السبت ٧ نيسان (أبريل) ٢٠١٨
بقلم كريم مرشدي

في بنية الكفاية ونظرية المعرفة

هل للكفاية بنية؟ وهل يستقيم الحديث عن بنية الكفاية عوض الحديث عن بناء الكفاية؟ ماذا لو أدرجنا المعرفة كمكون تكويني للكفاية من أجل محاولة التأكد من مدى تناسق وتناظم المكونات المعرفية لبنية هذا البناء الكفائي من منظور فلسفة وإبيستيمولوجيا المعرفة؟.. من شأن هذا – خصوصا عند تطرقنا للسؤال الثاني في المعرفة كما سيأتي – أن يلقي نظرة على الأصل الإبيستيمولوجي التكويني للكفاية.

إن لكل بناء بنية، وكل بنية لا بد أن تتكون من مجموعة من العناصر الداخلية التي تشكل نسقا معقدا ومتكاملا من حيث الوظيفة والغاية، وهي أيضا مجموعة مكونات منظمة حسب علاقات بينية معينة (انظر (Wordnet.princeton.edu. لكن مفهوم البنية يختلف حسب التوجهات الفكرية والفلسفية وحتى العلمية (لسانيات – علم النفس– علم النفس التحليلي – أنثربولوجيا– سيميولوجيا– رياضيات – فيزياء..)، ولا يمكن أن نجد لها تعريفا أو مفهوما معينا وموحدا، وهذا ما أكده بعض من حاولوا التنظير للبنيوية وحصرمفهوم البنية كل من منظور الحقل الذي ينشط فيه (Piaget- Deleuze – Levy Strauss) وغيرهم. لا يمكن فصل بنية المعرفة عن وظيفتها، ولا فصل بنية الكفاية عن المعرفة: فإذا كانت كل معرفة تشكل بنية في حد ذاتها، فإن الكفاية التي تعتمد بشكل مباشر على المعرفة، تشكل أيضا بنية، ويمكن العمل على بَنْيَنَتِها وجعلها نسقا من الآليات الذاتية المتكاملة الوظائف، مثلا في علم النفس (السلوكي جزئيا) تتحدد البنية النفسية بكونها مجموعة من المنظومات السلوكية المنضوية تحت بنيات نفسية عامة، ولا يمكن رصد هذه البنيات النفسية العامة وإخضاعها إلا من خلال ملاحظة البنيات السلوكية، بمعنى أن كل سلوك، مهما كان، باستطاعتنا إخضاعه للملاحظة ومن ثَمَّ التحكم في بنيته أو إعادة ترتيب مكوناته حسب ميكانيزمات محددة. وإذا علمنا مدى الإرتباط بين البناء السلوكي / الذهني وبين البنية المعرفية (ما بعد السلوكية، ونقصد هنا Piaget و Vygotsky وغيرهما)، فإننا سنتوصل إلى ربط التحكم في البنية الذهنية والسلوكية بالتحكم في بنية الكفاية، على اعتبار أن الكفاية نتاج مباشر لتفاعل متكامل بين بنيات ذهنية ونفسية ومعرفية، دون نسيان العامل الخارجي. هذا لا يعني أننا نربط ربطا آليا بين البنية السلوكية والبنية الذهنية والإنتاج الكفائي / المعرفي: فبعيدا عن ميكانيكية النظرية السلوكية (في بعض جوانبها)، تطرح النظريات ما بعد السلوكية أبعادا أخرى تتجاوز البعد السلوكي / الذهني إلى دمج البنى الذهنية للفرد ببنية المجتمع الذهنية (René Berger 1999)، ونجد نفس التوجه لدى منظري السوسيو – معرفية. كما يجب التأكيد على مدى أهمية الأعمال المؤسسة التي مهدت الطريق أمام دمج الرؤية السوسيولوجية في دراسة مختلف المجالات المعرفية التي أدت إلى زعزعة كليانية البنية من أجل انفتاحها على العلوم الإجتماعية كأعمال لوكاتش وغرامشي ولوسيان كولدمان وغيرهم (انظر: سوسيولوجيا الثقافة – الطاهر لبيب). كما أن استعمال مفهوم البنية استعمالا موسعا للخروج بها من الصلابة والنمطية كما هو في اللسانيات البنيوية، أدى إلى استعمالات موسعة ومتشعبة وقراءات منفتحة لأعمال أساسية كما فعل لوي ألتوسير ولوسيان سيباج مع فكر كارل ماركس الذي نظر إليه لوسيان سيباج على أنه (أي فكر ماركس) يحتوي على إرهاصات بنيوية.

1 – في بنية الكفاية:

لا يمكن التفكير في الكفاية كمكون أساسي في البيداغوجيا المعاصرة وكمنتوج معرفي وسلوك استبطاني ذهني، دون التفكير في ربطها بالبنية المعرفية والذهنية التي أنتجتها أو ببنية المعرفة ككل، وكذلك بالبنية الثقافية المهيمنة للمجتمع. بناء على هذا الترابط، خصوصا، بين المعرفة كبنية داخلية أي كَمَوْرِد، وبين الكفاية والمحيط الخارجي، يمكن تحديد مكونات بنية الكفاية في ثلاث مكونات ذات ركيزة معرفية موحدة ومحددة سلفا: المعرفة – المعرفة/ الفعل – المعرفة / الكينونة.. فسواء كانت معرفة الفعل أو معرفة الكينونة، فإنها جميعها تنبثق من التفاعل بين مختلف البنيات الداخلية والخارجية التي تشكل الذات العارفة. وقد جاء في المرسوم الخاص بالمجتمع الفرنسي ببلجيكا (ص 27) حول الكفايات ما يلي: "المعرفة لم تعد حكرا على المدرس، إنها تتحدد بكونها مجموعة من الموارد الخاصة بالمتعلم، هذه الموارد تتكون أصلا من المعرفة، والمعرفة / الفعل، والمعرفة / الكينونة. ولكي تتكون لدينا كفاية ما، يجب أن تكون هذه الموارد قابلة للتعبئة في إطار وضعيات جديدة"، بمعنى أن هذه المكونات تعتبر بنيوية أساسية داخل البنية العامة للكفاية، بحيث لا يتم انبناء الكفاية إذا انتفى أحد هذه المكونات الثلاثة، وقد حدد الدكتور عمر بيشو في كتابه "ديداكتيك الكفاية والإدماج" (ط1 / 2010 – ص 68) ثلاثة مكونات أو – كما أسماها - وجيهات أخرى لبنية الكفاية: مكون / وجيه معرفي، ومكون / وجيه سوسيو- وجداني، ومكون / وجيه تحويلي.. ونختلف هنا مع الدكتور عمر بيشو حول المكون البنيوي الثالث (الوجيه التحويلي): أولا، لقد تمت ترجمة كلمة Transfert إلى تحويل، في حين أنه في غياب أي تعريف كامل ونهائي، يمكن ترجمة Transfert إلى "نقل"، أما التحويل فهو ما يصطلح عليه بـ Transformation أي التعبير عن نفس المادة المعرفية بصيغة مختلفة داخل نفس المجال المعرفي كتحويلات جاليليو وتحويلات لورينز Lorentz في الفيزياء مثلا، أو في الرياضيات، أما داخل حقل البيداغوجيا فلا نتحدث عن التحويل إلا من خلال التأثير / التحويل الذي تحدثه المعرفة داخل البنيات الذهنية والسلوكية للأفراد والمجتمع على السواء (وهذا يبين مدى تأثير وهيمنة المعرفة على الفعل والكينونة معا داخل بنية الكفاية)، مما يحيلنا في هذه الحالة مباشرة على تمثل خطاطات بياجي من جهة، ومن جهة أخرى على تمثل دور الثقافة كمعرفة في تحول المجتمع. ولا أظن إلا أنه قد تمت استعارة ترجمة كلمة "تحويل" من حقل بعيد كل البعد عن البيداغوجيا وإبيستيمولوجيا المعرفة والسوسيولوجيا (المشكل هنا في تحول الكلمة من المعنى إلى الوظيفة، ونجد نفس مشكل الترجمة بين المعنى والوظيفة في الدليل البيداغوجي الصادر عن وزارة التربية الوطنية)..

وعليه، فإن النقل فيما يخص الموارد الكفائية / المعرفية يبقى عملية عقلية مجردة وواعية، يقوم بها العقل اتجاه الوضعية / المشكلة التي يواجهها، بحيث يعمل على استحضار ونقل الموارد المعرفية في عملية أشبه بالتصريف الموجه للموارد، ثم تصنيفها واستعمالها في الوقت والمكان المناسبين. والواقع أن النقل يؤدي إلى التحويل، وهما ميكانيزمان متلازمان تلازما ضروريا ومنطقيا، في حين أن النقل بدون تحويل يفرغ الكفاية من محتواها المعرفي والوظيفي. ويُعَرف الدكتور عمر بيشو هذا المكون / الوجيه التحويلي بكونه: "ما بموجبه يحيل إلى إمكانية القدرة على إعادة معرفة الوضعيات بالنسبة لمدى ملاءمة تلك المعارف والتمشيات" (ص 68).

وانطلاقا من هذا التعريف، ثانيا، نقول بأن النقل (أي التحويل عند الدكتور بيشو وفي الدليل البيداغوجي) لا يمكن أن يكون مكونا من مكونات البنية الكفائية، لأنه رغم كونه يخضع لآليات البنية الذهنية إلا أنه ليس جزءا من أجزائها التكوينية، بقدر ما هو ميكانيزم أو أداة أو آلية تستعملها هذه البنية من أجل إعادة توجيه وتحيين المعارف وتعبئتها في مواجهة موضوع المعرفة. ولكي نفهم دور الكفاية كبنية وكوظيفة، لا بد من السؤال عن علاقتها التكوينية بالمعرفة، ومن أجل هذا لا بد من العودة إلى المساءلة الفلسفية والإبيستيمولوجية للمعرفة، ثم إخضاع الكفاية لسؤالين في المعرفة (كما أثبتنا في التقديم)..

2- في السؤال الأول للمعرفة:

سؤال المعرفة يبقى دائما عصيا عن الإحاطة، فمنذ القديم وإلى اليوم، مازال السؤال قائما حول مصدر المعرفة وآلياتها... دافيد هيوم، وفي إطار منهج الشك التجريبي، يؤكد أن المعرفة تخضع لسيرورة تحول تنطلق مما هو انطباعي حسي إلى ما هو عقلي. ويعتبر أن المعرفة الإنطباعية الحسية هي الأصل في المعارف. في حين أن ما يبقى في الذهن ما هو إلا صورة غير واضحة لما هو إدراك حسي مباشر. وعليه فإن ما يُعَد معرفة صادقة لدى هيوم هو ما كان ناتجا عن إدراك حسي تجريبي، وكل معرفة لا ترد إلى أصلها الحسي تعتبر معرفة غير سليمة، والمعنى هنا ينصب على المعرفة القياسية التجريبية التي تتيح استخلاص القوانين عبر آلية الإستقراء.. وهكذا تكون المعرفة عند هيوم وبيركلي وجون لوك وغيرهم من التجريبيين هي ما تمكننا من استخلاص القوانين عبر الملاحظة المباشرة والتدرج هكذا من الحسي المباشر إلى المجرد.. في الإتجاه المعاكس، أي عند العقلانيين، فإن المعرفة لا تنتج حتما عن التجربة بقدر ما ترتكز على مبادئ عقلية كونية ومسبقة يعتمد عليها العقل للوصول إلى المعرفة الحقة، لأن الإعتماد على الحواس في اكتساب المعرفة قد يقود غالبا إلى الخطإ (ديكارت)، رغم أن ديكارت نفسه كان يعتمد على الملاحظة في بصرياته. ويعتبر العقلانيون المعرفة الرياضية هي النموذج الأسمى للمعرفة العقلية الخالصة، حيث إنها يمكن أن تفسر العالم كما هو اعتمادا على مبادئ عقلية صرفة كما هو الحال في المنهج العقلي الإستنباطي. وعموما فالمعرفة عند العقلانيين أمثال ديكارت وليبنيتز وحتى تشومسكي، ما هي إلا حقائق معروفة بصفة قبلية، وبدون أدنى شك، فطرية.... إذا انتقلنا إلى كانط، فنجده يؤكد على أن موضوع المعرفة لم يعد هو الذي يفرض أدواته على الذات العارفة، أي أن العقل سيصبح في هذه الحالة ليس أمام موضوع معرفة مطلق، وإنما أمام ظواهر متاحة للبحث، وهو هنا يميز بين نوعين من المعارف:

معرفة يستطيع العقل البحث فيها (العلم / الظواهر)، ومعرفة تتجاوز ميدان الآليات العقلية، ولا يستطيع البحث فيها (النومينات Noumènes)، وبهذا يضع حدا لحدود المعرفة العقلية وحدود المعرفة التجريبية: فالمعرفة العقلية تعتمد قبل كل شيء على الفهم، وهو مفهوم يرتكز خصوصا على ما هو قبلي، أي ما هو مستقل بطبيعته عن التجربة، ويدخل ضمن المعرفة الخالصة في إطار معياري " الضرورة والكونية "، أما المعرفة التجريبية فإنها لا توفر إلا معرفة بما هو عام، ولا تستطيع خلق قوانين علمية، وعليه فإن المعرفة الخالصة والقبلية تبقى أولية وسابقة معرفيا على المعرفة التجريبية لكونها تخضع لمعياري الضرورة والكونية مثل الرياضيات التي هي لدى كانط مادة معرفية تتشكل من أحكام تركيبية قبلية، لأنها لا تحتاج إلى برهنة تجريبية طالما أنها معرفة ضرورية وكونية. وهكذا يكون كانط Kant قد وافق بين التجربة والتمثل العقلي للمعارف، فجعل أحدهما مكملا للآخر: المعرفة لا تكون في متناول الإنسان إلا إذا كانت محايثة أي أنها تفسح المجال لعمل العقل والحدس والتجربة على السواء، بمعنى أنه لا بد من تكامل قوة الأحكام التحليلية للمعارف القبلية أي الأحكام المعرفية حول الشيء الذي حقيقته في ذاته، وقوة الأحكام التركيبية للمعرفة البعدية أي الأحكام التي نكونها بعد الإتصال الحسي التجريبي بالموضوع. وأخيرا، فالمعرفة لدى كانط تتشكل عندما نجمع بين المعنى المعرفي القبلي وموضوع المعرفة الحدسي / الحسي التجريبي..

ليس ترفا أننا استعرضنا ولو باقتضاب، آراء الفلاسفة حول النظرية التقليدية للمعرفة، وإنما كان ذلك لنمر إلى محاولة النظر في نظرية معرفية معاصرة قدمت انتقادات للنظرية التقليدية للمعرفة، ومهدت لها الإبيستيمولوجيا التكوينية التي اهتمت بنمو المعرفة وفتحت الطريق أمام أهم المقاربات البيداغوجية المعاصرة.. جاء في كتاب "درس الإبيستيمولوجيا" للأستاذين عبد السلام بنعبد العالي والمرحوم سالم يفوت في إطار مؤاخذات الإبيستيمولوجيا التكوينية، عبر بياجي، على نظريات المعرفة التقليدية: "أ- أن نظريات المعرفة التقليدية لم تنظر إلى المعرفة العلمية كمسلسل وعملية تطور.. ب – أن الكيفية التي وضع عليها مشكل المعرفة، كانت تؤدي بتلك النظريات إلى الخوض في الميتافيزيقا.. ج – أن نظريات المعرفة التقليدية اعتبرت الحقائق جاهزة كما اعتبرت المعارف العلمية متوقفة ومتحجرة" (درس الإبيستيمولوجيا– ط1 – ص 52).

3 – في السؤال الثاني للمعرفة:

وعلى هذا فإن الطروحات التقليدية لنظرية المعرفة، رغم أنها قد حاولت مناقشة المعرفة من خلال آلياتها المنطقية (العقل والتجربة)، ورغم كونها مهدت لتطور البحث المعرفي سواء من داخل العلم أو من خارجه، فإنها، حسب مؤاخذات باشلار وبياجي وألتوسير Althusser، لم تعمل على مواكبة التطور العلمي، ولم تجعله ضمن دائرة اهتمامها إلا بالقدر الذي كان سيخدم إشكالياتها الخاصة، مما حدا بالعقلانيين إلى مناقشة المعرفة من منطلق مدى استجابتها لإشكالياتها الأصلية، أي البحث داخل المعرفة العلمية عما يؤكد نظرياتها حول البنى المعرفية الكونية والقبلية، ومما حدا بالتجريبيين أيضا إلى مناقشة المعرفة التجريبية الحسية من خلال منظور ضيق جعل من المعرفة العلمية رهينة الرؤية الأحادية التي لا تعطي أهمية للتحليل العقلي للظواهر الحسية، وتجعل من الذات العارفة (الإنسان / المتعلم)، ذاتا محدودة الفعالية اتجاه موضوع المعرفة، مما جعلها لا تقترب من المعرفة العلمية إلا من خلال إطارات عامة ومعممة كما أكد كانط نفسه. بالرغم من كون كثير من رواد كلا الإتجاهين كانوا رياضيين وفيزيائيين، ولكن المشكلة كانت في كون المعرفة العلمية تسير مع الفلسفة في اتجاه لا يخدم مصالحها، بل يخدم الإشكاليات الفلسفية أكثر مما يخدم إشكاليات المعرفة العلمية.

كما قدمنا فوق، وحسب سالم يفوت وبنعبد العالي في كتابهما المشترك المشار إليه آنفا، فإن من أهم مآخذ الإبيستيمولوجيا التكوينية على نظريات المعرفة التقليدية، هو كونها خلال بحثها المعرفي لم تأخذ بمقتضى نتائج العلم، بالرغم من أن أغلب الفلاسفة الباحثين في نظرية المعرفة الكلاسيكية كانوا إما فلاسفة وعلماء رياضيات أو فيزياء مثل ليبنتز وديكارت وبيركلي، أو فلاسفة تأثروا بالمنهج العلمي التجريبي مثل هيوم. ولهذا جاءت الإبيستيمولوجيا التكوينية كما هي عند بياجي، لتؤسس لنظرية في المعرفة مبنية على العلم ونتائج العلم، خصوصا نتائج علم النفس، لأن نظرية المعرفة التقليدية كانت تنظر إلى المعرفة كشيء قار أي كمعطى محدد مسبقا، وليس كمعرفة تفاعلية متطورة ومتغيرة، ولهذا فبياجي لم يأخذ لا بالمنظور العقلاني القائل بفطرية المقولات المعرفية، ولا بالمنظور التجريبي الذي يعتمد على الإنطباعات الحسية المباشرة للوصول إلى المعارف. ولهذا أيضا، فإن بياجي من داخل إبيستيمولوجيته التكوينية قد أراد ليس دراسة المعرفة كما هي، أي كمعطى، وإنما أراد دراسة المعرفة في سيرورة نموها وتطورها وانبنائها، وبناء على هذا، فقد آثر الإنطلاق من الطفل، يعني من سيكولوجية الطفل حيث يمكن تتبع بناء المعرفة انطلاقا من منبعها...كنتيجة لذلك، أراد بياجي أن يجعل من نظريته في المعرفة نظرية علمية تتوخى الدقة والصرامة مع البقاء وفيا لخطه الإبيستيمولوجي التكويني، جاء في كتاب "درس الإبيستيمولوجيا" (ص 57) ما يلي: "فبينما يعتبر علم النفس التكويني عمليات الفكر أفعالا ووقائع تدرس كما هي في نموها بطريقة تجريبية، فإن المنطق يعبر عن هذه العمليات نفسها في تجريدات يعالجها بطريقة استنباطية محضة، وذلك بصياغتها في رموز وإفراغها من محتواها السيكولوجي"..

كيف إذن نظر بياجي إلى إشكالية تكون المعرفة؟ المعرفة لدى بياجي مسألة بناء وانبناء (Construction et structuration): فالطفل بالنسبة إليه، يبني معارفه انطلاقا من احتكاكه وتفاعله مع العالم والمحيط، وخلال هذا الإحتكاك، تنمو القدرات المعرفية والذكائية لديه بناء على عمليات داخلية ذهنية وسيكولوجية، بحيث أنه في أثناء عملية الإدراك بالموضوعات يقوم بمحاولة استيعاب Assimilation للموضوع المدرك وإدماجه داخل بنيات معرفية أولية أو خطاطات Schèmes، هذه الخطاطات تعتبر من ضمن المعارف التي بعضها مسبق وأولي، وبعضها مكتسب من خلال تفاعل الفرد طيلة مراحل حياته مع المحيط، أي أن عملية الإستيعاب عندما لا تكون ناجحة، يتدخل ميكانيزم آخر لتصحيح الوضع، إنه التكييف Accommodation، هذا الميكانيزم يقوم بتعديل المعرفة المستقرة في الخطاطة حسب معطيات المعرفة الجديدة من أجل إعادة إدماجها من جديد في البنية المعرفية والذهنية للفرد. وهكذا تصبح الخطاطة عبارة عن وعاء سيكولوجي ذهني للمعارف المكتسبة والمستوعَبة، تتفاعل مع مقتضيات بناء المعارف.. ونظرا لكون المجال هنا لا يسمح بإعطاء جرد مطول حول نظرية بياجي المعرفية، فيمكننا القول بأن الإبيستيمولوجيا التكوينية التي جاءت ضمنها نظرية بناء المعرفة لدى بياجي قد شكلت أساسا لتطوير هذه النظرية والإنطلاق لبلورة رؤى معرفية أخرى حاولت الحفاظ على الأساس البياجوي (نسبة لبياجي) مع إضافات جعلت من نظرية بياجي أكثر انفتاحا وشمولية... لقد جاء في موقع Academon.fr ما يلي: "بالنسبة لبياجي، بناء المعرفة يبقى مسألة ذاتية: فالصراع المعرفي الذي يضع الفرد في مواجهة محيطه، يسمح للمتعلم باكتساب تعلماته بمفرده... من جهة أخرى، وبالنسبة للتيار السوسيو - معرفي الذي يعبر عنه فيكوتسكي Vygotsky وخصوصا برونير Bruner، فقد أضاف مفهوما جديدا إلى ما أتى به بياجي: العامل الإجتماعي، فكل فرد يتعلم من الآخرين وبفضلهم... وهكذا وضع علماء النفس حلين يسمحان ببناء المعرفة في إطار العامل الإجتماعي: الصراع المعرفي (بنائية بياجي) والتمدرس أو التعلم التفاعلي Tutorat في إطار التفاعل الإجتماعي (السوسيو- معرفية Socio - cognitivisme) "، وعموما فالنظريات البنائية تؤكد على الجانب التفاعلي والتكاملي بين البنى النفسية والذهنية، والبنى المعرفية التي تنتج عن الإحتكاك بالواقع والمجتمع لبناء المعرفة أو إعادة بنائها أو تحويل بنيتها (Transformation هنا) طبقا لمقتضيات الواقع المعرفي والمجتمعي عبر ما أسماه بياجي بالخطاطات المعرفية العامة التي تشكل قاعدة متحركة لبناء أو إعادة بناء أو تحويل المعارف والقدرات.

4 – الكفاية وسؤال المعرفة:

كما قلنا آنفا، فإننا قد اعتبرنا الكفاية بنية يمكن التعامل معها من خلال بنياتها الداخلية دون اعتبار لما هو خارج عن تلك البنيات، أي كبنية مغلقة ذات مكونات تتفاعل بينها حسب نظام معين، كما يمكن أن ننظر إليها في إطار ما يسفر عنه تحققها من خلال تحولها إلى سلوك ظاهر وفعل ملموس وملاحظ. وقد حددنا مكونات البنية الكفائية في ثلاث مكونات أوجزناها في: المعرفة والمعرفة الفعل والمعرفة الكينونة.

إن ارتباط الكفاية بالمعرفة ارتباط وثيق وتكويني، بمعنى أنه لا كفاية بدون معرفة، لأن الفرد، إذا استعنا ببياجي، لا يستوعب إلا المعرفة ثم بعد ذلك يقوم بتحويلها إلى معارف مجردة أو أفعال أو سلوكات... وربما سيكون من المفيد أن نحاور شيئا ما نظرية المعرفة التقليدية بخصوص الكفاية، ولنبدأ بهذا السؤال: هل المعرفة الكفائية معرفة مسبقة أو حسية تجريبية أو بنائية انبنائية؟ سوف من أجل هذا نعود إلى الحديث عن المتعلم كذات عارفة في مواجهة موضوع معرفي ما... لا يمكن أن نلغي دور التمثل العقلي للموضوعات المدركة، فأمام موضوع تجريدي غير حسي، انطباعي وغير تجريبي، يكون المتعلم أمام موقفين اثنين: إما أنه سيعتمد على تمثلات معرفية سابقة عن هذا الموضوع، وهي ما قد نسميه "موارد" ينطلق منها في تطوير وبناء معلوماته واستيعابها ثم إدماجها ضمن بنياته الذهنية أو خطاطاته كما أسماها بياجي، ثم بعد ذلك يتم تصنيفها حسب نوع المعرفة كما هي في ذاتها قبل الإستيعاب إما ضمن خانة المعارف المجردة أو المعرفة الفعل أو المعرفة الكينونة، وإما أنه سيكون أمام موضوع لا يحمل عنه أية تمثلات، وفي هذه الحالة سيكون في موقف سلبي اتجاه الموضوع المعرفي، وفي غياب أي تمثل أو معرفة قبلية أو موارد، لا بد من تدخل طرف ثالث يلعب دور الوسيط Médiateur بين الذات العارفة وموضوع المعرفة، وهذا هو دور المدرس أو المرشد أو الوصي أو ما أسميه أنا بـ"حقيبة الموارد" الذي سوف يحل محل المعرفة القبلية a - priori أو حتى الفطرية التي نجدها عند العقلانيين، مما يعني أن العقل البشري يمكن أن يكون صفحة بيضاء وفي وضع سلبي أمام موضوع معرفة ما، ولا يوجد بأية حال من الأحوال معارف أو صور قبلية للعالم، وإنما تمثلات ناتجة عن تجارب فعلية بفعل التفاعل مع العالم، يتم استيعابها وإدماجها في البنية الذهنية ثم نقلها وتحويلها في الوقت المناسب والمكان المناسب، وإما أن الذات العارفة / المتعلم لا يحمل أية تمثلات عن الموضوع وبالتالي لن يبقى لعمليات من قبيل النقل والتحويل أو الإستيعاب أية أهمية أو دور (في غياب الوسيط)، وعليه فإن الكفاية هنا سوف لن تتحقق إلا بعدما تتحقق عملية بناء المعرفة. نستفيد من كل هذا أن القول بوجود صور معرفية وفطرية عقلية عن العالم أمر غير وارد، وما أورده كانط Kant عن الأحكام التحليلية البعدية هو ما يمكن التعبير عنه بالآليات المنطقية التي تبقى من خصائص العقل البشري، ولهذا أعطى العقلانيون وكذلك كانط، الرياضيات أهمية بالغة لكونها كما قلنا آنفا تستخدم آليات كونية وضرورية لا تحتاج إلى تجربة... الكفاية من هذا المنظور إذن، سوف تبقى غير كاملة طالما لا توجد هناك تمثلات أو معرفة مسبقة ناتجة عن تجربة، وطالما لا يوجد هناك وسيط يلعب دور التمثلات أو دور المعرفة القبلية..

إذا كانت الكفاية لا تستقيم بدون معرفة مسبقة، فطرية أو مكتسبة، فهل يمكن أن نحقق كفاية ما إذا وضعنا المتعلم أمام موضوع معرفة تجريبي، بمعنى إذا أردناه أن يكتسب معرفة أو كفاية ما انطلاقا من مجرد اتصال حسي تجريبي بموضوع ما؟، إذا عدنا إلى بياجي، فإن المعرفة لا تبني ولا تنبني إلا بالإحتكاك المباشر مع المحيط ومع موضوع المعرفة، وعلى هذا فإن بناء المعرفة واكتساب الكفاية لا يكون قائما إلا بوجود اتصال مباشر مع الموضوع، اتصال حسي تجريبي يفتح خلاله المجال للعقل من أجل إجراء مقاربات عقلية للموضوع عبر آليات تجريبية منطقية من قبيل الملاحظة والإفتراض والتجريب والإستنباط وصياغة القوانين. لا تكفي الحسية Sensualité لبناء أي معرفة كانت في غياب استخدام ميكانيزمات الآلة المنطقية للعقل، كما أنه لا مجال لبناء الكفاية بالإعتماد على المقاربة الحسية الإنطباعية دون اللجوء إلى إواليات العمل العقلي التجريبي، وأعني به عمل الآلية العقلية الأولية من أجل استنباط القوانين بعد استيفاء مراحل التجربة.

إن الرؤية الإبيستيمولوجية التكوينية، والنظرية البنائية والسوسيو– بنائية، قد كانت صائبة عندما نظرت إلى المعرفة على أنها عملية تفاعل مستمر بين الذات العارفة / المتعلم وبين موضوع المعرفة من جهة، وبين المحيط الخارجي من جهة أخرى، غير أنه لا يمكن إلغاء دور العقل والآليات الأولية التي يستبطنها، وهي فطرية لا محالة، في المساعدة على بناء المعارف: لا وجود لمعرفة فطرية أو تصور قبلي للعالم، وإنما هناك تمثلات مسبقة ناتجة عن معارف مكتسبة سابقة أو عن تجربة سابقة تكون بمثابة منطلق للعقل من أجل اكتساب معرفة جديدة في إطار ما يسميه بياجي بالصراع المعرفي، وفي حالة انتفاء التمثلات، لا بد من وجود وسيط يساعد على بناء قاعدة معرفية أو خطاطة معرفية تساعد المتعلم على استيعاب وإدماج المعارف اللاحقة. كما أنه لا وجود لمعرفة تعتمد على الإنطباعية والحسية فقط دون أن يكون هناك رجوع إلى ميكانيزمات العقل المنطقية لمقاربة الموضوع. وما يقال عن المعرفة يقال عن الكفاية، طالما أن المعرفة هي المكون الأساس للكفاية، فبدون معرفة سواء عقلية كانت أو تجريبية، لا يمكن الحديث عن كفاية، وكما قلنا سابقا، فالمتعلم/ الذات العارفة، يستوعب، يُدْمِج ضمن بنياته الذهنية، ثم بعد ذلك يصنف ذهنيا معارفه المُدْمَجة حسب كونها معرفة فعل أو معرفة كينونة.

إن القول بتجزيئية المعرفة داخل بنية الكفاية، ما هو إلا محاولة للتفريغ الكلي للكفاية من محتواها الأساسي والتكويني الخالص، كما يحدث مع بعض منظري المقاربة بالكفايات، وهو نوع من المقولات التي تبحث عن تشكيل أفراد مكونين حسب طلب مجتمع المقاولات والمجتمع الرأسمالي المعاصر، ولكن، هل يمكن أن نبني كفايات بدون معرفة؟ وهل يمكن خلق قاعدة مجتمعية مبنية فقط على معرفة الفعل ومعرفة الكينونة؟.. أسئلة سوف تكون موضوع مقال مقبل بإذن الله...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى