الأربعاء ١٠ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٤
بقلم سعيد مقدم أبو شروق

كنت مسافرًا (4)

قيل: من لم ير إلا بلده يكون قد قرأ الصفحة الأولى فقط من كتاب الكون.

خرجنا من شيراز عند التاسعة صباحًا واتجهنا إلى مركز إيران، إلى مدينة غنى المغنون الفرس بجمالها، إلى مدينة اصفهان، وقد قالوا يبالغون في جمالها (اصفهان نصف جهان) أي اصفهان نصف الدنيا.

تبعد مدينة اصفهان عن شيراز 450 كيلو مترًا.

وقد توقفنا في المسير أكثر من مرة، وقفنا عند مآثر تأريخية كنا قد قرأناها في كتب التأريخ في المدارس، آثار (پاسارگاد).
توجد في هذه الآثار مقبرة كورش مؤسس الإمبراطورية الأخمينية كما يزعمون. (550 قبل الميلاد).
وقصوره التي بنيت بصخور عملاقة، وحدائقه، وفنادقه.

تجولنا بين هذه الآثار التي تبعد عن شيراز 120 كيلو مترًا، ساعة ونصف الساعة لوسعتها، وقد رأينا الكثير من الأجانب وهم
يصورون ويكتبون التقارير لجرائد أو مجلات تنشر في دولهم. أجانب من دول شتى منها البرتغال وإيطاليا وبلجيكا.
ولا نراهم في أهوازنا ولا نرى تقارير منهم تنشر حول الآثار التي كان لها تأريخ كآثار قصور شيخ سلمان الكعبي في الفلاحية
وشيخ خزعل في المحمرة أو آثار المشعشعيين في الحويزة، آثار مهمة خربها الشاه وأكمل دمارها بعد الثورة بعض المسؤولين
المغرضين.
يقول أحد مسؤولي پاسارگاد أنهم يحصلون على أكثر من 50 ميليون ريال في كل يوم من السياح الذين يزورون هذه الآثار ومعظمهم
من الأجانب. وسعر تذكرة الأجانب أغلى من سعر تذكرتنا بأكثر من سبعة أضعاف.

توقفنا في قرية (جوشقان) للاستراحة والغداء، وهي قرية من قرى محافظة فارس، فيها أشجار متنوعة وماء زلال بارد.
وماء الشرب ومنذ أن خرجنا من الأهواز صاف، عذب، زلال؛ ليس كماء مدينتنا الذي لوثته شركات قصب السكر، فأمسينا نبحث عن مصفاة مياه الشرب في كل شارع، حاملين أوانينا على كتوفنا نشتري العشرين ليترًا بخمسة آلاف ريال إيراني.

وصلنا إلى اصفهان عند غروب الشمس، ركنا سيارتنا في موقف ودخلنا حديقة تسمى (پارک صفة).
لم أر طيلة حياتي مثل هذه الحديقة التي تكاد أن تكون مدينة كبيرة آهلة.
حديقة نظيفة، ثيلها كثيف، أشجارها باسقة، هواؤها نقي، أرصفتها مفروشة من الصخر، فيها التماثيل والألعاب وحديقة حيوان، فيها
عين تجري من الجبل، فيها الزهور التي تنشر بشذاها على الزائرين وكأنها تحييهم بلغتها الخاصة.

أكرر لرؤساء بلديتنا الذين تبدلهم شورى المدينة كل عام، أو كل شهر، أن الأرصفة مفروشة بالصخر، الصخر الذي لا يستطيع
الأطفال أن يعزقوه، ولا المطر أن يفتته، ولا كثرة المشي عليه أن يقلعه من مكانه.
هم لا يشترون بميزانية البلد فسيفساء من الدرجة الرابعة، فيتدمر بعد ستة أشهر.
(اتقوا الله بنا أيها المسؤولون!)

وأنت في حديقة صفة، تحس وكأنك تسكن في فندق ست نجوم، كل شيء راق: المقاعد، الحنفيات، طاولات الكرة، ساحات كرة
الطائرة، سلات القمامة التي توجد في كل عشرة أمتار وهي نوعان: نوع للقمامة الجافة ونوع للرطبة. ثم اكتشفنا أن هذه السلات
توجد في جميع الشوارع أيضًا وعلى فواصل قريبة، كل عشرة أمتار سلتان.
تجولنا في هذه الحديقة حتى الحادية عشرة مساء، ثم حركنا نحو حديقة المسافرين التي تسمى (پارک فدک).
ولا حاجة أن تسأل عن العناوين في اصفهان أينما أردت أن تتجه، يكفي أن تدخل في الطرق الرئيسية التي تربط شمال هذه المدينة
الآهلة بخمسة ملايين نسمة بجنوبه وشرقه بغربه، ثم تنظر إلى اللوحات الإرشادية، فإنها ترشدك إلى حيث تريد.
والسرعة في هذه الطرق تتراوح بين 80 إلى 100 كيلو مترًا في الساعة.

كنا قد برمجنا أن نذهب إلى (سی وسه پل) و(چهل ستون) و(پل خواجو) وهي الأماكن السياحية المشهورة في اصفهان، ولكن أينما
اتجهنا وجدناه مكانًا سياحيًا مدهشًا يخطف منا الوقت والأبصار، ويعبق في قلوبنا البهجة وفي نفوسنا الغبطة. وخلاصة القول أن هذه
المدينة كل أماكنها سياحية وجديرة بالإعجاب.
خرجنا صباحًا من حديقة فدك واتجهنا إلى (سي وسه پل)، ثم إلى (پل خواجو) وكانت مياه نهر (زاينده رود) قبل عامين تجري
من تحته، لكن الحكومة حولت مجراه إلى قم ويزد ورفسنجان كما نقل لي حسين يوسفي وهو صاحب مكتبة تقع في (سي وسه پل)،
ما أدى إلى اعتراض الاصفهانيين وتحصنهم أمام مبنى القائم مقام في الأسبوع الماضي.
وبعد أن تحققت من أشخاص آخرين، تبين أنهم يفتحون السد ثلاثة أشهر في السنة ليجري في البلد، ويسدونه تسعة أشهر يُستثمر في
شركات الفولاذ والحديد في اصفهان ويتدفق إلى قم ويزد ورفسنجان.
ولم يجد مسؤولو اصفهان أفقر من شعب الأهواز فقدموا مشروع تحريف ما تبقى من مياه كاروننا إلى مدينتهم، ليعوضوا قلة مياه
نهرهم زاينده رود. ولا يهمهم طبعًا إن أمست مدينتنا جافة عطشى! ويبدو أن الحكومة وافقت على مشروعهم.
فهل سيسمع صوت اعتراضنا من يعنيهم الأمر؟
وبعد أن خرجنا من (سي وسه پل) تمشينا في سوق كبير لا ترى له ابتداء ولا انتهاء.

ثم اتجهنا إلى حدائق كبيرة سياحية عجيبة، طولها خمسة كيلو مترات تسمى (پارک ناژوان)؛ وفيها حديقة الطيور وحديقة الفراشات
وأخرى للزهور ورابعة للأفاعي. تدخلها بعد أن تدفع مبلغًا يتراوح من 30000 إلى 40000 ريال لكل حديقة.
في هذا البلد السياحي الجميل، إن أرهقك التجول في شوارعه النظيفة، وأسواقه الكبيرة، فهناك حدائق عامة كثيرة تجدها في كل
شارع، مفروشة بالثيل الأخضر، وفيها المقاعد والأشجار المظللة والأدوات الرياضية والماء الحالي.

كنا نتجول من الصباح وحتى المساء، وفي المساء نتجه إلى (پارك فدك)، وفدك حديقة كبيرة مجهزة للمسافرين، أجرة المكوث فيها
100000 ريال لكل ليلة، فيها عشرة خطوط، كل خط يتسع لـ 150 سيارة، أي تتسع هذه الحديقة لأكثر من 1500 سيارة، اضربها
على 100000 ريال؛ يساول 150 مليون ريال. هذا إنتاجهم من حديقة فدك في كل ليلة.
فماذا يحصل الأهوازيون في الربيع من ملايين السياح القادمين إلى بلدهم من شتى مدن إيران؟
في عيد النيروز لا نستطيع الخروج من بيوتنا من كثرة الزحمة في الشوارع والحدائق العامة، يخيمون دون أن يدفعوا ريالا واحدًا
نبلط به شوارعنا التي لا نستطيع السير عليها من كثرة دمارها.
في المحمرة مثلا، لا تستطيع أن تسير في شارع إلا وأن تقع في حفره، بينما في اصفهان وخلال تجوالنا أيامًا في شوارعه، لم نر
شارعًا إلا وكان مبلطا تبليطا دقيقا وكأنه مطار.
تعلموا من مسؤولي اصفهان يا أعضاء شورى البلد ويا رؤساء البلدية في مدينتي المدمرة.

وبالقرب من (سي وسه پل)، يوجد متحف يسمى (موزه چهلستون)، رأينا فيه النقوش التأريخية على الجدران، تأريخ ملوك إيران،
شاه عباس الصفوي وشاه اسماعيل ونادر شاه؛ رسوم حروبهم مع الهند، مجالس طربهم، رقصهم. وكان المكان مكتظا بالسواح.

وإني في عجب من أمر مندوبي مدننا وهم يرون الفقر ينهش مجتمعنا، والبطالة كأنها داء معدٍ منتشرة بين شبابنا، والدمار بائن في
ديارنا، لكنهم سكت عن هذا النفط الهائل الذي يتدفق من باطن أرض هذه البلاد ولا ننتفع منه ريالا واحدًا؛ ألا ترون بهذا بأسًا؟ ألا
تجدون من هذا البؤس كله حرجًا في أنفسكم! ألا ترون الفرق الفاحش بين مدن الأهواز واصفهان؟! أم أنكم مشغولون في خدمة
الخلق (كما تزعمون) ولم تتسن لكم الفرصة لتسافروا وتروا الازدهار هناك بأعينكم؟!

خرجنا من اصفهان بعد أن استمتعنا بجمال حدائقه ومتاحفه وأسواقه، واتجهنا صوب الأهواز.
مرينا على مدينة بروجن مركز حلويات تسمى (گز) ثم واصلنا الطريق إلى مدينة إيذج التي استقبلتنا بجبالها العالية ومنعطفاتها
الوعرة. ودعنا كل ذلك الاخضرار وتلك الأشجار الباسقة والمياه الحالية واستقبلَنا دخان عيون النفط والجفاف والحر والحرمان.
وصلنا إلى حبيبتنا الأهواز حيث المياه الملوثة، ثم إلى المحمرة حيث النخيل الواقفة العالية رغم موتها منذ أكثر من ثلاثة عقود.
هنا توجد الكوفيات و(الدشاديش) والكرم، هنا أرى حبيباتي المحجبات بعباءات الستر،

هنا توجد لغة الضاد حالية اللفظ والاستماع. هنا مدينتي العربية (الأهواز).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى