الجمعة ٤ نيسان (أبريل) ٢٠٠٨
بقلم محمد رشيد ناصر ذوق

في بحور الشعر

نزار قباني الذي يصور مجتمعنا القمعي من رأس السلطة الأولى إلى السلطة الرابعة وصولا إلى ناطور البناء الذي يمتلك، كما يعتقد، وحده ليلا كل مفاتيح اللغة وأوزان الشعر.

ديك

في حارتنا ديك ساديٌ سفاح
ينتف ريش دجاج الحارة كل صباح

في بحور الشعر

كان الشعر في العصور الماضية وسيلة ماضية من وسائل الإعلام والإعلان، وكان للشعر عند العرب نكهته التي تميزه عن شعر باقي العالم حتى أصبح صنعة عند القدماء والمعاصرين.
ولقد أبدعوا في صنعتهم هذه قبل الإسلام وبعده وعبر العصور المديدة
حتى رأينا ما يدهش السامع والقارئ من نظم وتنميق وإنشاء جعل من شعراء العربية أسياد الشعر ، ليس في المعاني والصور الجميلة فقط بل تعدوا ذلك إلى ما يمكننا أن نسميه الإبداع بترتيب الحروف.

منها :

أبيات كل حروفها بدون نقط :

الحمد لله الصمد
حال السرور والكمد
 
الحول والطول له
لا درع إلا ما سرد
 
كل سواه هالك
لا عَددٌ ولا عُدد

أبيات فيها حرف عاطل فحرف معجم :

ونديم بات عندي
ليلة من غليل
 
خاف من صنع جمي
قلت لي صبر جميل
 
قرة لي ميل قلب
منك يا غصنا يميل
 
سيدي رق لذلي
سيدي عبد ذليل

بيتا مدح يصيران هجاء بعكس ترتيب كلماتهما:

حلموا فما ساءت لهم شيم
سمحوا فما شحت لهم منن
 
سلموا فما زلت لهم قدم
رشدوا فما ضلت لهم سنن

وأيضا ما كتبه شعراء العربية من الجناس :

عضنا الدهر بنابه
ليت ما حل بنا به
 
الصدق في أقوالنا أقوى لنا
والكذب قي أفعالنا أفعى لنا

ولم يكن يعيب الشعراء في كل العصور ما بان من مقصدهم وظهر في صور جميلة ممتعة للسامعين تجعلهم ينطلقون بخيالهم إلى تلك الصور دونما حاجة إلى جهاز مرئي أوآلة تصوير ودونما حاجة إلى تفسير وتقدير ، الهم إلا ما كتبوه في عصرهم وكان على أبناء العصور التالية أن يعودوا إلى قاموس اللغة التي كتبوا بواسطتها شعرهم بمفردات عصرهم .

ولا كان يعيبهم الوزن أيضا أوالقافية، فلقد نسج القدماء والمتأخرون أوزانا مختلفة كل على قياسه أطربت سامعيهم وقارئيهم وأحصاها من جاءوا بعدهم ورتبوها وسموها حتى أصبح عددها كبير عبر العصور منها :

الطويل – المديد – البسيط – مخلع البسيط - مجزوء البسيط – الهزج – الكامل – مجزوء الكامل – أحذ الكامل - الوافر- مجزوء الوافر – الرجز – مجزوء الرجز – منهوك الرجز – الرمل – مجزوء الرمل – السريع – المنسرح – الخفيف – مجزوء الخفيف – المضارع – المقتضب – المجتث – المتقارب – مجزوء المتقارب – المتدارك – الخبب – الدوبيت – مجزوء الدوبيت – التفعيلة – والموشحات واوزانها كثيرة – وما دام الشعراء يكتبون وينشدون فإن بحور الشعر لا حصر لها ولا نهاية طالما أن هذه البحور تلامس حس السامع وقلبه.

وشعراء العربية أكثر من رمال الشواطئ وأبعد من آفاق البحار، منهم على سبيل المثال لا الحصر جبران خليل جبران ومظفر النواب الذي أطربنا في عمر الشباب، ونزار قباني الذي انتقده معاصروه من المتحزبين إلى الشعر القديم بقوافيه وأوزانه، ولكن التاريخ أنصفه حين انتشر شعره بكل أوزانه وألوانه وأنماطه على كل لسان بينما اندثر شعر منتقديه أويكاد.

نزار قباني الذي يصور مجتمعنا القمعي من رأس السلطة الأولى إلى السلطة الرابعة وصولا إلى ناطور البناء الذي يمتلك، كما يعتقد، وحده ليلا كل مفاتيح اللغة وأوزان الشعر.

قصيدة اسمها ( ديك)

في حارتنا ديك ساديٌ سفاح
ينتف ريش دجاج الحارة كل صباح
في حارتنا ديك يصرخ عند الفجر كشمشون الجبار
يطلق لحيته الحمراء ويقمعنا ليلا ونهار
فهوالواحد وهوالخالد وهوالمقتدر الجبار
في حارتنا ثمة ديك عدواني فاشستي نازي الأفكار
سرق السلطة بالدبابة ألقى القبض على الحرية والأحرار
ألغى وطنا ألغى شعبا ألغى لغة
ألغى أحداث التاريخ
والغي ميلاد الأطفال
وألغى أسماء الأزهار
يلبس في العيد القومي لباس الجنرالات
 
****
 
في حارتنا ديك من أصل عربي
فتح الكون بآلاف الزوجات
يرأس أحدى الميليشيات
لم يتعلم إلا الغزو
إلا الفتك وألا زرع حشيش الكيف وتزوير العملات
كان يبيع ثياب أبيه ويرهن خاتمه الزوجي
ويسرق حتى أسنان الأموات
في حارتنا ديك
كل مواهبه أن يطلق نار مسدسه الحربي على رأس الكلمات ( 1)

ما كان يعيب الشعراء دائما وفي كل العصور هوما خفي من شعرهم على القارئ في عصرهم الأمر الذي لا يراعيه شعراء عصرنا الحاضر ، بالخصوص عندما كثر الشعراء الهلاميين الذين لا يبين من مقصدهم إلا خيال لا معنى له إلا في قلم الشاعر نفسه ،إنهم يركبون كلمات على كلمات في محاولة لإيجاد صور غريبة وكلما ازدادت غرابتهم وغربتهم ظنوا أنهم يصيبون من الشعر ما ستخلده الأجيال القادمة ، فهذا ينظم ( أحجية ) وتلك تنظم ( حزورة ) حتى بات الشعر في عصرنا محاولة لإظهار الضياع الذي يصيب كل مجتمعنا ، هذا الشعر صنفه المهتمون بالأمر والقيمون على النشر – بالشعر الحديث !!!!!.

إن الشعر في عصرنا لا يختلف كثيرا عن باقي العصور ، فالشعر العربي القديم
المقفى والموزون ينقسم أقساما شتى ، ما قبل الفراهيدي وما بعده ، في العصر الحديث وما قبله وفي عصر الأندلس أيضا كان لأهل المغرب أوزانهم وقوافيهم وعروضهم .

ولم يكفينا ربما ما ظهر من قسمة وتشرذم وضياع في كل نواحي حياتنا الحاضرة ، فانقسم الشعراء في عصرنا إلى مناصرين ( ومتحزبين ) للشعر القديم والموزون ونصف الوزن والمرسل والمسترسل والعامودي والأفقي ، وفي ذلك كله محاولة إلى ترتيب البيت ( من الشعر ) تقليدا لما فعله الخليل ومن بعده ، وكأن ترتيب الشِعر كتصفيف الشَعر يلزمه مصفف ومصنف.

اتركوا الشعر كما خط القلم ، فإن بهت مات ولم يقم ، وإن حسن حفظته كل الأمم .

يقول ابن خلدون في مقدمته :

" الفصل الخمسون :

في أشعار العغرب وأهل الأمصار لهذا العهد اعلم أن الشعر لا يختص باللسان العربي فقط بل هوموجود في كل لغة سواء كانت عربية أوأعجمية وقد كان في الفرس شعراء وفي يونان كذلك وذكر بعضهم منهم أرسطوفي كتاب المنطق وأوميروس الشاعر واثني عليه وكان في حمير أيضا شعراء متقدمون ولكن فسد لسان مضر ولغتهم التي دونت مقاييسها وقوانين إعرابها وفسدت اللغات من بعد بحسب ما خالطها ومازجها من العجمة فكانت تحيل العرب بأنفسهم لغة خالفت لغة سلفهم من مضر في الأرباب جملة وفي كثير نمتن الموضوعات اللغوية وبناء الكلمات وكذلك الحضر من أهل الأمصار نشأت فيهم لغة أخرى خالفت لسان مضر في الإعراب جملة وفي كثير من الموضوعات اللغوية وبناء الكلمات وكذلك الحضر وأكثر الأوضاع والتصاريف خالفت أيضا لغة الجيل من العرب لهذا العهد واختلفت هي نفسها بحسب اصطلاحات أهل الآفاق فلأهل الشرق وأمصاره لغة غير لغة أهل المغرب وأمصاره وتخالفها أيضا لغة أهل الأندلس وأمصاره ولما كان الشعر موجودا بالطبع في أهل كل لسان لان الموازين على نسبة واحدة في إعداد المتحركات والسواكن وتقابلها موجودة في طباع البشر.

فلم يهجر الشعر بفقدان لغة واحدة وهي لغة مضر الذين كانوا يحملون فحوله وفرسان ميدانه حسبما اشتهر بين أهل الخليقة بل كل جيل وأهل كل لغة من العرب والمستعجمين والحضر أهل الأمصار يتعاطون منه ما يعاطوهم في انتحاله ورصف بنائه على مهيع كلامهم فأما العرب أهل هذا الجيل المستعجمون عن لغة سلفهم من مضر فيقرضون الشعر لهذا العهد في سائر الأعاريض ( العروض ) على ما كان عليه سلفهم المستعربون ويأتون منه بالمطولات مشتملة على مذاهب الشعر وأغراضه من النسيب والمدح والرثاء والهجاء ويستطردون في الخروج من فن إلى فن في الكلام وربما ( نسجوا )
على المقصود لأول كلامهم وأكثر ابتدائهم في قصائدهم باسم الشاعر ثم على ذلك ينسبون فأهل أمصار المغرب من العرب يسمون هذه القصائد بالأصمعيات نسبة إلى الأصمعي رواية العرب في أشعارهم وأهل المشرق من العرب يسمون هذا النوع من الشعر البدوي وربما يلحنون فيه ألحانا بسيطة لا على طريقة الصناعة الموسيقية ثم
يغنون به ويسمونه الغناء باسم الحوراني نسبة الى حوران من أطراف العراق والشام وهي منازل العرب البادية ومساكنهم إلى هذا العهد ولهم فن آخر كثير التداول في نظمهم يجيئون به معصبا على أربعة أجزاء يخالف آخرها الثلاثة في رويه ويلتزمون القافية الرابعة في كل بيت إلى آخر القصيدة شبيها بالمربع والمخمس الذي أحدثه المتأخرون ولهؤلاء العرب في هذا الحديث الشعر بلاغة فائقة وفيهم الفحول والمتأخرون.

فلما كثر الشعر في قطرهم وتذهبت مناحيه وفنونه وبلغ التنميق فيه الغاية واستحدث المتأخرون منهم فنا منه سموه بالموشح ينظمونه أسماطا أسماطا وأغصانا أغصانا ويكثرون من أعاريضه المختلفة ويسمون المتعدد منها بيتا واحد ويلتزمون عند قوافي تلك الأغصان وأوزانها متتاليا فيما بعده إلى آخر القطعة وأكثر ما تنتهي عندهم إلى سبعة أبيات ويشتمل كل بيت على أغصان عددها بحسب الأغراس والمذاهب وينسبون فيها ويمدحون كما يفعل في القصائد وتجاوز في ذلك إلى الغاية واستظرفه الناس جملة الخاصة والكافة لسهولة تناوله وقرب طريقته ...
واشتهر منهم أبي بكر بن زهير ...
وقد شرقت موشحاته وغربت قال وسمعت أبا الحسن سهل بن مالك يقول قيل لابن زهير لوقيل لك ما أبدع وارفع ما وقع لك في التوشيح قال كنت أقول:

ما للموله من سكره لا يفيق
يا له سكران
من خمر ما للكئيب المشوق
يندب الأوطان
هل تستعاد أيامنا بالخليج
وليالينا
أويستفاد من النسيم الأريج
مسك دارينا
واد يكاد حسن المكان البهيج
أن يحيينا
نهر أضله لوح عليه أنيق
مورق الفينان
والماء يجري وعائم ووريق
من جني الريحان

ومن محاسن الموشحات للمتأخرين موشحة ابن سهل شاعر اشبيلية وسبتة من بعدها فمنها قوله:

هل درى ظبي الحمى أن قد حمى
قلب صب حله عن مكنس
فهوفي نار وخفق مثلما
لعبت ريح الصبا بالقبس

وقد نسج على منواله فيها صاحبنا الوزير أبوعبد الله بن الخطيب شاعر الأندلس والمغرب لعصره وقد ملا ذكره فقال :

جادك الغيث إذا الغيث هما
يا زمان الوصل بالأندلس
لم يكن وصلك إلا حلما
في الكر ى أوخلسة المختلس
إذ يقود الدهر أشتات المنى
ينقل الخطوعلى ما يرسم
زمرا بين فرادى وثنى
مثلما يدعوا الفؤاد الموسم
والحيا قد جلل الروض سنا
فثغور الزهر فيه تبسم
وروى النعمان عن ماء السما
كيف يروي مالك عن انس
فكساه الحسن ثوبا معلما
يزدهي منه بأبهى ملبس
في ليال كتمت سر الهوى
في الدجى لولا شموس الغرر
مال نجم الكأس فيها وهوى
مستقيم السير سعد الأثر
وطر ما فيه من عيب سوى
انه مر كلمح البصر
حين لذ النوم منا أوكما
هجم الصبح هجوم الحرس
غارت الشهب بنا أوربما
أثرت فينا عيون النرجس
أي شيء لامرئ قد خلصا
فيكون الروض قد مكن فيه
تنهب الأزهار فيه الفرص
أمنت من مكره ما تتقيه
فإذا الماء يناجي والحصا
وخلا كل خليل بأخيه
تبصر الورد غيورا برما
يكتسي من غيظه ما يكتسيه
وترى الآسي لبيبا فهما
يسرق الدمع باني فرس
يا أهيل الحي من وادي الغضا
وبقلبي مسكن أنت به
ضاق عن وجدي بكم رحب ألفضا
لا أبالي شرقه من غربه
فأعيدوا عهد انس قد مضى
تنقذوا عائذ بكم من كربه
واتقوا الله واحيوا مغرما
يتلاشى نفسا في نفس
حسر القلب عليكم كرما
أفترضون قراب المحبس
وبقلبي منكم مقترب
بأحاديث المنى وهوبعيد
قمرا اطلع منه المغرب
شقوة المغرى به وهوسعيد
قد تساوى محسن أومذنب
في هواه بين وعد ووعيد
ساحر المقلة مغسول اللما
جال في النفس مجال النفس
سدد السهم فأدمى إذ رمى
بفؤادي نبلة المفترس
إن يكن جار وخاب الأمل
وفؤاد الصب بالشوق يذوب
فهومن نفسي حبيب أول
ليس في الحب لمحبوب ذنوب
أمره معتمل ممتثل
في ضلوع قد براها وقلوب
حكم الحظ بها فاحتكما
لم يراقب في ضعاف الأنفس
ينصف المظلوم ممن ظلما
ويجازي البر منها والمسيء
ما لقلبي كلما هبت صبا
عاده عيد من الشوق جديد
كان في اللوح له مكتتبا
قوله إن عذابي لشديد
جلب الهم له والوصبا
فهوللأشجان في جهد جهيد
لاعج في أضلعي قد أضرما
فهي نار في هشيم اليبس
لم يدع من مهجتي الا الدما
كبقاء الصبح بعد الغلس
سلمي يا نفس في حكم القضا
واعبري الوقت برجع لي ومتاب
واتركي ذكرا زمان قد مضى
بين عتبي قد تقضت وعتاب
وأصر في القول إلى المولى الرضا
ملهم التوفيق في أم الكتاب
الكريم المنتهى والمتمما
أسدي السرج وبدر المجلس
ينزل النصر عليه مثلما
ينزل الوحي بروح القدس

ويقول ابن خلدون في خاتمة ما يقول :
واعلم أن الأذواق كلها في معرفة البلاغة إنما تحصل لمن خالط تلك اللغة وكثر استعماله لها ومخاطبته بين أجيالها حتى يحصل ملكتها كما قلناه في اللغة العربية فلا الأندلسي بالبلاغة التي في شعر أهل المغرب ولا المغربي بالبلاغة التي في شعر أهل الأندلس ولا المشرقي بالبلاغة التي في شعر الأندلس والمغرب لان اللسان الحضري وتراكيبه مختلفة فيهم وكل واحد منهم مدرك بلاغة لغته وذائق لمحاسن الشعر من أهل جلدته ))- (1)

اتركوا الشعر للأقلام تكتبه
لا تمنعوه فإذن الناس تنقده

أوكما قال الشاعر :

في بحور الشعر دوما يغرق الشبان
والمسافر في الدجى فليسأل الربان
إن تعالى الموج والبحر انتفض
إنما البحر يساوي عـــندنا حرفان *

حواشي :

(1) نزار قباني – قصيدة ديك

(2) - مقدمة ابن خلدون صفحة 582-588

*البحر : يم


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى