الاثنين ٣ نيسان (أبريل) ٢٠١٧
القيم الفنية والجمالية
بقلم عصام شرتح

في آراء أدونيس النقدية

قد يعجب القارئ من الإمكانيات النقدية التي يملكها الشاعر أدونيس، من حيث الأفكار، والأسلوب، وطريقة التعبير، والتقصي في بحث الفكرة، وإثباتها، أو نفيها، أو دحضها، فهو يملك الخزينة الثقافية المعرفية في الحكم على الأشياء، وكشفها، وممارسة سلطته التأثيرية في تقصي الفكرة، وتبيان الخصوصية في الطرح، والمناقشة، والتأمل، يقول الناقد علي جعفر العلاق في إمكانيات أدونيس:" وسط ركام من شعر الأيديولوجيات، والدلالة المباشرة يمثل أدونيس، بالنسبة لي، شاعراً شديد الخصوصية، فهو لا يضع المعنى أو الدلالة في صدارة اهتماماته، ولا يختفي بأي مرجع خارجي: إنه يهدم الأشياء، والأفكار، والموضوعات، والمشاعر، باستمرار، ويعيد بناءها باستمرار، بمعنى آخر: إنه يسلط مجمل اندفاعه الشعري، في الغالب، للتشويش على ملامح موضوعاته، وخلخلة مكوناتها الدلالية أو اللغوية، ليفجر من خلال ذلك كله مناخات، وأجواء تدفع إلى الحيرة اللذيذة، أو اللذة المحيرة... ولا نبالغ في قولنا:في قصيدة أدونيس لا يندفع الموضوع الشعري إلى الواجهة، بل يقبع هناك نائياً، متخفياً، منقوعاً باللغة، وبراعة الاجتهادات. ومن خلال ذلك تواجهنا لغته الشعرية ريانة مستفزة، لا تحمل إلينا إلا تشظيات الذات، وفجيعة الكائن البشري، لذلك، فإن ما يشدني إلى شعر أدونيس أنه لا يقدم موضوعاً، أو فكرة تقع خارج القصيدة،أو على مقربة منها، بل يقدم جسداً نصياً، نضاحاً بالرفض، والأسئلة المريرة. ومن هنا، فإنه من غير الحكمة أن نأتي إلى قصيدة أدونيس مدفوعين بفكرة مسبقة، أو بانطباع جاهز".

لاشك في أن العلاق قد وقف على نقط مفصلية مهمة في شعرية أدونيس، من حيث فرادته،وأسلوبه،وطريقة تعامله مع النص الشعري،وطرحه للموضوعات،وبثه لرؤاه الاغترابية المتشظية،وقد أشار العلاق –بدقة- إلى خصوصية اللغة الشعرية لدى أدونيس، فالقيمة الشعرية الرفيعة التي وصل إليها أدونيس، تخوله النجاح والدقة في إصدار أي حكم نقدي، لأنه يشكل موسوعة معرفية في نظم الشعر ونقده، إنه قامة شعرية سامقة في عالمنا النقدي والشعري المعاصر، لدرجة يمكن القول معها: إن أدونيس "شاعر دائم الحيوية، يسعى دائماً إلى أن يفاجئك بما يقلق، ويثير، ويدفع إلى الاختلاف. وهو قد يسلم نفسه أحياناً إلى كمائن إنجازاته الشعرية، أو إغراءاتها إلا أنه يحاول، دائماً، أن يتجاوز مأزق النجاح الذي يحققه، فالنجاح بالنسبة إليه تحد جيد، وبداية شامة لمشوار شعري أكثر استفزازاً لموهبته، وعقله".

ولم يكن أدونيس على الإطلاق شاعراً، أو ناقداً منهجياً محدداً بإطار أو أسلوب معين، بل كان -على الدوام- شاعراً شمولياً، وناقداً مبدعاً، يتقصى الموضوع أو الفكرة بنظرة شمولية، بعيدة المدى، قوية التأثير، شديدة الإحكام، والإمتاع، والإقناع، إذ يملك أدونيس طاقة حيوية عالية في النشاط والإبداع والخلق الشعري المميز، حتى في دواوينه المتأخرة( تنبأ أيها الأعمى)، و(وراق يبيع كتب النجوم) لم يكن متراجعاً، وإنما بنى لنفسه مملكة شعرية جديدة، حافلة بالتفرد والإبداع،ولهذا يقول العلاق في مطالعته لشعر أدونيس، ومشروعه الحداثوي النهضوي: " حين أتأمل برنامج أدونيس الشعري والثقافي تتملكني الدهشة حقاً. من أين له كل هذا الوقت؟ كيف تتسع أيامه أو لياليه لاستيعاب هذا الجهد الكتابي الغزير؟ لقد توزع هذا الجهد بين الشعر، والتنظير، والبحث والترجمة، إضافة إلى إسهامه الدائم في الصحافة، والمؤتمرات، والقراءات الشعرية، والتدريس الجامعي... ما كنت أعلم، في البداية أن وراء هذا الغنى إرادة صارمة، وإخلاصاً للحلم الشعري لا حدود له. لقد عرفت من أدونيس، في لقائنا الأول، أن ساعات يومية تتوزع، آنذاك، بين التمشي على البحر في ساعات الصباح الأولى، والكتابة الأدبية، وكتابة الشعر، أي بين الماء، والنثر، والقصيدة، وإذا شئنا، بين الطبيعة، والعقل، والمخيلة، إنه عالم يبدأ بالشعر، وينتهي إليه... إن الشعر يمثل هنا، جوهر حياته كلها، أما ما عداه فهو امتداد له، أو فائض عنه، وقد اكتشفت في حينه، أن الحياة الخارجية يوماً واحداً ينصرف فيه أدونيس إلى أصدقائه، ومحبيه، وهذه الحياة في واقع الأمر، ليست خارجية بالمعنى الحرفي للعبارة، بل هي، فسحة للتأمل، واستفزازا للعقل والوجدان، إنها حطب إضافي يغذي، في النهاية، موقد الشعر أيضاً لديه".

والجدير بالذكر، أن أدونيس يمتلك إرثاً ثقافياً، وظفه بأسلوب حداثوي بما يتلاءم وطبيعة العصر، والتطورات التي طرأت على شكل القصيدة، في الأساليب، والرؤى، والتقنيات، فتساؤلات (أدونيس )الوجودية في قصائده أغنت رؤاه، ومنظوراته، وتطبيقاته في الحداثة الشعرية، بمعنى أدق: إن الأسئلة الوجودية المحمومة في قصائده كانت محفزاً له للتفكر والخلق،والإبداع والإمتاع الشعري،:ولاغرابة أن يعرفه القراء بهذا التوجه، " إن أدونيس الذي عرف شاعراً أو إنساناً، بقلقه وتحولاته، لا يمكنه الثبات على منهج صارم كهذا، غير أن المؤكد حقاً أيضاً أن احتفاءه بالجوهري والعميق، في الشعر والفكر والحياة، ظل ثابتاً، و لا بد لي هنا أن أتذكر حالات تشكل النقيض المطلق لهذا المنهج في الإبداع أو السلوك، شعراء لا تحتل القصيدة في حياتهم إلا هامشاً ضئيلاً، أو شعراء لا يجدون في الشعر إلا وجاهة اجتماعية، أو تبريراً لانحطاط الذات، أو كميناً لإغواء امرأة".

أما أدونيس فقد اتخذ الشعر جوهراً وحقيقة ومشروعاً نهضويا يسعى من خلال إلى تجذير إبداعه وإثارة رؤاه المواربة النهضوية في الفكر والرؤيا والمخيلة، ولهذا،فإن أدونيس في مختلف آرائه النقدية استطاع أن يقنعنا، ويمتعنا بهذه الدقة في الرؤى، جسارة الطرح، ورصانة الأفكار، من خلال بداعة الأحكام، ودقة المنظورات، وإصابتها المعنى المقصود، أو المعنى المراد، ولهذا، يعد أدونيس من أهم النقاد الحداثيين على الساحة الشعرية العربية. نظراً إلى بداعة منظوراته،ودقة أحكامه النقدية، ومناقشته للعديد من القضايا الشعرية المستعصية،ولهذا سينطلق بحثنا في هذه الرقعة البحثية الضيقة من تحديد أبرز المقومات أو النقط المفصلية التي شكلت نقطة إثارة أحكامه ومنظوراته النقدية، وفقر ما يلي:

بلاغة الجملة ووضوح مقصودها:

ونقصد بـ[ بلاغة الجملة / ووضوحها المقصدي ]

قدرة الجملة النقدية على إصابة مغزاها،ومقصودها الفني، بأسلوبها التقني، ووضوحها المقصدي، ومحاكمتها المنطقية الدقيقة للظاهرة المدروسة، بإصدار الحكم النقدي الملائم والدفاع عنه بإحكام وفهم ووعي معرفي مؤثر أو مقنع. وقد امتازت آراء أدونيس في بعض القضايا الأدبية بموضوعيتها، ودقتها، وبراعتها في استخلاص الحكم النقدي، والدفاع عنه، وإثباته أو دحضه مستقبلاً. ولنأخذ مثالاً على ذلك قوله في مسألة الوضوح والغموض، هذه المسألة التي شكلت لديه هاجساً مؤرقاً كلما طرحت هذه المسألة على خارطة التداول النقدي، إذ يقول:" الحداثة انقطاع في سلسلة معطيات يصير وارثوها على أن تتطاول وتستمر،بهيئتها وعناصرها، ومثل هذا الانقطاع يقود إلى ضياع القارئ الذي لا ذخيرة له غير الذاكرة الحافظة، وغير التقليد والعادة. فالقول –بالغموض- إسقاط: إنه وليد هذا الضياع. إنه ناتج عن عدم إدراك الفرق بين طريقة التعبير القديمة، والطريقة الحديثة. وعن عدم إدراك معنى زمنية الشعر، وعن الحكم على اللحظة الحاضرة بلحظة تعود إلى حوالي عشرين قرناً، وهو ناتج كذلك عن تغير النظر، والوعي في حركة التحول".

إن دقة أحكامه، ومنطقية رؤيته، من تمهيد للفكرة، ودعمها، وإثباتها، ومن ثم إصدار الحكم النهائي حولها يؤكد نظرته العميقة من جهة، وبلاغته في إصابة المغزى أو المقصود من حكمه النقدي، بأقل عدد من اللفظ. وهذه السمة سمة البلاغة والإيجاز، والواضح كذلك منطقية الحكم، والتقصي الدقيق للظاهرة بجوانبها كافة، إذ يقول:

" إنني لا أبشر بالغموض. وهذه مناسبة لأشير إلى أن في حياتنا شعوذة تتخذ من "الغموض" ستاراً لتخفي عجزاً أصابها عن الإبداع.. أكرر، بالمقابل، أنني لا أبشر بالوضوح. وهذه أيضاً مناسبة لأشير إلى أن هناك شعوذة تتخذ من " الوضوح " ستاراً لتخفي، هي الأخرى، عجز أصحابها عن الإبداع فعلاً. فلا يعنيني"الغموض" بذاته، أو " الوضوح" بذاته، وإنما الإبداع هو الذي يعنيني... أكرر، في الوقت نفسه، أن ما يسمى بغير مسوغ نقدي، جمالي "غموض الشعر الحديث"، إنما هو، تدريجياً، ظاهرة طبيعية. وهذا عائد إلى تفاوت البنى في المجتمع العربي، وإلى استباقية الشعر، مما يولد الانفصال عن الذاكرة والعادة، وعن "جمهور" الذاكرة والعادة. ومن هنا أميل إلى القول: إن مسألة الوضوح والغموض ليست متأتية عن القصيدة الصعبة أو الأثر الفني الصعب، بقدر ما هي متأتية عن موقف شعري أيديولوجي".

إن ما يلفت النظر إليه بلاغة الجملة، والتمهيد للفكرة، والتأكيد على مصداقيتها، أو مقاربتها المنطقية، بذوق نقدي رفيع، وإدراك معرفي رؤيوي شامل، يمتاز به أدونيس على الدوام، من حيث الإدراك، والعمق، والشمولية، والاتزان، فالشعرية ليست في الغموض أو الوضوح،وإنما في الإبداع ذاته، هل حقق الشاعر إثارته الشعرية،وارتقى بأسهم قصيدته جمالياً أم لا. هذا السؤال الذي يسأله أدونيس ويجيب عليه قائلاً: "إذا كان الغموض مسألة إيديولوجية لا نصية، فإنه مسألة فهم للإبداع من جهته، وموقف من الموروث، من جهة ثانية، والشاعر العربي الحديث ليس حديثاً إلا بشرط أولي: تجاوز الموقف الإيديولوجي – الفني القديم، ومتضمناته جميعاً: مفهوم الشعر، ومفهوم الإبداع، والمعايير النقدية المنبثقة عنها... ثم إن الشاعر ليس شاعراً إلا بشرط أولي: يرى ما لا يراه غيره، أي يكتشف ويستبق. فهناك تفاوت طبيعي، على مستوى الغنى الداخلي، وعلى مستوى التعبير، بينه وبين القارئ. لكن هذا التفاوت لا يعني انغلاق كل منهما على الآخر، واستحالة التفاهم فيما بينهما، وإنما يعني عدم التطابق بينهما: فاختلافهما نوع من الائتلاف، يقتضي من القارئ أن يكون هو الآخر خلاقاً – شاعراً آخر".

إن الوعي الأدونيسي يضعنا على حقيقة الحكم النقدي، فالغموض لايتأتى من الخميرة الإبداعية والحزينة المعرفية العالية التي يمتلكها المبدع، على حساب المتلقي أو القارئ، وإنما من ازدياد الهوة بينهما وانقطاع أواصر التلاقي بينهما،وهذا يؤدي إلى تشويش الرسالة الإبداعية، وإخفاق التفاعل بين المبدع والمتلقي، وهذا يدلنا أن الغموض -من المنظور الأدونيسي – ليس نتيجة أو إفرازاً لغموض النص ذاته، وإنما للقارئ اللامدرب على تلقي مثل هذه النصوص، أي القارئ العادي الذي لا يملك الذخيرة المعرفية لفك مداليل النص، وكشف مساربه وأغواره المستعصية، فالنص الشعري الحقيقي لا يهب نفسه بيسر للقارئ، ولذلك، فالشاعر الحديث ليس حديثاً إلا بتجاوزه للمعايير النقدية القديمة، وللمواقف الإيديولوجية القديمة، وهذا الأسلوب المنطقي في محاكمته الأشياء، واعتصارها، والتجاوز، والجرأة في طرحها منحته الشهرة النقدية والجسارة الإبداعية، وإطلاق الإحكام بوعي وحس معرفي، إذ يقول:" ومن هنا، نفهم كيف أن القارئ الذي يصدر عن الذاكرة، والعادة، والموروث، بعيداً عن مناخ الاستباق والكشف، لا بد من أن يسلك بفكره، إزاء القصيدة، كما يسلك بجسده إزاء مادة يستهلكها: لا يعد نفسه مالكاً إلا إذا استهلكها. ومثل هذا القارئ قد يكون قارئاً لكل شيء إلا الشعر. ومن هذه الزاوية، فإن من يحارب هذا الشعر باسم " الغموض" يحارب الأعماق من أجل أن يبقى على السطح، ويحارب البحر من أجل أن يبقى في الساقية، ويحارب الغابة والرعد والمطر، من أجل أن يبقى في الصحراء... تصوروا الإنسان أو العالم "واضحاً". لن يكون –آنذاك- أكثر من تسطح هائل، ولن يكون فيها مكان للشعر".

إن الوعي والفهم النقدي بهذه المسألة يضعنا على محراب الوعي النقدي الدقيق بهذه المسألة، فالوضوح ليس مطلبا للشعر، وليس من مؤسسات الشعر، بل إن الغموض هو عنصر ضروري من ضرورات الشعرية، ومن يحارب الشعر بحجة الغموض والتعقيد فإنه لامحالة لا يفهم الإبداع ولا الحقيقة الإبداعية.

وبتقديرنا:إن ما أشار إليه أدونيس ينم على اهتمامه النقدي، وآرائه التنظيرية المحكمة، من حيث بلاغة الجملة، واقتصادها اللغوي، ووضوح مقصديتها، ناهيك عن محاكمتها العقلية المنطقية المدعمة بالحجج، والبراهين.

ترابط الأفكار وانسجامها، وتلاحمها:

لاشك في أن الحكم على قيمة الحكم النقدي، أو المسألة النقدية لأمر يتعلق بترابط الأفكار وانسجامها وتلاحمها للوصول إلى منتهى الوعي في الحكم والدلالة على الوعي والفهم بالمسألة المطروحة، وبتقديرنا: إن ترابط الأنساق اللغوية، وانسجامها وتوازنها من جهة، واتساق الأفكار وتلاحمها وتضافرها من جهة أخرى ليدل دلالة واضحة على شرعية الحكم النقدي،ودرجة الوعي الجمالي في صوغ الجمل، من حيث الوضوح، والعمق، والفاعلية، والتأثير، وشعرية اللغة، وبهذا التصور يقول أدونيس في مسألة التفريق بين [الشعر الجديد والشعر القديم] من حيث الأسلوب، والبنية، والاتجاه، واللغة، إذ يقول:" تكتفي اللغة، في شعرنا العربي التقليدي، من الواقع، ومن العالم بأن تمسها مساً عابراً طفيفاً، فهي لغة وصف وتعبير، ويطمح الشعر الجديد إلى أن يؤسس لغة التساؤل، والتغيير، ذلك أن الشاعر هو من يخلق أشياء العالم، بطريقة جديدة. ثم إن بعضهم لا يزالون ينظرون إلى الكلمة نظرة غائية، فهناك، في زعمهم، كلمات شعرية، وكلمات أخرى غير شعرية. كأن القصيدة- عندهم – نوع من الفسيفساء اللفظية، لكن يصعب أن نجد كلمة شعرية بذاتها أكثر من غيرها. إن للكلمة، عادة، معنىً مباشراً، ولكنها في الشعر تتجاوزه إلى معنى أوسع وأعمق، لا بد للكلمة في الشعر من أن تعلو على ذاتها، أن تزخر أكثر مما تعد به، وأن تشير إلى أكثر مما تقول. فليست الكلمة في الشعر تقديماً دقيقاً، أو عرضاً محكماً لفكرة، أو موضوع ما، ولكنها رحم لخصب جديد. ثم إن اللغة ليست كياناً مطلقاً، بل عليها أن تخضع لحقيقة الإنسان الذي يجهد للتعبير كلياً، فهي، إذاً، ليست جاهزة بحد ذاتها، بل تشرق وتصير... علينا في الشعر أن نخرج الكلمات من ليلها العتيق، أن نضيئها، فنغير علائقها، ونعلو بأبعادها ".

إن هذا الوعي الدقيق في الحكم على أهمية الكلمة،ومالها من دور مؤثر في سياقها، لدليل على أن الحداثوية الراهنة رفعت من الدور المنوط بالكلمة في سياقها، وحداثويتها تظهر في نسقها الشعري المناسب الذي يرتقي بها درجات من التكثيف والفاعلية والإيحاء،وما نلحظه، هنا، أن أدونيس يربط بين الأفكار، فكرة تلو الأخرى، بانسجام وتوافق، وإدراك معرفي شمولي، إذ يعبر بوضوح عن الفرق اللغوي بين لغة الشعر العربي القديم، ولغة الشعر العربي الحديث، من حيث الشكل والنمط والفهم والوعي بالأثر الجمالي. فلغة الشعر العربي الحديث لغة التغيير، والإثارة، والتحفز الجمالي، والانبثاق المدلولي، في حين أن لغة الشعر القديم هي لغة وصفية لا تعبر عن العمق، وإنما تبقى على السطح، يقول أدونيس:"إذا كان الشعر الجديد تجاوزاً للظواهر، ومواجهة للحقيقة الباطنة في شيء ما، أو في العالم كله، فإن على اللغة أن تحيد عن معناها العادي، ذلك أن المعنى الذي تتخذه لا يقود إلا إلى رؤى أليفة، مشتركة... إن لغة الشعر هي اللغة- الإشارة، في حين أن اللغة العادية هي اللغة – الإيضاح. فالشعر الجديد هو، في هذا المنظور، فن يجعل اللغة تقول ما لم تتعود أن تقوله – فما لا تعرف اللغة العادية أن تنقله، هو ما يطمح الشعر الجديد إلى نقله. يصبح الشعر – في هذه الحالة – ثورة داخل اللغة. وفي هذا، يبدو الشعر الجديد نوعاً من السحر، لأنه يجعل ما يفلت من الإدراك المباشر مدركاً. كان الشعر التقليدي شعراً عقلياً، أي شعراً يعبر عن عالم يقوم على الترابط والانسجام، أما عالمنا الحديث فعالم مفكك. والشعر الجديد انبثاق عنه.. إذا ًمهمة اللغة أن تقتنص ما لا يمكن اقتناصه عادة، أو على الأصح ما لم تتعود هذه اللغة اقتناصه. صحيح أنه لا وجود لما لا يمكن التعبير عنه، لكن ذلك ليس بفضل وجود اللغة، كمفردات، بل بفضل وجود الشعر الذي يجعل من اللغة سحراً، ينفذ إلى كل شيء. ليس على الكلمة، إذاً، أن تكون مجرد تعبير بسيط عن فكرة، بل إن عليها أن تخلق الموضوع، وتطلقه خارج نفسه".

هنا، إن درجة الوعي الجمالي في التفريق بين لغة الشعر التقليدي، والشعر العربي الحديث أكدت الوعي والحس الجمالي في إبراز الفرق الشاسع بينهما،إذ، يبدو الانسجام والترابط واضحاً في كل جملة، وهذا الاتساق الفني العميق بين الجمل، يؤكد على دقة أحكامه، وحنكته في طرح الفكرة، ودعمها وتعضيدها بالأدلة، والبراهين من ضمن النسق الشعري من ذاته، وهذا الأسلوب جعله يميز في الفقرة السابقة بين الشعر الجديد، والشعر القديم من حيث طبيعة اللغة، وماهية العالم الموصوف قديماً وحديثاً، وما يثير القارئ هذا التقصي الدقيق للفكرة حتى يلم بجوانبها كلها، كما في قوله:" لقد انتهى عهد الكلمة- الغاية، وانتهى معه عهد تكون فيه القصيدة كيمياء لفظية. أصبحت القصيدة كيمياء شعورية. وأقصد بالشعور هنا حالة كيانية، يتوحد فيها الانفعال، والفكر. القصيدة الجديدة تركيب جديد ينعرض فيه، من زاوية القصيدة، وبوساطة اللغة وضع الإنسان...... إن الشعر الجديد هو بشكل ما، كشف عن حياتنا المعاصرة، في عبثيتها وخللها، إنه كشف عن التشققات في الكينونة المعاصرة، لذلك نحن نذكر هؤلاء الذين يثورون في وجه قصائد غير مفهومة، بأن عقلهم يثور غريزياً...... نحب أن تكون القصيدة وصفاً وحلية وتأوهات، وقيادة حماسية للجملة الشعرية، واليوم تفاجئنا القصيدة- بعكس ذلك – فتراها اكتشافاً لما لم نره، ولم نشعر به أبداً".

إن درجة الوعي الجمالي بالكلمة وقيمتها قد حقق قفزة في الوعي، والفهم الأدونيسي، وهنا بدت الأفكار مترابطة منسجمة، تؤكد حنكة الشاعر في تقصي الرؤية، من خلال تمييزه بين الشعر الجديد، والشعر القديم بأن الأول اكتشاف دائم، وسعي دائم إلى الابتكار. وأما في الشعر القديم فهو نمطي تقليدي يصف الأشياء وصفاً خارجياً، لايكاد يكتشف العمق.. وبهذا المقترب يقول:" إذ يتخطى الشعر الجديد العالم المغلق المنظم، يتجاوز الأسس التي يقوم عليها واقعنا، ويتطلع نحو عالم مجهول لم يعرف بعد... استطاع الشاعر في الماضي أن يلعب دوره في مثل ذلك العالم، فانحصر غالباً في مهمة تزيينية أو غنائية، لأنه كان يطمح إلى أن يجمل أو أن يضفي صفات الكمال على الأشياء. لكنه الآن لا يطمح إلى أن يعرض الأشياء في شكل جميل، سار أو مؤلم، مما يستطيع كل ذي بصر أن يحس به، بل إلى أن يكتشف، ويعري ما لا يقدر بصرنا أن ينفذ إليه.. يكاد معظم شعرنا العربي القديم أن يجهل دخيلاء الإنسان، وهذه الصميمية التي تقربنا من الأشياء وتتيح لنا أن نتعمقها، وننفذ إليها، غائبة عنه تقريباً. ومن مهمة الشعر الجديد أن يجعلنا في تماس دائم مع هذه الدخيلاء، وهذه الصميمية. ربما ازداد الآن وضوحاً معنى التنافر الذي أشرت إليه وقد يتضح أكثر إذا عددنا بعض مظاهره، فمن مظاهره، الفنية، الجديدة: حذف التسلسل المنطقي، وأدوات التشبيه، وعرض الصور مهما كانت عبثية، كأنها بداهة مضيئة، والانفعال المعقد المرهف، وتداخل الصور، والمشاعر، والرموز، وتجاورها، والمزج فيما بينها، هذا كله يباغت بصيرة القارئ ويبلبله. ومن مظاهر هذا التنافر اضطرار الشاعر أن يحمل الكلمات معاني لا تحملها، أو لم تتعود أن تحملها، أي الانشقاق الكبير بين أدوات التعبير، وما يراد التعبير عنه. ومن مظاهره أيضاً أن الشعر الجديد لا مثال له، لأنه يتجاوز المقولات التقليدية في تحديد الشعر وكتابته. ومن مظاهر هذا التنافر عمق الشعر الجديد، كان معظم الشعر القديم يحيا في سطح المادة والعالم، كان وضوحاً للواقع، ولهذا كان خارج الواقع الحي. والشعر الجديد محاولة للنفاذ إلى أعماق الواقع، وراء المظاهر والسطوح وصوب الخارق والفائق".

لاشك في أن تقسيم الأفكار،والربط فيما بينها من مغريات أرائه النقدية الكاشفة عن حسه الجمالي ورؤيته العميقة،وهذا الوعي في ربط الأفكار،والتوليف فيما بينها من محركات الأحكام النقدية الكاشفة عن حسه الجمالي،ووعيه الشمولي بالقضية النقدية المطروحة.
وبتقديرنا:إن ما أشار إليه أدونيس يؤكد فاعلية رؤيته، وإدراكه للفارق بين لغة الشعر القديم، ولغة الشعر الجديد، إذ يرى أن الشعر القديم يعيش دائماً على السطح، ولا يتغلغل إلى الجوهر، في حين أن الشعر الجديد ينفذ إلى الأعماق، إلى مركز الرؤية وجوهرها، وبهذا الأسلوب الائتلافي يؤكد الناقد أدونيس فهمه الواعي والدقيق لأهمية الشعر، وأساليبه المختلفة، وطرائقه في القديم والحديث، وهنا، يصل أدونيس إلى مسألة الخلاف الحادة بين قضية(الغموض/ والوضوح) من منظور تحليلي دقيق، يصل قمة في الوعي والفهم، قائلاً:"والحق -أنه ليس من الضروري لكي نستمتع بالشعر أن ندرك معناه إدراكاً شاملاً، بل لعل مثل هذا الإدراك يفقدنا هذه المتعة. ذلك أن الغموض هو قوام الرغبة بالمعرفة- ولذلك هو قوام الشعر.. إلا أن الغموض يفقد هذه الخاصية حين يتحول إلى أحاجٍ وتعميات. ولهذا، فإن شرطه، لكي يظل خاصة شعرية أن يكون إشارة إلى أن القصيدة تعني أكثر مما يقوى الكلام على نقله... إن القصيدة/ الأحجية هي كل قصيدة لا تعكس شيئاً، لا توحي شيئاً، لا تثير انفعالاً.. يمكن أن تحذف هذه القصيدة ليس من الشعر وحسب، بل من حقل الحساسية الفنية أيضاً. ومن جهة أخرى يمكن قصيدة ما، أن تكون واضحة بالمعنى العادي، لا سر فيها ولا سيماء عمق إلا أنها هي أيضاً يجب أن تحذف من الشعر، لأنها لا تقدم خلقاً جديداً لشيء ما، أو لمنظور ما".

إن ما أورده أدونيس لجد دقيق في إصابة الحقيقة الشعرية، أو مكمن الإثارة واللذة في النص الشعري،فالقصيدة الأحجية ليست من الشعرية في شيء، لأنها تصبح معضلة، وهنا تفقد رصيدها من الاستثارة والاستقطاب الجمالي، وكذلك الحال في القصيدة الواضحة التي لاتقدم إلا المعنى الأحادي والدلالات السطحية الصريحة، وهي كذلك تسقط من حقل الشعر والشعرية.
ولعل ما يميز أدونيس في تنظيراته،ومعالجته للقضايا النقدية الشائكة امتلاكه لذاد معرفي واسع، الأمر الذي يدلل على خبرته المعرفية، وتماسك أفكاره، وانسجامها، وترابط الرؤى وتوليفها، ليطرح في النهاية رؤية محددة، وحكماً نقدياً دقيقاً، إذ يقول في الحكم النقدي، المكتشف إزاء حركة الشعر الجديد،ومقوماته،ومؤثراته مايلي: " كيف نفهم، والحالة هذه، حركة الشعر الجديد؟ نفهمهما أولاً، بالتعاطف معها. فالشعر الجديد تجربة شاملة، معقدة، جديدة. وهو، ككل تجربة، يحتاج في فهمه إلى الإيجابية، وإلى التعاطف. ونفهمهما ثانياً بأن نلخص وعينا وعقليتنا من الأمور التالية:

السلفية، فالعقلية السائدة في المجتمع العربي عقلية سلفية ينبع مثلها الأعلى من الماضي لا من المستقبل.

النموذجية، وأعني بها أن الكمال الشعري من جهة نظر العقلية السائدة، كائن سابقاً في التراث العربي. وعلى الشعراء في المستقبل أن ينسجوا على نواله، فليس لمتأخر الشعراء، كما يقول ابن قتيبة، أن يخرج على مذهب المتقدمين الشكلية، فالتعلق بالنموذج أدى إلى التعلق بالشكل. فليس الشعر، من وجهة نظر العقلية السائدة، رؤيا، بل صناعة ألفاظ. إن الشعر العربي، من هذه الناحية، لا ينبع من كيفية رؤيا العالم وخلقه، بل من كيفية رؤيته وصنعه.

التجزيئية، فلا تنظر العقلية السائدة إلى القصيدة ككل وكوحدة، بل تنظر إليها كأجزاء مستقبلية منفصلة.

الغنائية الفردية، فقد درجت العقلية السائدة في المجتمع العربي على فهم، أو تذوق الشعر العربي الذي هو غنائي فردي في مجمله، إذ يعكس انفعال الشاعر كفرد، أو أوضاعه الاجتماعية كفرد.

التكرار، فالثقافة العربية الموروثة السائدة ثقافة إعادة وتكرار. إنها تدور ضمن عالم مغلق، محدد قبلياً، لا حركة فيه. هذه الثقافة، حقائق أبدية، أزلية، لا يجوز تخطيها... وبعد، هل يمكن أن نقوِّم الشعر الجديد ؟... إني أرى، شخصياً، أن تقويمه في هذه المرحلة سابق لأوانه إلا أننا، بشكل عام، ودون الدخول في التفاصيل، نستطيع أن نقول: إن الشعر العربي، وبخاصة في الحركة التي تمثلها مجلة شعر، آخذ في تحول، وتطور خلاقين لا مثيل لهما في تاريخه: إنه الآن يتجه – وعلى وجه التحديد- في مجلة شعر، على أن يصبح ذا نبأ تركيبي سمفوني يتيح له أن يحتضن الحياة كلها، والواقع كله. إن هندسة داخلية خفية تسيطر عليه، وتوجهه.مقابل القصيدة الكلمة، والقصيدة الفكرة، والقصيدة – الانفعال، وهي نماذج أصبحت تاريخية، تشرئب القصيدة الجديدة، القصيدة – الرؤيا. والقصيدة هنا ليست بسطاً أو عرضاً لردود فعل من النفس إزاء العالم، ليست مرآة للانفعال غصباً كان أو سروراً،فرحاً أو حزناً، وإنما هي حركة ومعنى، تتوحد فيها الأشياء والنفس، الواقع والرؤيا. إنها، بهذا المعنى، القصيدة- الواقع بكل أعماقه وأبعاده، أو القصيدة- الحياة. ومع ذلك فلعل أعظم ما تقوم به الحركة الشعرية الجديدة، بتجسيدها الأعمق والأكمل في مجلة شعر" هو أنها حركة منذورة في هذه الآونة، للبحث، للتقدم. إنها جهد حياتنا المعاصرة، وتوترها، لكي تنمو وتتفتح وتتكامل بلا حد".

لاشك في أن أدونيس في أحكامه النقدية وأطروحاته النظرية حول حركة الشعر القديم وتوجهاته، والشعر الحديث وأساليبه قد وقف على المؤثرات التي تميز كل واحد منهما عن الآخر، ومقدار امتلاكه خصائصه المميزة وسماته الخاصة التي يتفرد فيها كل واحد منهما عن الآخر،وهنا، يؤكد أدونيس على دوره المتنامي في إرساء قواعد الاختلاف بين الأسلوب القديم، والأسلوب الحديث المتبع في الشعر القديم والشعر الحديث، وبذلك يتبين لدينا فهمه للشعرية ومحفزاتها الجمالية.
التسلسل المنطقي في تتبع الأفكار، وإبراز توازنها، والبرهنة عليها:

إن ما يميز آراء أدونيس النقدية براعته في تتبع الفكرة، واستقصاء أبعادها، وخلق توازنها وائتلافها مع ما يسبقها من رؤى،وأفكار، وما يتلوها من دلالات ورؤى جديدة مكتشفة، فالفكرة-لديه- تجدها مدعمة بالحجج والبراهين التي تؤكد مصداقيتها، وائتلافها وتضافرها مع بعضها بعضاً، للوصول إلى الحكم النقدي الدقيق، مدعماً بالبراهين والأفكار المنطقية المقنعة، ومثالنا على ذلك، مناقشته لمفهوم الحداثة. إذ يقول: "يمكن اختصار معنى الحداثة، بأنه التوكيد المطلق على أولوية التعبير، أعني أن طريقة - أو كيفية القول أكثر أهمية من الشيء المقول، وأن شعرية القصيدة، أو فنيتها هي في بنيتها لا في وظيفتها. وهذا يتضمن نتيجة أساسية: ليست قيمة الشعر في مضمونه بحد ذاته، سواء أكان واقعياً أو مثالياً، تقدمياً أو مرجعياً، وإنما هو في كيفية التعبير عن هذا المضمون. قد يكتب شاعر عن موت شهيد ثوري قصيدة، ويكتب شاعر آخر قصيدة أخرى عن موت عصفور، ومع أن الموضوع الأول أغنى وأجمل. لكن هذا لا يعني أن القصائد تدور حول موضوعات من النوع الأول هي بالضرورة، قصائد رديئة. بل يعني أن المهم هو الشاعر، وكيفية تعبيره، وليس الموضوع بحد ذاته، ومن هذا نخلص إلى ثلاث حقائق:

الأولى، هي أن الإصرار على أولوية الموضوع، أي على وظيفة الشعر، إنما هي نفي للشعر. والثانية، هي أن القارئ الحقيقي كالشاعر الحقيقي لا يعنى بموضوع القصيدة، وإنما يعنى بحضورها أمامه كشكل تعبيري، أعني بنيتها الفنية الجمالية.

والثالثة، هي أن على القارئ الجديد أن يتوقف عن طرح السؤال القديم: ما معنى هذه القصيدة؟! وما موضوعها؟ لكي يسأل السؤال الجديد: ماذا تطرح علي هذه القصيدة من الأسئلة، وماذا تفتح أمامي من آفاق؟. في هذا السؤال ما يشير على أن الشعر، الشعر الحقيقي، لا يستنفد: أي أن فيه كثافة وغموضاً، وإلى أنه يجب تذوقه كما هو، بما هو، لذاته، كما نتذوق الليل، كما نتذوق البحر.

إذاً، كيف نفهم الصلة بين الشعر والثورة؟ يفترض بحسب العادة، أن نحدد الشعر والثورة، قبل أن نحدد الصلة بينهما. لكن السؤال عن ماهية الشعر وماهية الثورة، لا يهم الشاعر الثائر، وإنما يهم هواة الثورة والشعر".

إن التدقيق فيما أورده أدونيس من آراء في منظوره النقدي حيال علاقة الشعر باللغة والفرق بين الشعر الحقيقي الذي يبصم،ويؤثر،والشعر الضحضاح السطحي الذي لايتجاوز جسده اللفظي، يقودنا إلى حقيقة آمن بها أدونيس،وهي أن الشعر الحقيقي لا يركز على الموضوع بقدر ما يركز على الطريقة الفنية والجمالية في نقل الموضوع،وتجسيده فنياً، في حين إن المووضوع مهما كان عظيماً لاينتج نصاً إبداعياً عظيماً، لأن القيمة ليست بالموضوع وإنما في شكل التعبير ومظاهر إثارته وجذبه للقارئ جمالياً.

ووفق هذا التصور، اعتمد أدونيس في طرحه لهذه المسألة(مسألة التعبير الإبداعي/ والتعبير التقليدي المستهلك) التسلسل المنطقي في تتبع الأفكار، والبرهنة عليها، معتمداً في البداية تعريف مفهوم الحداثة، ومن ثم اتجه بعد ذلك إلى طرح الأفكار، والتوليف فيما بينها حول قيمة الشعر، وماهية الشعرية والموضوعات التي تطرحها الشعرية، ثم استنتاج الحقائق، والبرهنة على صحتها، والوصول إلى النتيجة النهائية، والقيمة المنشودة من هذا الحكم النقدي أو ذاك.
ولو تتبعنا المسألة التي طرحها أدونيس حول مسألة [ الحداثة والقصيدة الحداثية ] لخلصنا إلى أحكام جريئة، ومواقف رؤيوية غاية في الوعي والخبرة الجمالية في تتبع الظاهرة والوقوف على حقائقها، إذ يقول " * ليست القصيدة الحديثة مجرد شكل من أشكال التعبير، وإنما هي أيضاً شكل من أشكال الوجود.

* تزداد قيمة القصيدة عند بعضهم بقدر ما تقترب من سيماء شعر عرفوه، أما عندي فإن قيمة القصيدة تزداد بقدر ما تبتعد عن هذه السيمياء، بحثاً عن سيميائها الخاصة.

* هل شعرك حديث؟! إذا هو، قبل كل شيء، ومن حيث التجربة وأشكال التعبير، مختلف عما سبقه، لا مؤتلف معه. علينا، بهذا المعنى، لكي نكون- بالفعل- شهود عصرنا، والمعبرين الحقيقيين عن التجربة العربية الحديثة- علينا أن نفتح الهاوية في كل مكان.

* السائد في الحياة الثقافية الأدبية، هو الحكم للكاتب، أو عليه بمقاييس غير فنية. نرفضه نحاربه، نقلل من شأنه، وأهميته لأنه يخالفنا الرأي، والفكرة، أو العقيدة، أو السياسة. نرى أن أدب الكاتب فاسد لأن آراءه السياسية، أو الفكرة بالنسبة إلينا فاسدة. فأهمية الكاتب أو تفاهته تتصلان، عندنا- بآرائه أكثر بكثير مما تتصلان بإبداعه. وهذا مما يفسد الحياة الأدبية، ويشوه قيم الإبداع، ويقضي في النهاية على الإبداع ذاته".

لقد أصاب أدونيس مكمن الحقيقة الشعرية والعقلية العربية في تلقي النص الإبداعي، فالقيمة ليست للمبدع أوالمنتج الإبداعي بقدر ماهي للعرف والواقع السائد في الفهم الإبداعي، إن هذا الفهم سرعان ما أضعف العقلية الإبداعية في تلقي المنتج الإبداعي، بل و الحكم عليه سلفاً بالعزلة،والانغلاق،و القيدية( الموت النصي) أو السكتة الإبداعية.وهذا ما كشفه أدونيس في منظوراته النقدية، وأحكامه المختلفة حيال المنتج الإبداعي، وشكل القصيدة،ومضمونها، فالذي يحاربه القارئ يتمثل حقيقة في أفكار المبدع ذاته، و ليس شكل الإبداع، وطريقة التعبير، وعلى هذا يمكن القول:إن القدرة التي يملكها أدونيس من حيث ربط الأفكار، بتسلسل منطقي، مقنع يهب آراءه النقدية قيمة أدبية عالية من جهة، وقيمة فكرية مدعمة بالبراهين والحجج والأدلة الدامغة التي تؤكد مصداقيتها وقربها من ملامسة دواخل المتلقي من جهة ثانية، تسعفه في ذلك بساطة في الطرح، وسلاسة في استخلاص النتائج، والبرهنة عليها، ففي قوله:[ ليست القصيدة الحديثة مجرد شكل من أشكال التعبير، وإنما هي شكل للوجود]، يبرهن الشاعر على فاعلية القصيدة الحداثية، بوصفها شكلاً من أشكال الوجود، وليست مجرد شكل من أشكال التعبير، فهي تتجاوز الشكل إلى نطاق الجوهر، وفي هذا الانتقال تبيان لأهمية الشكل الأسلوبي الجديد للقصيدة الحداثية، مقارنة بشكلها القديم، فهي ليست مجرد شكل لغوي تتخذه القصيدة كجسد لغوي، وإنما هي شكل للوجود،يظهر أثره من خلال جوهر الرؤيا التي تطرحها القصيدة. وبهذا المعنى، تكتسب آراء أدونيس مصداقيتها الفنية، وطاقتها الإبداعية بحسن نسقها، وترابط أفكارها، وتلاحمها، وطرحها النقدي الجديد.

جمالية الانتقال بالأفكار وتعزيزها وتأكيد مصداقيتها:

إن إدراك أدونيس لدور الكلمة، وقيمتها في لغة الشعر، دفعه إلى التركيز على كيفية التشكيل وطريقة التعبير، لهذا امتازت آراؤه النقدية بجمالية الانتقال الفني المترابط بين الأفكار،وتعزيزها، وتأكيد مصداقيتها، إذ تتضمن أفكاره التسلسل،والتماسك،والإقناع عبر المحاكمات العقلية المقنعة، والإمتاع المعرفي، عبر السلاسة اللغوية، والبساطة في طرح الأفكار وتعزيزها بالبراهين، والأدلة المنطقية الدامغة، ومثالنا على ذلك هذه السلاسة في الانتقال بين الأفكار وتعزيزها في قوله:" إذا كان الشعر لا يعمل، وكان تسمية للأشياء، فمن الممكن تحديده بأنه فن لغوي: نوع فريد من اللعب الخاص في حقل الكلمات، أكثرها لصوقاً بالنفس، وكشفاً عن العالم، فإنه أعمقها قدرة على التسمية، وأكثرها نفاذاً وصحة. وهو إذاً، في هذه التسمية، لا " يعبر " عن الأشياء أو الواقع، وإنما يحرك جزءاً غفلاً من الكون، أو يوقظ قوى خفية، ويشير إلى ما ليس معروفا...ً فليس الشعر تعبيراً، إنه تأسيس".

إن هذا الوعي في تتبع الفكرة،والبرهنة عليها، وتعريفها بدقة لهو طريق نجاح أدونبس في إكساب حكمه النقدي قيمته وبلاغته، وإصابته المعنى والهدف المنشود.وهذا يدلنا على أن التمهيد للفكرة، ونسج الجمل والربط بين الأفكار لهو سر إبداع أدونيس في آرائه النقدية،إذ يعتمد التآلف بين الأفكار من جهة، والإمتاع اللغوي عبر الحجج، والبراهين، والرؤى المقترحة من جهة ثانية، مما يكسب أفكاره وأحكامه النقدية خصوصيتها في العمق، والإمتاع، و التأثير،نظراً إلى تقصيه البارع، كما في هذا القول عن وظيفة اللغة الشعرية، ودور اللغة في الإبداع أو الصوغ الشعري البارع،ودليلنا أيضاً قوله:" باللغة يظهر الإنسان ما هو، وبها يتأسس، ويتحقق...إنها ممارسة كيانية للوجود، أو هي شكل وجود، قبل أن تكون شكل تواصل، أو بتعبير آخر: لم تكن اللغة للإنسان الشكل الأساس لتواصله، إلا أنها كانت الشكل المبين لوجوده. والشاعر -إذاً- لا يكتب عن الشيء، وإنما يكتب الشيء. إذ اللغة ليست للإنسان لكي يقول ما هو واقع وحسب، وإلا تسامت بغيرها من الأدوات، وإنما هي أيضاً، وقبل ذلك، لكي يقول الوجود- كينونة وصيرورة. لذلك حيث لا تكون لشعب ما لغة على هذا المستوى، لا يكون له تاريخ فعال، ولا ثقافة عظيمة.. في هذا المنظور يتضح معنى التجريد، كمفهوم فني. فهو كبحث عن الجوهر، محاولة لرؤية مالا يرى. وهو إذاً، تجاوز للطبيعة، وأشكالها، وخلق عالم من الأشكال المحضة، أو هو رد الأشكال كلها إلى جوهرها. إنها تشفيف للمادة. لا يريد منها غير الجوهر. الأشياء المادية فوضى تشوش وزوال.. رماد مبعثر. من هذا الرماد يلتقط التجريد إشارة النار.. فمشروعه تبصيري لا بصري.. إنه مشروع اكتناه" وخلق جديد للوجود.

إن اللغة في الشعر ليست ممارسة لغوية فحسب،وإنماهي طريقة في التفكير والتعبير، وهي بحث عن الكينونة والجوهر،إنها ليست فوضى الإحساس، وهي رؤية ما لايرى، إنها الكون المتنامي الذي مازال يعطي، ويمنح ويخلق وجوده الجديد.

إن ما يميز الجمل السابقة التوليف الدلالي فيما بينها من حيث جمالية الانتقال بالأفكار، وتعزيزها بالأدلة المقنعة، لتأتي الفكرة مبرهنة مقنعة، شاعرية، دقيقة في إصابتها المغزى الدلالي.
واللافت أن أدونيس يطرح بعض الآراء القيمة حول الموضوع المدروس [ اللغة/ الثقافة/ الواقع] بإدراك معرفي، إذ إنه ينتقل بين الأفكار بسلاسة لغوية، خبرة معرفية، تنم على مهارة، وحنكة، ومراوغة في الانتقال من فكرة إلى أخرى، ومن دلالة إلى أخرى، بحسن تأملي دقيق، وإدراك معرفي شامل، إذ يقول:" الاتجاه الثقافي الغالب في المجتمع العربي هو التمسك بثقافة الماضي إلى درجة يعتقد معها أنه بقدر ما يحافظ على هذه الثقافة، يحافظ على وجوده ذاته. ليس هذا التمسك اعتقاداً وحسب، وإنما يتجسد في الحياة ذاتها- في البرامج التربوية، وفي المؤسسات الثقافية، وفي حركة الفكر. وهو يعكس مفهوماً معيناً للثقافة: معرفة الكتب الماضية أو معرفة ما لا يتناقض معها. وهذه معرفة يتحدث عنها الذين يمثلون هذا الاتجاه الغالب، من مربين ومفكرين وكتاب، بنبرة تكاد أن تشارف التقديس.. هكذا، يرون أن قوة المجتمع العربي، مرهونة بقوة الثقافة الماضية، ومدى استمرارها، وفعلها... ومن هنا أتى السبب في أن الثقافة العربية لا تزال حفظاً ونقلاً. أي أن العلاقة بينها وبين العربي لا تزال تشبه علاقة مخطئ بمعصوم، وتلميذ بمعلم. التساؤل، الرفض، التجاوز... هكذا كلها ليست خروجاً على الثقافة وحسب، وإنما هي كذلك خروج على المجتمع ذاته، حتى إن الغريب عن المألوف لا يعد إبداعاً، وإنما ينظر إليه من باب الفضول والتعجب، وعلى أساس أنه يصدر عن نوع من الجنون. وليست حياتنا اليومية إلا صورة عن ثقافتنا: عالماً موحشاً من النهي والأمر".

إن نظرة أدونيس الصائبة إلى الثقافة العربية على أنها تقديس الماضي، وتمسك بتعاليم الماضي وبرامجها التربوية ومؤسساتها الثقافية لجد دقيق في إصابة واقع تخلفنا الراهن وثقافتنا القاصرة،ومشكلة النظرة إلى واقعنا وتاريخنا. وهنا،نلحظ أن اعتماد الجمل البسيطة، وتآلفها،وتوازنها يؤكد بداعة منظوره النقدي، وحسه المعرفي، من خلال تنظيره وفهمه للقضايا الأدبية ومن ضمنها لغة الشعر، إذ يقول: " ليست اللغة وسيلة تعبير وحسب، وإنما هي كذلك طريقة تفكير. لكل وضع اجتماعي إذاً لغته: لغتنا السائدة هي لغة أوضاعنا السائدة. وهذه أوضاع متخلفة على جميع المستويات. لهذا، كانت هذه اللغة متخلفة على جميع المستويات، إنها لغة بيانية، ضعيفة، زخرفية، والمجتمع هنا، يستهلك اللفظة، كمتعة فردية، أي، كما يستهلك السلعة. هكذا فقدت اللغة حيوية الإبداع وحرارة الحياة: تحولت إلى ما يشبه الركام. لهذا، أخذت تناقض العمل. إنها تمجد لحظة الكلام، لا لحظة العمل، لحظة الاستهلاك، لا لحظة الإنتاج".

إن ما اكتشفه أدونيس من أن اللغة طريقة تفكير،وأنها ليست وسيلة تعبير فحسب، جعل حكمه مصيباً وتقصيه مقنعاً، إذ يرى أن الثقافة مظهرها اللغة/ وتطور اللغة، لأن اللغة – من منظور أدونيس- ليست وسيلة للإفصاح والتعبير بقدر ما هي طريقة للتفكير... ولما كانت اللغة لغة أوضاعنا المتخلفة فقد أصبحت متخلفة كذلك عن مواكبة العصر والتطور التقني الحالي، لذلك، بدت متخلفة هي أيضاً، وبحاجة إلى التطور، لتعبر عن ثقافتنا وأوضاعنا وإبداعنا المستقبلي والراهن.. إن هذا الانتقال بين الفكرة والأخرى يؤكد مصداقية الرؤية النقدية، وعمقها وتآلفها، من جهة، ويؤكد كذلك بداعة المنظورات النقدية ودقتها عند أدونيس في إصدار الأحكام النقدية، تبعاً لتقصي، وإدراك شامل للرؤية، أو الحدث، أو الفكرة المجسدة.

ويتابع أدونيس هذا التقصي بقوله:" لا يمكن أن يتولد الوعي من قراءة التراث أو تعلمه، فهذه القراءة تنقل ثقافة من فوق، ومن خارج الحياة العلمية: أي أنها تنقل ثقافة تعليمية وتجريدية في آن.. نضيف إلى ذلك " أما الجماهير" العربية فتعيش في دوائر مغلقة، ولا تعيش متفاعلة ذائبة في نسيج اجتماعي متحرك، واحد وفعال. وكما أن ثقافتها جزء من ثقافة السلف، فإن حياتها استمرار لحياة السلف. ليس همها إذاً أن تبتكر، بل أن تتشابه، لكن، لا زمان إلا لمن يبتكر. أما الذي يكتفي بالنقل،والتشبه فكأنه يرفض المستقبل: ويعيش في ماض يتطاول..

إن الجماهير العربية لا تزال تعيش في زمن ثقافي مائت. وهي لذلك، لا تزال تواجه التاريخ بما أصبح خارج التاريخ... إن دخول الإنسان العربي في حركة الثورة مرهون، إذاً، بحريته الكاملة في الممارسة الثورية، العملية والنظرية، وفي إعادة النظر الجذرية المستمرة في ما يرثه من مفاهيم، وقيم، وفي ما يحققه. وبهذا وحده يتفتت العالم القديم، ويصعد من أنقاضه عالم جديد: عالم زاخر من الأشكال، والأوضاع، والأفكار... من هنا يتغير معنى صلة المثقف الثوري أو المبدع الثوري بالموروث. فهي ليست صلة إحياء أو تمجيد.وإنما هي صلة نقد، وتحليل، وتجاوز. هكذا، ندرك كيف أن دور المبدع لا يكمن في المحافظة على النظام الثقافي الموروث، وإنما يمكن في تفجيره وتطويره".

فأدونيس يرى أن الوعي بالتراث لا ينطلق من ثقافة موروثية، وإنما ينطلق من وعي حداثي بهذه الثقافة، وتمحيصها.. فالثقافة الموروثية هي ثقافة نقد، وتحليل، وتجاوز لا ثقافة إحياء، وتمجيد، وتقديس للتراث، والناقد إن لم يملك أدواته المعرفية في نقد التراث لن يحصل شيئاً، لأن بذرة المعرفة -عند أدونيس- تكمن في الاكتشاف، والتجاوز، والابتكار لا في التمجيد والتقديس الذي لا ينتج سوى فقاعات لا قيمة لها سرعان ما تذوب، وتضمحل، وتتلاشى. إن هذا الإدراك و الوعي -لدى أدونيس- قد جعل آراءه النقدية من طريقة تفكيره ومظهر حداثته، إذ يقول:" لا يمكن أن تخلق ثقافة عربية ثورية إلا بلغة ثورية. كيف نجعل، إذاً، من اللغة العربية لغة ثورية؟ هذه فيما يخيَّل إليَّ مشكلة من أعقد المشكلات التي تواجهها حركة الثورة العربية. لكن ماذا نعني بثورة اللغة؟ نعني أن تصبح الكلمة، وبالتالي الكتابة قوة إبداع، وتغيير تضع العربي في مناخ البحث، والتساؤل، والتطلع... الكلمة، كما ورثناها، لا تعبر عن كثافة انفعالية أو رؤياوية، بل عن علاقة خارجية، إنها شبه حيادية، لأنها مملوءة بدلالة مسبقة تجيئها من خارج. حين حاول أبو تمام، مثلاً، أن يثور على هذه الكلمة، قيل عنه إنه أفسد الشعر، وهذا يعني إنه غير نظام الكلام الموروث. لذلك لم يفهمه القراء والنقاد الذين يرثون هذا النظام ويحافظون عليه "

ويتابع قائلاً:" الثورة اللغوية هنا تكمن في تهديم وظيفة اللغة القديمة، أي في إفراغها من القصد العام الموروث. هكذا تصبح الكلمة فعلاً لا " ماضي" له، تصبح كتلة تشع بعلاقات غير مألوفة... الثورة التي نتطلع إليها في اللغة العربية ليست، إذاً، شكلية أو جمالية تقصر همها على حروفية الألفاظ، على جرسها الخارجي، على تآلفات النغم واللفظ. وإنما هي تفجير للغة من الداخل. إن ثورة اللغة حين تقتصر على الشكل، على الجرس وإيقاعاته النغمية، تتحول إلى ترجيع مصطنع.
وهو بذلك، يشير إلى أن وظيفة اللغة في ثورتها اللغوية، وتجاوزها للمأثور من القول، ولذا، فالكلمة الشعرية تشع بإيحاءات لا حدود لها، تصبح كتلة من المشاعر، والرؤى، والأحاسيس، لا تقتصر فقط على جرسها الصوتي وإيقاعاتها النغمية الخارجية فحسب، وإنما هي تفجير للكلمة واللغة من الداخل، لتعبر عن جراح الذات، وتأملاتها، وحيثياتها الوجودية، فتبدو لغة الحداثة لغة نابضة من جوهر الذات ومعاناتها، وتطلعاتها، وبهذا يؤكد ما يدعم موقفه الحداثوي قائلاً:" ليست هذه الثورة عودة إلى الجذر، أو الأصل. فمثل هذه العودة تجعل من اللغة كياناً مقدساً، لغة فوق اللغة، أي أنها تعزلها عن التاريخ والزمن والإنسان، وتحولها إلى طقس يحرك الإنسان في اتجاه الأبدية. هكذا، تصبح اللغة إقامة مسبقة في الجنة لذلك ترفض التلوث بغبار الأرض، أو الاندماج في الواقع اليومي، لأن هذا الواقع تغير مستمر، أي فناء دائم، فيما هو بقاء دائم...، واللغة، بحسب تلك النظرة، لا تحب الفاني، بل الباقي.

ومن هنا، تهمل الحاضر لأنه ليس إلا عبوراً سريعاً نحو الأبدية. غير أن التعلق بالأبدية يؤدي إلى سلبية كاملة. يصبح اغتراباً كاملاً عن حركة التاريخ، وهذا يؤدي باللغة إلى أن تعيش خارج الزمان والمجتمع. ومن الطبيعي، إذاً، أن تهدم الواقع لكي تبني الكلام. لكن زمن مثل هذا الكلام هو نفسه زمن باطل لأنه يتوق إلى الذوبان والانصهار في الأصل والجذر، في الأبدية... والوحدة في لغة كهذه ليست وحدة تأليف بين عناصر مختلفة، وإنما هي كوحدة الخطوط الأرابيسكية، وحدة عناصر تتكرر، وحدة مبعثرة.. إنها وحدة الكلمة التي " تصطنع "، ووحدة البيت الشعري المفرد".
إن الثورة اللغوية – التي يقصدها أدونيس – ليست العودة إلى الجذر التاريخي إلى الموروث وتمحيصه، وإنما في السعي إلى تجاوز الموروث بما هو جديد ومبتكر، بلغة لا تقدس اللغة، وإنما تتجاوزها إلى لغة إيحائية، تحطم قيود اللغة السائدة التي تقدس التراث، وتصفه وصفاً دون التغلغل إلى أعماقه، ونقده، والإضافة إليه، مما يجعل اللغة تقف على السطح دون التغلغل إلى الباطن، وهذا من ثم يجعلها تعيش خارج الزمان والمجتمع، ويجعلها تجريدية بعيدة كل البعد عن الواقع اللغوي الذي نشأت وترعرعت فيه.. وقد جاءت جمالية الأحكام النقدية من خلال الانتقال المتوازن بين الأفكار، وتعزيزها، وتأكيد مصداقيتها، عبر سلاسة اللغة، ودقتها، ومحاكمتها العقلية المدعمة، بالحجج والبراهين والأدلة الدامغة،وهنا يفرق أدونيس بين اللغة القديمة والحديثة قائلاً:" الفرق الأساسي بين اللغتين " القديمة " و" الحديثة" هو أن المعنى في اللغة القديمة موجود مسبقاً، والكاتب يصوغه بشكل جديد.لكن المعنى في اللغة الحديثة (الثورية) ينشأ في الكتابة وبعدها.. فالمعنى فيها بعدي لا قبلي.. من هنا تنشأ مشكلة الصلة بين الجمهور والكاتب الثوري. الكاتب الثوري الذي يعيش وسط جمهور كجمهورنا العربي، معزول بحكم إبداعه (أي ثوريته) من جهة، وبحكم التخلف الموروث الذي يخيم على هذا الجمهور، من جهة ثانية. الجمهور يتعلق، بل يتشبث بكل ما يبقيه ضمن العالم الذي ألفه لكن الكاتب ليس ثورياً إلا لأنه يزعزع هذا العالم الأليف، الموروث من أجل ابتكار عالم نقي، جديد".

إذاً، إن أدونيس يرى أن المعنى في اللغة القديمة معنىً مؤطر بشكل مسبق، أي محدد، ومقنن، في حين أن المعنى في اللغة الحديثة معنىً بعدي، أي تفرضه طبيعة اللغة... فهو الذي يتولد لحظة الصوغ الشعري، في حين أن المعنى في اللغة القديمة معنًى محدد، ومؤط،ر ومقولب بشكل مسبق، وهذا ما يجعل اللغة القديمة لغة وصفية محددة من قبل المبدع ومفهومه، لا من قبل القارئ ومكتشافاته، لأنها تقع ضمن العالم الذي ألفه وعاشه، وتعرف عليه، لكن اللغة الحداثية لغة ثورية لأنها تزعزع قيم القارئ ومفاهيمه.. نظراً إلى جدة العالم الذي تطرحه، والذي لا يعيه المتلقي، وتصدمه بهذا العالم، ليعاود اكتشافه من جديد.. يقول أدونيس:" ليست الكتابة الثورية وقوداً، بل هي الضوء الذي يتوهج أبداً، بتعبير بسيط: لن تستطيع الكلمة كإبداع أن تربح للثورة شخصاً لا يشكل إبداع الحياة وتغييرها جزءاً جوهرياً من كيانه وفكره. قد تربحه" ككتلة مادية"، كتراكم وراثي"... لكنه في مجمل هذه الحالة لن يكون أكثر من وقود. والأساسي، له، وللثورة، وللمستقبل، أن نجعل له بؤرة من الضوء، لا حطبة يابسة. إن الدور الحقيقي للكاتب الثوري العربي يتمثل -فيما أسميه- تفكيك الزمن الموروث. ووسائل التعبير السائدة، سواء في الشعر أو النثر، في الموسيقى أم الرسم، في التمثيل أو الغناء، لا تزال رسوماً تزيينية تلتصق على ساحات هذا الزمن وجدرانه. لقد فقدت، كهذا الزمن، القدرة على الخلق. لذلك لا بد من الشجاعة لرفض هذا الزمن، وهذه الوسائل والهبوط عميقاً، فيما وراءها، إلى التفجيرات القادرة على إعادة خلق الإنسان العربي، وتحريك فكره، وكيانه كله في اتجاه الثورة. لا بد من شجاعة الاعتراف بأن هذا الزمن مات، وبأن وسائله ومضموناته ماتت، وبأنه يستحيل أن نثور به أو بها. دون ذلك سنظل كمن يحارب الطفولة بالهرم، وشمس المستقبل بظلام الماضي".

إذاً، إن الدور الحقيقي للكاتب الثوري- من منظور أدونيس- يكمن في تفكيك وسائل التعبير السائدة، والثورة عليها بطرائق تشكيل جديدة، قادرة على كشف ما مضمر في الداخل، أو كشف ما كامن في الجوهر، من خلال القدرة على الخلق الفني، والابتكار. ولولا ذلك لا يمكن أن يطور الشاعر في رؤاه وأفكاره،ومن هنا فإن الكاتب الثائر هو الذي يغير في أدواته التعبيرية، ليعبر باللغة عن مضمونات جديدة، ورؤاه الثورية التجديدية في الحياة والفكر جميعها.

ويتابع أدونيس قائلاً:" يحدد سارتر الكلمة في دراسة له عن (مالارميه) بأنها طريقة امتلاك الشيء، وهو امتلاك ينقل الشيء إلى الآخر، ذلك أن الإنسان يكتب لكي يوصل إلى الآخر ما يكتبه، غير أن (مالارميه) لا يستخدم اللغة لكي يقرب العالم إليه، بل لكي يبقيه بعيداً عنه، لكن هل تستطيع اللغة أن تنقل حقيقة العالم؟.. إن كثيراً من الباحثين في علم اللغة يشككون في إمكانية هذا النقل. فاللغة – بالنسبة إليهم- لا تقدر أن تتجاوز سطح التجربة. أما الباقي فيظل خارج اللغة، غائباً، يلفه الصمت. إن الكلمة تعجز أكثر فأكثر عن النفاذ إلى عالم الطاقة الكونية، عالم التواصل الفضائي، والزمن النسبي، والبنية الذرية للكائنات. كأن الحقيقة، إذاً، تبدأ الآن خارج اللغة..... لكن بعضهم لا يرى أزمة اللغة في اللغة ذاتها، بقدر ما يراها في غياب أو انعدام الأنبياء أو السحرة الجدد الذين يستطيعون أن ينفضوا عنها رمادها، ويبعثوها متوهجة كشمس الصباح"().
إن ما يؤكده أدونيس أن اللغة ليست العائق الوحيد في تخلف الفكر العربي، وإنما في الفهم الحقيقي لدور اللغة وفاعليتها في التغيير، إذ يقول:" إن التطور الحديث بلبل علاقة لغتنا بالعالم، وهو يفصل بينهما شيئاً فشيئاً، مثلاً، الكلمات التي نتداولها ضائعة فهي الماضي الذي تجاوزه تفكيرنا، لكنها- في الوقت نفسه- الماضي الذي لا يزال مستمراً في مؤسساتنا. وهي إذاً، لا تعبر عن واقعنا وحاضرنا، ولا عن مستقبلنا، وإنما تعبر عن وهم استمرارنا في الوجود. وهذا الفرق بين اللغة والواقع آخذ في التزايد يوماً فيوماً. وحين لا يعود للكلمات معنىً تصبح أية كلمة صالحة لأي شيء، أو لأي معنى. هكذا، نتكلم لكي نقتل الكلمات، أو لكي لا نقول شيئاً، أو نتكلم لغة لا نقول إلا ما يناقضها، الطاغية يتحدث عن الحرية، والمنافق عن الصدق، والكاذب عن الحقيقة. في ضوء ذلك، نكتشف أن العجز عن التعبير، عن الإحاطة بالعالم وأسراره، والذي ينسب عادة إلى اللغة، لا يكمن في اللغة بحد ذاتها، وإنما يكمن في غياب الإنسان الذي يعرف أن يفرغ اللغة من ليلها العتيق، ويردها إلى براءتها الأولى. هنا يكمن سر الإبداع الشعري. وفي هذا المستوى وحده يصح القول: إن الشعر هو، أولاً، لغة... لكن إذا أردنا أن ندرس هذه العلاقة بين اللغة والموضوع – على الصعيد الاجتماعي- السياسي في العالم العربي الذي يتحرك في اتجاه الثورة، فماذا نلاحظ؟! نلاحظ أن ثمة انفصالاً بين الثورة، كلغة وفكر، أي كواقع يعبر ويفكر، والثورة كعمل وتغيير، أي كواقع يتبدل في قاعدته وقمته، في بنيته السفلى وبنيته العليا... ويتجلى هذا الانفصال، بشكل مباشر وواضح- في كون العربي الثوري لا يزال تجريدياً من ناحية، منصهراً في الفكر الثوري العالمي من ناحية ثانية، إنه، بتعبير آخر، مؤتلف وليس مختلفاً. وهذا الائتلاف يتحول إلى تبعية تقارب الأنساق، لأنه، حتى الآن، لا يتحرك في اتجاه التمايز أو الاختلاف غير أن هذا الاختلاف لا يتم إلا بشرطين:

الانبثاق من الواقع العربي الذي نرثه والذي نعيشه في آن.

إعادة اكتشاف الفكر الثوري ونظرياته في ضوء هذا الواقع، أي في ضوء تحليله وفهمه والإحاطة به. الأساس، إذاً، لنشوء الفكر الثوري العربي هو تحليل الواقع العربي. لكن، لماذا لا يحلل المفكر العربي هذا الواقع؟ أنا لا أعتقد أن السبب في ذلك يعود إلى نقص في المحللين أو في أدوات التحليل، كما يرى بعضهم، وإنما يعود إلى انعدام حرية التحليل، أي إلى انعدام شجاعة المحللين. فكل تحليل لكي يكون واقعياً ثورياً في آن، لا بد له من أن يتناول الواقع العربي ككل، بدءاً من الإنسان ذاته، مروراً بالمؤسسات الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، وانتهاء بالأيديولوجية والدين، وهنا المأزق: لن ينشأ فكراً ثورياً عربياً إلا بدءاً من هذا التحليل، وهذا التحليل شبه مستحيل في ظل انعدام الحرية أو انعدام الشجاعة. وهكذا، يلجأ المفكر الثوري العربي إلى الكلام منعزلاً عن الواقع الذي يعيش فيه، متحدثاً عن الواقع الثوري الآخر الذي يعيش فيه الفكر الثوري الآخر، مغطياً هذا كله بقشرة عربية".

هنا، نخلص من قول أدونيس إلى النتائج التالية:

إن الفكر الثوري لينطلق لا بد له من وعي ثوري يمحص المعطيات الواقعية، وينطلق من خلالها إلى وعي ثوري يقوم على تغيير المنظورات السائدة، من خلال تحليل الواقع العربي تحليلاً كلياً شاملاً لكل القضايا الاقتصادية والسياسية مروراً بالأيديولوجية والدين.

إن الفكر الثوري لا بد له كذلك من التخلي عن نقد الماضي والتراث، لخلق ما يسمى وعياً ثورياً للانطلاق بالفكر من تمحيص التراث، والانطلاق منه إلى ثورة فكرية تنزع إلى إلغاء فكرة التقديس، ونزع هذه المعطيات التهويمية للماضي،لخلق الجديد على الدوام.

إن العجز الفكري الذي ران طويلاً على لغتنا وفكرنا لا يكمن في اللغة، وإنما يكمن في غياب الإنسان المفكر الذي يمحص الأشياء، وينطلق في الأحكام، لا أن يقف عند مستوى اللغة والوقوف أمام كل جديد بشكل انطوائي غير مدرك لأهمية الفكر التحرري من قيود الماضي.. ولذلك لا يمكن أن نغير الواقع دون ثورة فكرية وثورة لغوية وثورة على الواقع الفكري المتدني، أو المبتذل، أو المستهلك.

مصداقية الأحكام النقدية وبداعة مناقشتها:

إن أدونيس- في نقده- يفوق شعره أحياناً، لأن أدونيس ولد ناقداً، وليس شاعراً فحسب، والشاعر عندما يولد ناقداً، يعي أهمية النقد، ودوره في بلورة تجربته الإبداعية، لهذا، جاءت أحكامه النقدية ناتجة عن عمق ودراية، وإدراك معرفي شمولي بالقضايا الأدبية المطروحة، إذ يقول في مسألة اللغة:" تكون اللغة، في الشعر، مجرد لغة، أي تكون لغوية في حالتين: إذا كانت وعاء أو ثوباً، وإذا كانت نسقاً لفظياً ينتظم جلجلة أصدائية. ذلك أنها لا تكون في الحالتين إلا قشرة، أو ناقلاً. غير أن اللغة في الشعر تكون شعرية حين تقيم علاقات جديدة تبين الإنسان والأشياء، 2- بين الأشياء والأشياء، 3- بين الكلمة والكلمة. أي حين تقدم صورة جديدة للحياة والإنسان.. وما أظن أن لغتي وعاءاً أو ثوباً وما أظنها جلجلة أصدائية. يعرف ذلك من يعرف الشعر. حين نقول إن شاعراً ما يعنى باللغة نقصد أنه يعنى بالكلمات كقيم صوتية أو جمالية، بحد ذاتها. ونعني أن الشعر بالنسبة إليه يقوم بالكلام، وأن الكلام يفتح بعضه بعضاً، ويقود بعضه بعضاً. وفي الحالة الأخيرة، كثيراً ما يتحول الكلام إلى نوع من التورم، حيث تنقلب اللغة إلى لغو. ثم إن الحياة في الشعر هي دائماً وأبداً على غير ما هي عليه في رقتها الحية"، فالحياة في الشعر إشارة ولمح..لا ترجمة أو تصوير، وهي رمز لا شرح. ومن هنا تكون " الحياة في الشعر أكثر غنى وأبقى من الحياة في الواقع المباشر. دون ذلك، لم يكن ممكناً أن نقرأ اليوم هوميروس، مثلاً، أو امرأ القيس، أو أبا نواس...القصيدة العظيمة تشمل الواقع وتتجاوزه، إنها تحتضن الواقع والممكن. وكل شيء يحتضنه الواقع ويستنفده لا يكون أكثر من وثيقة، لا يكون شعراً. وعلى هذا، يمكن القول: إن التجربة الشعرية العظيمة تتجلى، بالضرورة، في بنية لغوية عظيمة، لكن بالمقابل، يمكن أن تكون هناك لغة توهم بهذه العظمة، غير أن الكشف عن هذا الوهم سهل بالنسبة إلى من يعرف الشعر، ومعنى اللغة الشعرية".

إننا نلحظ دقة الأحكام ومصداقيتها التي أدلى بها أدونيس، مؤكداً فهمه النقدي العميق، وبداعة مناقشته، وتبدى ذلك من خلال عدة أمور هي:

دقة الملاحظة وعمق الرؤية النقدية: وتبدى لنا ذلك من خلال قوله:[ الحياة في الشعر هي دائماً وأبداً "على غير ما هي عليه في حركتها الحية"، فالحياة في الشعر: إشارة ولمح لا ترجمة أو تصوير، وهي رمز لا شرح]. إن دقة هذه الملحوظة تؤكد عمق أحكامه النقدية وبداعتها.

جمالية الفكرة، وجمالية الرؤية، والتعبير الفني عنها: تبدى لنا من خلال قوله:[ إن التجربة الشعرية العظيمة، تتجلى، بالضرورة، في بنية لغوية عظيمة، لكن بالمقابل، يمكن أن تكون هناك لغة توهم بهذه العظمة، غير أن الكشف عن هذا الوهم سهل بالنسبة إلى من يعرف الشعر، ومعنى اللغة الشعرية]

إن إدراك الشاعر لهذه القيمة التي يمثلها الشعر جعل حكمه النقدي متوازناً ينسجم مع مدلول الحكم السابق بل يمهد له،ويدعمه،وهذا ينم على تسلسل الأفكار وتضافر القيم والأحكام النقدية.

وقد وقف أدونيس على الكثير من البراهين والأدلة الدامغة للتأكيد على قيمة الشعر، وما تفاضل الشعراء- من منظوره- إلا باللغة الشعرية، وإمكانية تجاوز الآخرين، بالأسلوب اللغوي المتبع. ولعل هذا الإدراك الفني، والحكم النقدي الجديد يمنح أحكامه النقدية مصداقية فائقة، و يكسبها درجة الإثبات من حيث الإقناع والإمتاع في آن.

دقة التعبير، وبراعة المناقشة، وحنكتها اللغوية:

وتبدى لنا ذلك من خلال قوله:[ إن اللغة في الشعر تكون شعرية حين تقيم علاقات جديدة، 1- بين الإنسان والأشياء،2- بين الأشياء والأشياء، 3- بين الكلمة والكلمة، أي تقدم صورة جديدة للحياة والإنسان ]، إن هذا الحكم النقدي ينم على دقة في التعبير، وبراعة في مناقشة الحكم النقدي، ومهارة لغوية في التلاعب بالأنساق اللغوية، لخدمة الفكرة، وتعزيزها في ذهن المتلقي.
المناورة في تنسيق الأحكام النقدية، واستقصاء أبعادها،واستخلاص الحكم النقدي الدقيق.
إن ما يمتاز به أدونيس من خبرة معرفية، وثقافة موسوعية غنية بالتراث والمعاصرة، أسعفته في إصدار الأحكام النقدية، لتأتي عن خبرة، وممارسة، وإدراك معرفي شامل بالقضايا النقدية المطروحة، فكانت جل أحكامه مبنية على أسس إبداعية نقدية فكرية شاملة، كاشفة عن بداعة أحكامه، ودقتها، واستقصاء أبعادها، فلم تأتِ أحكامه عشوائية، أو تعميمية، أو تعسفية، وإنما كانت مناقشته النقدية نابعة عن خبرة معرفية -بالدرجة الأولى- وتأمل، وتفكير طويل، وتمحيص في القضية النقدية المدروسة، وأسلوب مكاشفتها من جهة ثانية، فجاءت الأحكام غاية في الإقناع والإمتاع، مثال ذلك قوله:" إن القصيدة أو اللوحة، أو القطعة الموسيقية" صناعة " خاصة، لها أصولها وقواعدها، وكما أن من يختص بصناعة السيارة يختلف عمن يختص بصناعة الدماغ الالكتروني، فإن للقصيدة أو للوحة أو القطعة الموسيقية من يختص بصناعتها، وفهمها، وتذوقها. إن مطالبة الشاعر بأن تكون قصيدته للشعب كله هي كمطالبة الشعب كله بأن يكون اختصاصياً في صناعة الأدمغة الالكترونية. فهذه المطالبة لا تقوم على فهم الواقع، ولا على فهم الإبداع... إن الإبداع مهما كان مبسطاً يتضمن جهداً فكرياً وتخييلياً خاصاً. فهم هذا الجهد والمشاركة في الآخر معرفة اللغة الإبداعية، ويفترضان فيه القدرة على بذل الجهد الفكري الكافي. لذلك، لا بد من أن يقابل التبسيط الذي يقوم به الشاعر جهد يقوم به القارئ. إن الشاعر يطالب القارئ كذلك بأن يتثقف، ويتعمق، ويبحث... إن المغالاة في مطالبته بتحويل نتاجه، بحيث يؤخذ كجرعة الماء أو يلبس كالثوب. وهي مطالبة تؤدي في الأخير إلى القضاء على الفاعلية الشعرية، وعلى الفاعلية الإبداعية جملة. إنها تحول الفن إلى ما يشبه العمل اليدوي. نضيف إلى ذلك أن الشعر الذي لا يتضمن من الناحية التعبيرية قيماً فنية عالية، يظل مهما كان محتواها تقدمياً، غير فعال. إن شعراً يقوم على الشعارات والإعلانات ليس إلا شعاراً أو إعلاناً".

إن هذا القول ينطوي على تنسيق وتنظيم فني وإدراك معرفي شامل من خلال فاعلية الأحكام النقدية المنظمة التي تنبني على مثيرات دقيقة هي:

تضافر الأحكام النقدية ودقتها:

وفي هذا المثير تكمن درجة قدرة الحكم النقدي على إصابة المغزى أو الهدف النصي من طرح الفكرة، لتأتي الفكرة مقنعة من ناحية المضمون الفكري، ومقنعة من ناحية الحكم النقدي على الظاهرة المدروسة، وهذا ما تبدى في قوله:[ إن المغالاة في مطالبته بتحويل نتاجه بحيث يؤخذ كجرعة الماء، أو يلبس كالثوب. وهي مطالبة تؤدي في الأخير إلى القضاء على الفاعلية الشعرية، وعلى الفاعلية الإبداعية جملة، إنها تحول الفن إلى ما يشبه العمل اليدوي]. إن هذا الأسلوب الممتع في طرح الحكم النقدي يؤكد مصداقية الفكرة، ومصداقية التعبير عنها، وطرحها بما يوائم الدليل المبثوث في ثنايا الفكرة.

حنكة الشاعر في استقصاء أبعاد الحكم النقدي:

وفي هذا المثير تبدو الأحكام النقدية شاملة للفكرة، مدعمة بالدليل، مستقصية لكل جزئيات الحكم النقدي، وهذا ما تبدى في قوله:[ إن مطالبة الشاعر بأن تكون قصيدته للشعب كله، هي كمطالبة الشعب كله بأن يكون اختصاصياً في صناعة الأدمغة الإلكترونية. فهذه المطالبة لا تقوم على فهم الواقع ولا على فهم الإبداع]، إن هذا الحكم النقدي صحيح ودقيق عزّزه بالفكرة، وأيده بالدليل الإقناعي بقوله: [ إن الإبداع مهما كان مبسطاً يتضمن جهداً فكرياً تخييلياً خاصاً. فهم هذا الجهد والمشاركة فيه يفترضان في الآخر معرفة اللغة الإبداعية، ويفترضان فيه القدرة على بذل الجهد الفكري الكافي. لذلك لا بد من أن يقابل التبسيط الذي يقوم به الشاعر جهد يقوم به القارئ ]، إن هذا التعزيز في ربط الأفكار والأحكام، وتوليفها ينم على ذائقة نقدية عالية، ومعرفة غنية، مسيجة بالخبرة، والممارسة، والفن.

تفاعل الأفكار والأحكام النقدية وتوازيها:

إن الحكم النقدي حينما يعزز بحكم نقدي آخر، تتأكد الفكرة النقدية المطروحة، ويزداد أثرها، ودرجة إقناعها لدى المتلقي أو القارئ، ويزداد أثرها كذلك من خلال تفاعل الأفكار والأحكام النقدية وتوازنها. وهذا ما لمسناه في قوله: [ إن القصيدة اللوحة، أو القطعة الموسيقية " صناعة" خاصة، لها أصولها وقواعدها. وكما أن من يختص بصناعة السيارة يختلف عمن يختص بالدماغ الالكتروني، فإن للقصيدة أو اللوحة أو القطعة الموسيقية من يختص بصناعتها وفهمها وتذوقها]، إن تفاعل الأفكار وتوازنها وتضافرها يؤكد على التوازن الفني في الطرح، والإدراك في تقصي الحكم النقدي ودعمه بالبراهين والحجج والأدلة الدامغة.

الدهشة في إصدار الحكم النقدي المتوازن الدقيق:

إن الناقد عندنا يملك ذخيرة ثقافية ثرة، وقدرة معرفية عالية فإن أحكامه النقدية لا بد وأن تجري بسلاسة لغوية، وفكرية متوازنة، وهذا ما جعل أدونيس يحتل مكانته الأدبية والنقدية السامقة، فهو في جل أحكامه النقدية يتتبع القضية النقدية أو المسألة الأدبية المطروحة بدقة، محاولاً الإلمام بكل جزئياتها وحيثياتها الصغيرة، فلا نلحظ تناقضاً في أحكامه النقدية، أو تعميماً، أو سذاجة بداهة في استخلاص الحكم النقدي المتسرع، فمعظم أحكامه تجري بدقة، وفهم، ومعرفة أكيدة لا شك فيها، مثالنا دقة أحكامه النقدية فيما يتعلق بمسألة [ الكتابة الإبداعية]، إذ يقول:

" أولاً، الكتابة الفنية لا تصف الواقع، وإنما تعيد خلقه. تقدمه لنا متحولاً – في صورة جديدة، في احتمال آخر.

ثانياً – الكتابة الفنية ترفع أحداث الواقع، وأشيائه إلى مستوى الرمز.. فللجملة الفنية، عدا معناها الظاهر، معانٍ ثانية تتدرج من العميق إلى الأكثر عمقاً، ومن الشامل إلى الأكثر شمولاً. الكتابة الفنية، بتعبير آخر، تحول المعنى إلى طبقات من المعاني، أي أنها تقول في الشيء الواحد أشياء كثيرة.

ثانياً- اللغة في الكتابة الفنية تدل على الأشياء بحسب المنظور الذي يقرأ به، وتتعدد معاني الأشياء فيها بتعدد المنظورات، ومن هنا، يمكن الكلام، فنياً على شيء واحد، بطرق تتباين جذرياً. ولا نهاية لها.

رابعاً- الكتابة الفنية هي تجدد اللغة وتغنيها، ذلك أنها تمنحها تعددية الدلالة، أما الكتابة غير الفنية فتفتقر اللغة، من حيث أنها تكررها وتجترها، وتبقى على مستوى السطح المباشر. اللغة في الكتابة الفنية، ولود، حبلى باستمرار".

إن الحكم النقدي الذي يستنبطه أدونيس مبني على فهم حقيقي في إصدار الحكم النقدي العميق المتوازن، من حيث:

بداعة الرؤية وعمقها الفني:

إن أدونيس يحقق لأحكامه النقدية بداعة التشكيل، والوضوح المقصدي في الرؤية، ليبدو الحكم النقدي لديه متوازناً يصب في مجرى واحد، وفكرة دقيقة، معبرة عن المسألة المطروحة، أو القضية الأدبية المدروسة، بحس نقدي فائق الدقة، وذائقة أدبية عالية، كما في قوله:[القراء والنقاد العرب الذين يريدون للشعر، باسم التقدم أو الثورة، أن يكون واقعياً، هم غالباً من الذين يفخرون بأنهم يعملون لتغيير الواقع... هذه مفارقة لا تكشف عن تناقضهم وحسب، وإنما تؤكد كذلك أنهم على الصعيد الشعري، يجهلون في آن: معنى الواقع، وطبيعة العلاقة بين الشعر والواقع، والدور المتميز الخاص بالشعر، والفن، بعامة] ، إن ما أدلى به الناقد أدونيس ينم على خبرة اسعة، ورؤية عميقة، فالقارئ عندما يجهل العلاقة بين الشعر والواقع، فإنه بالتأكيدلا يعي دور الشعر في تهذيب الواقع، وعكسه والتجريد عنه، والشعر ليكون شعراً لا ينبغي أن يكون صورة فوتوغرافية للواقع، وإلا فقد دوره ووظيفته الفنية، وقيمته كشعر.. ومن ثم خرج من دائرة الشعرية.
وضوح الفكرة وتوازنها الفني:

وتكمن في هذا المثير درجة فاعلية الفكرة، وتعزيزها في منظور القارئ، لتكون قريبة من متناوله ورؤيته، بمصداقية فنية، وقدرة تشكيلية عالية، وهذا ما تبدى لنا في منظوره التالي:[ لا يكون الشعر واقعياً حين يلتقط الواقع كما هو.كذلك لا يكون واقعياً حين يكتفي بمجرد الالتقاط للواقع في حركته. ذلك أن حركة الشعر، من حيث أنه بداية، تتفجر وتنمو في الأبعد، كذلك الشأن في حركة الواقع، فهو في جوهره، تغير، وهي، لذلك، تتفجر وتنمو في الأبعد. والشعر يسير في هذا الأبعد أمام الواقع، كما هو، أعني في تغير يرتبط عضوياً بهاجس المستقبل، أي يخلق المستقبل. والذين يطالبون الشاعر بأن يفهم الواقع بشكل المعطى المباشر، وأن يصدر في شعره عن هذا الفهم، لا يريدون منه شعراء، وإنما يريدون صيغة كلامية- وسيلة، لها هيئة الشعر. يريدون عملياً، تجميد الواقع لا تفجيره. يريدون الدخول في أنفاقه لا في آفاقه].

إن القيمة النقدية في حكمه النقدي تتمثل في فهمه للفكرة، وأسلوب طرحها، واستنباط الحكم النقدي منها، بسلاسة لغوية، وفهم دقيق، وإدراك معرفي، وتوازن فني نسقي يربط الجمل بعضها بعضاً، ويخلص إلى حكم نقدي دقيق،ومتوازن. وهذا ما تبدى في قوله:" أن نكتب شعراً واقعياً هو أن نعطي للواقع شكلاً متحركاً، أي شكلاً مستقبلياً. وبما أن الثورة لا يمكن أن تتحقق بشكلها النهائي، تحققاً فعياً في الواقع، فإن ما يتحقق من الثورة يدفع الإنسان إلى أن يدفع الثورة، بدوره نحو الأبعد. أي أنه، بتعبير آخر، يفصل بينه وبين ما لم يتحقق: يفصله عن الأمل الباقي فيها. لهذا كان الأمل في الشروع، أو في المشروع، أي في التطلع الدائم، كذلك الشعر. ومن هنا لا تنتهي القصيدة": إنها مقطوعة أو جزء. وهي، إذاً، تفرض على الشاعر أن يتابع الكتابة بطريقة أوسع وأعمق وأغنى، أي أن يتابع بحثه الأول: عن أشكال توضح ما لا يزال غامضاً فيه، تكمل ما لا يزال ناقصاً فيه.، هنا، تعني أيضاً العالم. لا أخلص وحدي. إن لم يخلص شعبي كله، إن لم يخلص العالم كله، فلا خلاص لي... كأنما يصح أن نقول: الشعر هو الأمل الذي ييأس، واليأس الذي يأمل. إذ كلما اتسعت رؤية الواقع، اتسعت فسحة اليأس. فالحياة لا تحمل مزيداً من الأمل إذا حملت في الوقت نفسه مزيداً من اليأس. واليأس حاجز، وكل حاجز شكل من أشكال الموت. وبقدر ما يكبر الوجود في النفس يكبر الموت فيها. فأن نكتب الشعر الواقعي هو أن نكتب الحياة التي تسكن الموت، والموت الذي يسكن الحياة".

إن إدراك الناقد أدونيس للفكرة، وتوضيحها، وتقسيمها، والخلوص من ذلك كله إلى حكم نقدي متميز أو دقيق يجعل أحكامه النقدية متوازنة دقيقة متفاعلة تشي بالعمق، والتأمل، وبعد النظر، والمعرفة، وهذا ما نلحظه في قوله:" إذا كان الواقع متحركاً دائماً فهو، إذاً، المستقبل دائماً. لأنه هذا المستقبل دائماً، يتأسس الشعر، واقعياً، إزاء حاجز دائم أمامه... فكل شعر واقعي هو، بدئياً، لغم لتدمير هذا الحاجز. كأن الشعر يتأسس فيما يرفض الشعر: في القمع: - قمع الخارج (المصطلح التقليدي بمختلف أنواعه)، وقمع الداخل(الكبت بمختلف أنواعه) الشعر إذاً لغم مستمر داخل القمع. لذلك لا يمكن أن يوصف الشعر بأنه يفهم الحياة، ويعبر عنها واقعياً، أو بأنه الشعر الأغنى، إلا إذا كان في الوقت ذاته، وبالمستوى ذاته، يفهم الموت أيضاً، ويعبر عنه واقعياً. ومن هنا، لا يتجسد الواقع فيما يقود الشاعر قصيدته إليه بقصده وإرادته، وحسب، وإنما يتجسد أيضاً في ما تقود إليه القصيدة حيث قد لا يقصد الشاعر ولا يريد..... الشعر جزء لا يتجزأ من الواقع، لكنه لا يحيا به... بل بالصورة التي يكونها عنه... الشاعر يصهر الواقع في حساسيته ورؤياه.. يحوله إلى إيقاع، يعيد كل شيء فيه إلى فرادته الخاصة، فيما يصل كل شيء بكل شيء.... الشاعر يرى من الواقع بعده الداخلي لا الظاهري. هكذا، يجرده من تفككه، وفوضاه، بحيث يبدو كأنه لا يعود موجوداً إلا بداخله المضيء، بإيقاعه وشفافيته... الشاعر، بكلام آخر، يخلخل مظاهر الواقع، ويشيع فيه الحلم والخيال، لكي يولد منه واقعاً آخر أكثر غنى وإنسانية. وهو، إذا، لا ينفصل عن الواقع، بل يستحيل أن ينفصل عن الواقع، وإنما يرفض شكلاً من أشكاله... التعبير عن حالة أو لحظة من الواقع تعبيراً مباشراً يعزل هذه الحالة أو اللحظة، ويراها، بحد ذاتها، هو، فنياً، أبعد شيء عن الواقع. فالتعبير، مثلاً، عن حركة ثورة قائمة لا يقدم إلا شهادة عن وضع طارئ.. ولكي ينجح الشاعر في التعبير عن الثورة لا بد له من تحقيق تركيب شعري بين الثابت والمتحرك، بين الثورة بوضوح حركة أصلية في الحياة، والثورة بوضوح حركة تاريخية زمنية".

إن الأحكام النقدية التي أشار إليها أدونيس تكمن في وضوح الحكم النقدي، وتوازنه، وتضافره في النسق النقدي مع الحكم الذي يسبقه،والحكم الذي يليه، لتأتي الفكرة معززة بحكم نقدي متوازن، يشي بالتآلف، والتضافر، والانسجام، وفق نسق متوازن من الإيحاءات، والأنساق اللغوية المتفاعلة التي يبثها الحكم النقدي. كما في قوله:" كل شاعر خلاق مسكون بهاجس الاستباق والتخطي. لذلك، يشعر دائماً أنه لم يقل ما يطمح إلى قوله، وأنه لذلك لا يجيء من الماضي أو الحاضر، بقدر ما يجيء من المستقبل. في هذا المنظور تتضح الصلة بين الشعر والواقع..... الواقع متغير باستمرار. وأشكاله، إذا، تتغير باستمرار.. هكذا ليس لكلمة واقع أو معنى واحد، بسيط، ثابت... الشاعر، إذا، لا يتصل بالواقع كمادة أو كتلة، بل بصورة يكونها عنه، ومن هذه الزاوية يصح القول: حتى الشعر ( غير الواقعي) يستمد مادته أو بعضها من الواقع... الشاعر، لذلك، هو كيميائي الواقع، يصهره في بوتقة حساسيته ورؤياه. يحوله إلى إيقاع... مانحاً كل شيء فيه فرادة خاصة، فيما يصل كل شيء بكل شيء، ويأتي واقع القصيدة أكثر بهاءً،وتناسقاً، وعمقاً، وديمومة من أصلها الواقعي".. فالقصيدة لا تحاكي الواقع، وإنما تجانسه".

إن ما يلفت إليه النظر معالجة الناقد(أدونيس) لمسألة العلاقة بين الواقع والخيال في القصيدة، فالقصيدة لا ينبغي أن تكون في عالمها الفني مجسِّدة تماماً للواقع بشكله العياني المباشر، وإنما يجب أن تتجاوزه إلى واقع آخر، محايث للواقع من حيث المحتوى، أو المضمون، ومتجاوزة له من حيث الرؤى، والامتداد، وعمق التأمل. فالقصيدة لا تقلد الواقع كما هو بحذافيره، وحيثياته الجزئية، وإنما تجانسه، وتدخل في صميمه، يقول أدونيس:" الناس عادة، ينظرون إلى الواقع نظرة نفعية: فهو نافع أو ضار، وهكذا، يحددون موقفهم منه، سلباً أو إيجاباً. لكن، ليس الواقع، بالنسبة إلى الشاعر، نافعاً أو ضاراً وإنما هو جميل أو قبيح، يضيء الشعور، أو يطفئه. فنظرته إليه فنية لا نفعية. ثمة أشياء كثيرة يراها الناس عادية، تافهة، ويراها الشاعر مليئة بالغرابة والغنى الدهشة. ذلك أنه يرى البعد الداخلي في الواقع وأشيائه. ولا يكتفي برؤية البعد الظاهري. يرى حضور الأشياء في مدار الحساسية، لا مدار الفائدة. هكذا، يخلق معاني، واتجاهات، وعلائق، وإيقاعات، ويدخلها في نسيج من التلاؤم فيما بينها أو من التناقض. يحولها إلى أشكال شعرية، ويدخلها في إيقاعه. يتخذ منها نقط انطلاق، ليفصح عن نفسه، وليفتح فتوحاته، فيخلصها من عتمتها، وتفككها، وفوضاها، بحيث تبدو، كأنها لم تعد موجودة إلا بإيقاعها وشفافيتها، إلا بجوهرها المضيء.

من هنا، كان التعبير عن حالة، أو لحظة من حركة الواقع تعبيراً مباشراً، أبعد شيء عن الواقع. التعبير، مثلاً، عن حركة ثورية قائمة، لا يقدم إلا شهادة عن وضع دائم الحركة، أي دائم التغير، أي دائم التخلخل في المكان والزمان. ولكي تنجح القصيدة في التعبير عن الثورة، عليها أن تحقق تركيباً بين الثابت والمتحرك، بين الثورة كحركة أصلية في أعماق الشعوب، والثورة كأحداث جارية، دون ذلك ينقلب الشعر الواقعي إلى "محاضر" عن "جلسات الواقع".

إن أدونيس ينظر إلى المسألة المطروحة[ علاقة الشعر بالواقع] بمنتهى الأهمية، وهي إن على الشعر أن يلامس الواقع دون أن يكون صورة فوتوغرافية عنه، فإذا عبر الشاعر عن الواقع مباشرة، فقدت قصيدته جماليتها ودورها الإبداعي، لأنها- حينئذ- ستكون صورة فوتوغرافية عنه لا مثيل لها، وتسقط القصيدة في النمطية، والسطحية، والسذاجة، والابتذال، ومن هنا، فإن الدور الإبداعي لأحكامه النقدية يقوم على إدراك معرفي وبعد شمولي في طرح الفكرة ودعمها بالأدلة والبراهين الدامغة.

وهذا ما نلحظه في قوله:"الكتابة الشعرية، إذاً، لا تصور الواقع، وإنما تفككه، أو تهدمه من أجل تحويله، ثورياً. فما تقوم به خصوصية العمل الشعري يسير في تواز مع ما تقوم به خصوصية العمل السياسي: في تواز لا في تبعية. وكما أن الممارسات السياسية الثورية لا تنهض إلا كانفصال عن الممارسة الكتابية التقليدية.. يعني الانفصال على الصعيد الشعري، مقاربة جديدة للحياة والأشياء، لا من حيث يشير إلى للحياة والأشياء حضوراً آخر ودلالات أخرى. يضعها في سياق مغاير، ويرسم صورة مختلفة... والكتابة، هنا، عمل مزدوج- واحد تفجير اللغة الشعرية المثقلة بالأيديولوجية التقليدية، بسلطويتها، وقمعيتها، وتفجير أشكالها، أي تحرير اللغة من مناخها الفني التقليدي وإدخالها في مناخ آخر.... هذا العمل الكتابي هو ذاته عمل سياسي. فأن تكون الكتابة سياسية ليست هي أن تتكلم على السياسة. أن تكون تابعة لها، وإنما هي في أن تعيد تكوين الواقع بخصوصيتها الفنية. فالقصيدة لا تصنع الثورة: الشعب هو، وحده، صانع الثورة، لكن القصيدة هي محاولة العامل في حقل النتاج الشعري أن يسهم بخصوصية عمله الفني، في ابتكار صورة جديدة للواقع، تحتضن إمكان تغييره في أفق ثور. ليست القصيدة الثورية، إذاً مضموناً ثورياً وحسب، وإنما هي أيضاً شكل ثوري جديد. لهذا المعنى يصبح العمل الشعري الثوري، شأن العمل السياسي الثوري، بياناً جماعياً بلسان العاملين لتغيير الواقع. ومن هنا، تصبح المسألة الأساسية في الكتابة الشعرية كامنة في كيفيتها. وهي، بذلك، لا تتوجه قصدياً إلى الجمهور بالمعنى الكمي- العددي، وإنما تتوجه إلى جمهور عضوي، قادر أن يتجاوز اللغة العادية المعمقة. إلى اللغة الرمزية- الإيحائية- وذلك أن القصيدة لغة لا تقول ما تظهره وحسب، وإنما تقول كذلك شيئاً آخر باطناً أو احتمالياً. هذا الشيء الآخر هو البعد الأكثر أهمية في القصيدة".

إن الكتابة الشعرية- من منظور أدونيس- لا تصور الواقع تصويراً فوتوغرافياً، وإنما تنقل الواقع وتفككه، وتعيد تحويله، لخلق ما يسمى لغة الخلق الشعري، فالخلق الشعري هو تشكيل عالم جديد يبنيه الشاعر بخياله، سواء حايث الواقع أم لم يحايثه، وإن حايث الواقع تكون محايثته محايثة امتصاص وتفكيك لا نقل وتحويل. وهذا ما سعى إليه أدونيس في مفهومه للكتابة الشعرية. نخلص أخيراً في درايستنا للقيم الجمالية في شعر أدونيس إلى النتائج التالية:

إن أدونيس بنى أحكامه النقدية بالاستناد إلى معطيات، ومقدمات، وفرضيات، ناقشها، وخلص منها إلى نتائج، وقضايا، وأحكام نقدية متوازنة، وهذا ما يجعله مبتكراً في نقده لا مقلداً، بمعنى أن أدونيس استخلص الحكم النقدي، انطلاقاً من مقدمات، وفرضيات، وضعها، ثم برهن على صحتها. لاستخلاص الحكم النقدي الجديد واللامسبوق.

إن أغلب أحكامه النقدية لم تأت عن عبث، وإنما جاءت متوازنة، تبعاً لزاوية الرؤية المطروحة، والأسلوب المتخذ في التعبير عنها.. لهذا، جاءت الأحكام النقدية مركزة مثبتةأي ناتجة عن فرضيات ومقدمات، أي ناتجة عن استخلاص الحكم المثبت بعد تمهيد، واستقصاء، وتفكير في المسألة الأدبية المطروحة، للخلوص من خلالها إلى حكم نقدي دقيق، مبني على خبرة معرفية، ودراية واسعة بالمسألة المطروحة للخلوص إلى نتيجة مثبتة أو مؤكدة، تجعل حكمه النقدي جديداً، وفق تمحيص، وممارسة، وخبرة في استخلاص الحكم النقدي، ودعمه، وتثبيته.

إن أغلب القضايا التي طرحها أدونيس هي قضايا أدبية جديرة بالمناقشة، نظراً على أهميتها، ومن هنا، جاءت أحكامه النقدية مهمة، نظراً إلى أهمية القضايا المطروحة من جهة، والخبرة المعرفية في مناقشة القضايا الأدبية، والخلوص من خلالها بنتائج موضوعية دقيقة من جهة ثانية، ولهذا جاءت أحكامه النقدية، محققة لهدفها النصي، وإدراكها المعرفي التام بالمسائل الأدبية المطروحة.

لم نلحظ في أحكام أدونيس المطروحة تسرعاً، أو غموضاً، أو إجحافاً، أو تزمتاً في حكم من الأحكام النقدية، وقد ناقش (أدونيس) الكثير من القضايا، والفرضيات النقدية مناقشة منطقية، وخلص منها بحكم نقدي دقيق ومتوازن، تبعاً للخبرة، والمعرفة، والاستقصاء، والتحقيق حتى أصدر حكمه النقدي حول القضية الأدبية المطروحة، وهذه الصفة منحت أحكامه أهميتها، ودورها في كشوفاته النقدية النقدي التي أدت دورها المهم في التأسيس لحركة الحداثة تنظيراً،وتطبيقاً،وهذا ما أكسب أدونيس شهرته العربية وعالميته كشخصية فذة في أدبنا المعاصر.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى