريتنا الفردية فى دنيا القمع هاته.

أفول العالم

إذن فى أحضان هذا العالم الرديء الذى يقتل ويحطم الفرد، فى ظل هذه الأنظمة الجائرة التى يموت فيها الأطفال باسم الشرعية الدولية، وتداس فيها الكرامة باسم الصالح العام، وتباع فيها المبادئ وتشترى فى كرنفال المبادئ، هل ثمة معنى ما لوجودنا البئيس؟ ذلكم ما نعجز عن تأكيده، وذلكم ما يغرقنا فى حيرة باذخة ويورطنا فى عمق الأسئلة الكبرى، علها تبعد عنا أرق السؤال والضياع فى زحمة العالم وبلادته القصوى.

هناك فى قارات الفكر الفلسفى تحدث هيدغر ذات مرة عن هروب الآلهة، كما تحدث ماكس فيبر عن حروب الآلهة، وفى ذلك إشارة واضحة على انحسار المعنى وتبعثر الحقائق وتحطم صروح اليقينيات، وهذا ما أشار إليه شبانغلر فى "أفول الغرب" الذى أبرز فيه انحطاط الغرب وموته مع موجة الحداثة الكاذبة.

وهنا والآن ونحن نعاين موت الإنسان بأبشع الطرق وأكثرها خسة وجبنا وفى أكثر من مكان، نجد أنفسنا مستفزين بأسئلة المعنى واللا معنى، ومدعوين إلى تفكيك الوقائع لصوغ الممكن بعيدا عن قلق البياض والفراغ، فاللا معنى يجتاح قحطنا وفراغنا المهيب، ويؤسس لموتنا فى أحضان تكنولوجيا القمع ومجتمع القطيع، وكل التفاهات التى تسرق منا حريتنا وفعلنا الاجتماعى، وتسرق منا الأهم وهو المعنى من الحضور أو الغياب، فإلى متى سيستمر العالم فى ركضه المجنون وراء لا معنى الأشياء؟

موت المعنى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى