الخميس ١ نيسان (أبريل) ٢٠٠٤
قصة قصيرة:
بقلم ريتا عودة

قطرة مطر

لكلِّ نهايةٍ حتما هنالك بداية ما, وبدايتي أنا كانت حين قررتُ أن أكونَ
متفردة في هطولي فلا أتبدّد عبثا.

نظرتُ الى الأرض أبحث عن مكان أهطل فيه.
أبصرتُ مجموعة من الأطفال يتقافزون حُفاةً فوق بقع الماء, يطاردون كرة, ويُرددُونَ بفرح:

طاح المطر على الطين
الله يسلّم فلسطين

وابصرتُ كهلا قرفص قريبا منهم يرقب الطيور الصغيرة البعيدة في السماء ويقول في سرّه:" متى تتلون أحلام البؤساء.. ؟! " .

حطّت الكرة فوق أنفه, فاستيقظ على الأطفال وهم يسقطون حول عنقه بحميميّة, كلٌّ يقطف عن وجنتيْهِ ثمارالصباح.

عبرتُ بين الأزقة المُوحلة وتسمرتُ قرب غرفة طبيب نحيل رأيته يرتدي ثوب البرّ .
نظر من النافذة وراح يراقب العصافير الصغيرة البعيدة يحلم أن تحطّ على كتفه
ذات أمل.

يعود من تيهه إلى المرأة العجوز التي انتهى لتوه من الكشف عن سبب أوجاع صدرها.

يرقب يديها بتوجس. تحاول المرأة فكّ صُرّة لتغوص داخلها وتحفن منها ملء راحتها قطعا نقدية نحاسيّةصغيرة, صغيرة.. تضعها على المنضدة وعيناها تتوسلان أن يرضى بهذه الذبائح الشحيحة.

يتنهد الشاب ويقول وقد حشرج صوته في حلقه:

 ضُبّي نقودك يمّا, الدنيا لسّة بخير .

تقع العجوز بثوبها الأسود المُبرقش بالقطب الفلسطينية الكالحة , فوق عنق الشاب. تُقبّله بحرارة وتدعو له بوافر البّر.. فجأة ..يسقط منديلها الأبيض فوق كتفه.
وأواصل أنا رحلتي بفرح غير عاديّ...

اقتربت فتاةٌ تفتح نافذةً, فاقتربتُ.
عادت للداخل تسير بخطوات متلعثمة فأدركتُ أنّها مكفوفة. جلستْ قُرب المرأة العجوز تقول لها:

 يمّا, أشتهي اليوم طبخة فريكة.
تسيرُ العجوز نحو معطفها, تتحسس الجيب , لا تعثر إلاّ على بضع ورقات نقدية والشهر ما زال في أوّله. لا تتأفف . تبتهل: أعطنا خبزا كفاف يومنا. تهتف بحنوّ لسعدة:

 تعالي نحصل على قسط من الراحة, وحين نستفيق ربّك بيفرجها.
عندما تستيقظ تعثر على دجاجة في المطبخ فلا تشغل بالها بمصدر رزقها بل تشرع في اعداد الفريكة.

بينما هي منهمكة في عملها يصل ابنها فيخبرها أن أحد الرجال زار المشفى , وفي يده بعض الدجاجات أتى بها للطبيب الذي استأصل الرصاصة من أحشائه دون أن يتوفر له ثمن العلاج , وحين رأى سعد في الرواق, رقّ قلبه وأعطاه دجاجة.

سقطت الأم على عنق ابنها فسقطت ضفيرتها الشائبة فوق عنقه.
طوّقته كالحبل السريّ. قبلته بفرح وهي تدعو له بوافر البقاء.

بانتشاء, تابعتُ رحلتي تلك..
رأيتُ امرأة عجوز تكاد بشرتها تكون كقشرة برتقالة جافة.

رأيتُ الحزن بين تجاعيد وجهها كالماء بين شقوق الأرض العطشى.

كانت قد قرفصت بسكُون فوق الأرض , تعلو الهتافات من حولها , كلّ يستنكر على طريقته هدم منزلها,أما هي فقد كانت تراقب الغبار الذي تراكم فوق شجرة الصبّار التي كانت شاهدة على هدم مأواها,عشّ أحلامها.

دفنت هواجسها في الرمال الرقطاء وأخذت تحلم براعي يسوق قطيع آمالها إلى مرعى أخضر.

أخذت تتنهد بصمت, تتمنى ولو عَبْرَةً واحدة تجفف حُرقة قلبها.

نظرتْ إلى فوق, تستجدي العون.
لمحتْ عصافيرا كثيرة, بعيدة , بعيدة.
تنهدتْ بحُرقة.راحتْ تناجي روحها:

آآآخ ..كيف تحطّ العصافير فوق طبق القلب إذا كانت الأرض غارقة في الطوفان..؟!

بغتة, التقتْ نظراتنا. رقّ قلبي
لهذي المرأة الشامخة كنخلة , الصامدة كشجرة زيتون في تربة خصبة.

قررتُ أن أهبط إليها لأخففّ عنها خلّ تلك اللحظة.
قفزتُ داخلَ مُؤق ِعينها وهنالك بدأتُ اتضاعف برويّة.
فجأة,أجهشتِ المرأة في البكاء.

15-3-2004


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى