السبت ٢١ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٧
بقلم عبد المطلب عبد الهادي

قراءة في رواية «التوأم»

«لا يمكن أن تُراقب دائما ما يجري خارج ذاتك، ولكن بإمكانك مراقبة ما يجري داخلها»(ص124) «من أنا؟» (ص7)..

سؤال كان البداية.. ليقف القارئ أمامه متسائلا و مستغربا ومندهشا، لأن السؤال هنا لا ينتظر من القارئ جوابا.. بل وُقوفا للتأمل وطرح السؤال، سؤال الاندهاش والفضول. كيف لا يعرف من يكون هذا المتكلم؟

مدخل مُلغز يدفع بالقارئ إلى أن يتتبع مسار الحكي الذي يغزله السارد هادئا.. متسلسلا.. قويا.. بسيطا..ليقطع به الفضاءات والأزمنة والأحداث التي تتوالى تضفر الإقدام بالتراجع.. والحب بالخوف.. والترقب بالصبر..لتؤسس لرواية اجتماعية بامتياز..

السؤال انطلاقٌ للمغامرة.. "من أنا" (ص7).. والسؤال أيضا نهايتها.. "لم لا ؟ " (ص175)، وبين السؤال والسؤال أكثر من جواب، أكثر من حدث.. أمل يتفرق على امتداد الرواية ليكون الخيط الرابط بين الحب والصبر والانتظار.. وإذا كان الجواب موتٌ للسؤال، فإنه هنا، في رواية "التوأم"، انطلاق للحكاية ومنتهاها وامتداد لها وتفرُّع لمسارات الحكي الذي تتجاذب تيماته أحداث توقِفنا أمام عجزنا الإنساني الذي يُصعِّب علينا تكهّن أسراه بين السؤالين.. من أنا؟ و ولم لا؟.

بين السؤال والسؤال اشتعلت مسافات الحكي، تنسج من الألم أحداثا تُسيج الحلم لتجعل منه ـ كما السؤال ـ بداية ومنتهى.. حلمٌ عصِيّ على التحقق ينفلت كما تنفلت الأسرار بين الشفاه ساعة بوح، لتدور الدائرة، ويعيش الحلم / الحب محكوما بالبعد.. بالشهوة الممنوعة والمحرم..
"التوأم" توائم متعدد.. تتضح للقارئ معالم الرواية وهو يسير مشدودا إلى الأحداث بخيط رهيف من حكي سلس.. سهل، يجعل منه مشاركا متماهيا مع الشخوص، يقف حيث تقف، سائلا حين يعنُّ السؤال، فاتحا للآتي من الحكي مداخل المتعة واللذة.. تلك الشخوص التي يصنعها مُرّ الواقع المُسيج بالأعراف والتقاليد التي تحد من كل انطلاق نحو مغامرات البوح والمحرم الذي يكبت الشهوة ويوقف اندفاع السر، ويطيل لحظات الانتظار..

يرافقك التوأم وأنت تجوس خلال الفضاءات التي تم اختيارها بعناية وذكاء، بحث تجعل القارئ توأما لها حين يغوص في أسرار الحكي باحثا عن خفاياها وخباياها يُسائل تجاويفها وأعماقها ومنعرجاتها، ويفتح لها قلبه ليدرك أسرارها ويكون عنصرا فاعلا مساهما في فعل الحكي لتكتمل لديه اللذة والمتعة.. "وحدها الروح الأخرى التي تسكنني في سرية تامة تدعوني للالتقاء بها في سكينة المكان" (ص31)..

في فضاء غاليري موريس"تسكن الأرواح وتتواشج.. بل تجد توائمها التي تتواصل معها عبر الزمن والحكايات القديمة، إذ في لقاء الأرواح تواءم مع الماضي وانصهار مع الحاضر واستشراف لآتي يكون فيه القارئ مشاركا إيجابيا من خلال حوار روحي تُنسج عبره وشائج الحب والبوح، وتتواصل فيه الذوات لتصبح ذاتا واحدة.. توأم..

تسير الرواية بالقارئ وتشد أنفاسه، تجتاز به الفضاءات والأحداث في سفر شيق عبر لغة سلسة غير متصنعة، واضحة غير غامضة، شفافة تّرى من خلالها الشخوص وانفعالاتهم، والأحداث قبل وقوعها ليرسم القارئ خرائط تخيلها وصناعتها، لينخرط في السؤال كأنه جزء منها(أي الرواية).. " أن تفقد حبيبا شيء مؤلم، لكن أن تفقد نصفك، مرآتك، ظلك، فهذا ما يعجز البشر عن وصفه لأنهفوق طاقة كل البشر" (ص 87)..

"التوأم" أيضا، استثمار ذكي لخبرة للكاتبة في المجال الطبي والتربية الصحية والنفسية، إذ الكاتبة من وسط طبي، بل هي الطبيبة التي تعرف مداخل النفس البشرية وبواطنها، الشيء الذي أضفى على شخوص الرواية بعدا آخر ينفتح على الذات عمقا وظاهرا ويشرحها لتكون أكثر وضوحا لتفتح للقارئ بابا لدراستها وتأملها وتقاسم آلامها.. "بعد هذا الحدث، قضيت ثلاثة أشهر في السجن في حالة اكتئاب حادة حاولت إثرها وضع حد لحياتي، وهكذا تم نقلي إلى مستشفى الأمراض النفسية تحت تشخيص حالة délire érotomaniaque" (ص 49).."باختصار يا صديقي الولهان، هناك مرحلة الرغبة وهي تعود إلى إفراز الهرمونات الجنسية : الأستروجين والتستوستيرون، وهي سبب الإعجاب بشخص معين دون غيره " (ص 61).. وهي آلية تلجأ إليها الكاتبة في كل رواياتها(1) حين تكون الضرورة ملحة لإيراد مثل هذه المعلومات لتعميق البعد النفسي والاجتماعي للشخوص ولتكثيف حالة أو تطوير حدث أو تعميق النظر فيه، مع الالتزام بمبدإ البساطة الذي لا يستخف باللغة أو الحكي، والابتعاد عن التعقيد والغموض ولوي الكلام، وذلك ما أعطى الرواية عمقا إنسانيا ومتعة قرائية مسترسلة تروم السير بالقارئ إلى اكتشاف الذات الإنسانية  وما يعتمل بداخلها من تناقضات تجمع الخير بالشر.. والحب بالكره.. والإقدام بالإحجام.. والبوح بالكتمان لتضفرها أسرارا تنهض عليها الرواية كتيمة تتقاسمها الشخوص والقارئ لتتآلف وتقف أمام سؤال المنطلق.. من أنا ؟ لتتشعب الأحداث وتنطلق الأحاسيس لتقترب في نفس اللحظة مجبَرة على قبول واقعها الذي يُنسج وحده لا دخل فيه لأحد لتلتقي القلوب المكلومة في اللحظة الفارقة والمؤلمة لتجعل من الأمل نقطة جديدة للانطلاق والبداية.. "ظللنا هكذا لحظة متمسكين ببعضنا البعض.. وأنا أسكب في آبار عينيها كل البوح الدافق بعد عطش السنين.. لم لا؟ هذا السؤال الجواب الذي يشرع ألف باب للأمل ." (ص 175)..

لم لا؟.. سؤال النهاية يخفي وراءه تحديا وأملا وسرا، لم لا؟.. بداية المغامرة والانطلاق وتجاوز حدود الانتظار وإكراهات الروح والجسد.. بل هي بداية معلنة ـ و غير معلنة ـ من السارد لاستمرار الرواية والحكي الذي على القارئ أن يبدأها، إذ كل نهاية بداية.. والقارئ الذكي المشارك في الفعل الحقيقي للقراءة هو من يعرف كيف يبدأ روايته انطلاقة من نهاية الرواية التي بين يديه..
لم لا يتحدى القارئ نفسه وينطلق في قراءة ثانية لهذه الرواية "التوأم"، ليصنع من نهايتها عالما يبدأ بالمغامرة والانطلاق والتحدي.. لم لا.. والقراءة مغامرة وتحدي..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى