الخميس ١٢ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٦
فاطمة ناعوت .. في أحدثِ إصداراتها
بقلم إبراهيم سعد الدين

كتابة بالطّباشير.. لكنها لا تَمّحي من الذّاكرة..!!

"الكتابة بالطباشير، في الفنِّ والحياة" هو عنوان أحدث إصدارات الشاعرة المصرية فاطمة ناعوت. صدر مؤخرًا عن دار "شرقيات" للنشر والتوزيع بالقاهرة. قدّم للكتاب النّاقد والمفكر المصري الكبير محمود أمين العالم بمقدّمة نقديّة ضافية بعنوان "تحذيرٌ ومُقاربة" استهلّها بقوله:

"أيـها القارئ العزيز، حـذار أن تصدِّقَ عنوان هذا الكتـاب! فكتابته لم تتم وتتحقّـق، كما يزعم عنوانُه، بالطباشيـر! فهي ليسـت بالكتابـة السَّطحية التي يمكن أن تُمسـحَ أو تُنسى بمجرد مغادرتِها. بل هي بالحـق، وفي غير مغالاة، كتابـةٌ بالحفـر العميـق في حقائقَ وظواهـرِ تجاربنا الثقافية القومية والإنسانيّة، التراثيـّة والمعاصـرة عامـة، التي تظلُّ تتابعنـا وتلاحقـنا بعد قراءتهـا. ولهذا أرجو أن تتأهَّبَ في قراءتك لعمليتيْ هدمٍ وبناء- معرفيًّا وموقفًا في وقت واحد- حول العديد من همومنـا الثقافيـة والحياتيّـة السائدة والمهيمنة.

والحق أن قراءتي لفصول هذا الكتاب، على تنوّعها ووحدتهـا معًا، كانت لحظةً معرفيّةً حضاريّةً متنامية، تجمعُ بين تراثِ الماضي الإنسانيّ بعامة، وليس القوميَّ فحسب، وأزمةِ الحاضـر وجسارةِ استشرافِ المستقبل. فلقد وجدتني في حضرةِ كاتبةٍ على مستوى رفيعٍ من الامتلاك العميق الحيّ لثقافتنا العربيـة، لا من حيث لغتها رفيعة المستوى فحسب- وهذا أمر ندُرَ عند العديد من كتابنا- بل في تراثِها الإبداعيّ الفكريّ والأدبيّ والبلاغيّ كذلك، فضلا عن معرفتها وتمثّلها الجوانب المهمة من التراث الثقافي الإنسانيّ الغربي والشرقيّ على السواء، وبخاصةٍ في توجهاته وخبراته المتمردة والمتجاوزة للمفاهيم السُّلطويّة والأحاديّة والمركزيّة والإطلاقيّة والغائيّة المفروضة. واستطاعت الكاتبةُ باقتدار أن توحّد في هذا بين أحدث الخبرات الإبداعية في مجال التعبير الأدبيّ من ناحية ومجال فـنِّ المعمـار الهندسيّ- وهو واحدٌ من تخصّصاتِها- من ناحية أخرى. هذا الفـنُّ الذي كان طليعةَ الاتجاه ما بعد الحداثيّ وملهمَه في الفنِّ والأدب على السواء، هذا فضلا عن استبصارها الحميم بالتداخل بين العِلْم من ناحية والفـنِّ والأدب من ناحية أخرى. إنها بحق محاولة جادّةٌ عميقة تكشف ما بين مختلف المنجزات والحقائق الإبداعية من تواصلٍ وتفاعل خلاّق."

في صفحة الإهداء كتبت المؤلفة: "إلى الشِّعر، الذي سمحَ بكتابة هذا الطباشير، على هامشه"، في إشارةٍ نافذةٍ بليغة إلى أنّ الشّعْرَ في منظور إبداعها هو القاعدة وأية كتابة أخرى ـ ِسواه ـ هي استثناء.

وقد تعدّدّتْ فصول هذا الكتاب وتنوّعتْ موضوعاته ـ في خِصْبٍ وثراءٍ وعُمقٍ وأصالةٍ وإمتاعٍ ومؤانسة ـ ما بَيْن الكشف المُبهر عن تلك العلاقة الحميمة التي تربط بين العلم من جهة والأدب والفنّ من جهة أخرى ـ في فصْلٍ بعنوان (العمارة والشّعر)، إلى معالجة بالغة العمق والدّلالة لقضية الترجمة باعتبارها جسْراً من جسور التواصل الثقافي والحضاري بين الأمم والشعوب وأداة للتطوّر والتقدّم والرّقيّ خاصّةً في عالم اليوم الذي تتسارعُ فيه وتيرة الإنجازات والكشوف العلمية والأدبية. ففي فصل بعنوان (مرآة ابن رُشْد) تصف المؤلفة عمليّة الترجمة بأنها ليست مُجّرّد نقلِ المخطوطات والكتب من لغةٍ إلى لغة بل هي "العملُ على احتلالِ درجةٍ أرقى من درجاتِ العبور والاختراق كي تلجَ وتنهلَ من الجوهر العميق لروح حضارة أو فكر ما" وتضيف قولها : "وبإجراء قراءة سريعة للتاريخ، سوف نجد ارتباطًا، يكاد يكون شرطيًا، بين ازدهار وُرقّي مجتمع وبين انتعاش حركة الترجمة فيه وتكريس مبدأ الاتصال الثقافي مع الحضارات الأخرى".

وفي مقالٍ بعنوان (ما وراء سقوط سيبويه) تتناول قضية مطروحة الآن للنقاش والجدل على الساحة الثقافية في الوطن العربيّ وعلى جانبٍ كبير من الأهمية وهي "النحو والصرف" في اللغة العربية حيث ترى أنّه: " من الدلائل الأخرى على عبقرية الموسيقى في علم النحو مادة "الممنوع من الصرف"، ليس فقط في الاختيار المدهش للكلمات التي يجب ألا تُصرف لدواعٍ موسيقية مثل: مساجد – كنائس ـ مصر- مكة - سجاجيد.... إلخ، لكن الأجمل هو (علامة جَرّ) تلك الكلمات وهي (الفَتْحة) عكس ما هو سائد في اللغة وهي (الكسرة) كعلامة للجر". وأنّ "اللغةَ تحوّرُ نفسَها وتعيدُ خلقَ ذاتِها بشكل مستمرٍ ببطءٍ حينًا، كما تراكم الغبار فوق سطح مصقول، وبسرعة في حين آخر، كما فتوحات البلاد .. ففي اللغة العربية كمثال فقدت المجازات والكنايات القديمة دلالاتها ففقدت شرعيتَها بل ومعناها.." ثُمّ تشخّصُ أزمةَ الخطاب اللغويّ العربيّ فترى أنها "مرتبطةٌ بتدني المستوى الثقافي للفرد العربي في الزمن الراهن".

ومن قضايا الترجمة واللغة تنتقل المؤلفة إلى قضية التجديد والحداثة وحرّيّة التعبير في الأدب والحياة على حَدٍّ سواء إلى أن تختتم هذه النُخبة المُصطفاة من المقالات بفصلٍ أخير عنوانه "الشعر والحرب" فتسوقُ إلينا رؤيتها بقولها: "أليس الشعرُ حربًا على تقليدية اللغة؟ والصورةُ الشعرية الميتافيزيقية أو الفانتازية حربًا على المنطق؟ ألا يُعدُّ المجازُ والاستعارات والتقنيات الشعرية مثل تراسل الحواس والسوريالية واللازمنية وغيرها من الأدوات والتيمات التي دَرجَ على استخدامها الشعراء لونًا من الجموح والانقضاض على الواقع والصراع ضد المألوف؟ بل أليس الشعرُ ذاتُه محاولةً لهدم العالم وإعادة بنائه؟!"

وفي ختام تقديمه الرّائع لهذا الكتاب المُهمّ يقول محمود أمين العالم: "فهل انتهى الكتاب بهذه الكلمات والرؤى العامة؟ لا. فما أكثر الكنوز الفكرية الأخرى التي يمتلئ بها هذا الكتاب الزاخر بالأفكار والقيم والمعارك دفاعًا عن الحياة والحرية والإبداع والتقدم المعرفيّ والإنسانيّ إلى غير حد.
هذا كتابٌ يُعدُّ إضافةً عميقةً وجادةً ملهمَة إلى تراثنا النقديّ العربيّ المعاصر وتستحقُّ عليه الشاعرةُ والناقدة فاطمة ناعوت كل تقدير واعتزاز".

وفاطمة ناعوت عضو باتحاد كتاب مصر وكاتبة ومترجمة وشاعرة في آنٍ واحد وعلى نفس المستوى الرفيع من التَّميُّز والإجادة في كُلّ ميدانٍ من هذه الميادين. وقد استطاعت عبر مسيرة عطائها ـ القصيرة نِسْبيّاً بقياس الزمن ـ أن تثري المكتبة العربية بزادٍ أدبيٍّ جادّ ورصين لفت إليها الأنظار وبوّأها مكانة مرموقة وحقّقَ لها حضوراً فاعلاً ومؤثّراً في حياتنا الأدبية. من إصدارَاتها الشعرية: "نَقْرة إصْبَعْ" الصادر عن الهيئة العامة للكتاب بمصر عام 2001 ، "على بُعْد سنتيمتر واحد من الأرض" الذي صدرت طبعته الأولى عن دار ميريت للطباعة والنشر 2001 وطبعته الثانية عن دار كاف نون 2002 ، "قطاع طولي في الذاكرة" عن الهيئة المصرية العامة للكتاب 2003 ، "أحزان حمورابي" (مختارات ـ عمل مُشترك) عن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان 2003 ، "مشجوج بفأس" (مختارات ـ ترجمة عن الإنجليزية) ضمن سلسة آفاق عالمية التي تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة بمصر 2004 ، وأخيراً هذا الديوان الذي نحن بصدد التعريف به "فوق كف امرأة" الذي صدرت طبعته الأولى عن وزارة الثقافة اليمنية عام 2004 وصدرت طبعته الثانية عن الهيئة المصرية العامة للكتاب 2005 . ولها قَيْد النشر كتاب ثقافي بعنوان "دائرة الطباشير" سوف يصدر عن المجلس الأعلى للثقافة بمصر، وديوان شعرٍ بالإنجليزية بعنوان:
"Before The School Shoe Got Tight" يصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.

وقد تُرْجِمَ العديد من قصائدها إلى اللغة الهولندية والإنجليزية والفرنسية. أما قائمة أعمالها غير الشعرية فهي تضم: "جيوب مُثقلة بالحجارة" عن الكاتبة والروائية الإنجليزية المشهورة فرجينيا وولف مع ترجمة لروايتها القصيرة "رواية لم تُكتب بعد" ـ وهي أول ترجمة إلى العربية لهذه الرواية ـ والصادر عن المشروع القومي للترجمة بالمجلس الأعلى للثقافة بمصر عام 2004 ، وأحدث إصداراتها ترجمة لمجموعة قصصية للكاتب البريطاني جون رونفينسكروفت صادرة عن دار شرقيات للطباعة والنشر 2005 ، هذا فضلاً عن العديد من الدراسات المترجمة من وإلى العربية والإنجليزية لا يتسع المقام لذكرها.

جديرٌ بالذّكْر أن فاطمة ناعوت حصلت هذا العام على جائزة رفيعة المستوى عن مخطوطة ديوانها "قارورة صَمْغ" ـ هي جائزة الشّعر العربي في المسابقة السنوية التي ينظمها موقع الندوة العربية في هونج كونج، والتي تستهدف إقامة جسرٍ ثقافيّ للتواصل بين الأدب العربي والأدب العالمي، وخاصة الأدب الصيني.
إبراهيم سعد الدين


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى