الأحد ١ أيار (مايو) ٢٠٠٥
بقلم عبد الله النصر

لبنة فى الماء

فتح الرسالة بقلبٍ متلهفٍ، وجلٍ، مضطرب، قرأ:

بعد التحية..

أتذكر ياسامي.. يوم أن كنّا (أنا وأنت) تربينِ في الخريف.. إلْفينِ في البراءة المُتَعَبة.. خِلْصينِ قَضّينِ في قريتنا التي انبعثتْ من بين خاصرة الخضرة والماء عنوة؟.. في الزقاق العابس من تعرجاته، الدامي من الضيق، والعشير لزقاق بيتينا الطينيين الشاربين سنين ودماء وخلايا أجدادنا، والمتقاطع معه؟.. في الزقاق الذي رزح تحت وطأت الخضرمة الإجبارية الآن، بعدما نُحتتْ على صحائفه الحجرية الأحداث الواقعية، وعُلَّقتْ في خيالات الأهالي عنه القصص الأسطورية، وهو شامخ ببيوتاته القديمة في صمت.. تحلو له الفرجة والشماتة؟..

أتذكر ذلك الزقاق؟..

اكتنفنا في سنينا السابعة تقريباً، في بقعة منه دون أن يخاف أي قدر!!..

كالوجبة الجاهزة، قدَّمَنا للقدر!!

أجاد اكتشاف غاية القدر!!

أتذكر، حينما أغلقه (الحاج صادق) وهو أحد سكانه، بشحنة من الرمل الأصفر، وضعها بجانب بيته سعياً لتقويمه؟.

أتذكر حين جلسنا بمعية ابن الحاج صادق ذاته (طاهر..) الصغير، على الرمل بفرح لا يقاوم، وبمرح لا يضاهى، وغمسنا أيدينا وأرجلنا في أعماقه، نحفر أنفاقاً طويلة واهنة، ومتشابكة ؟.

(آه) هذا الحدث لا يزال منحوتاً في ذاكرتي!..

كنتُ أنظر من الفوهة الأولى لأحد الأنفاق التي حفرناها، فتنظر أنتَ من فوهته الأخرى، تدغدغنا اللحظة، فنغمر المكان ضحكاً وفرحاً.

النفق أصبح مظلماً بوجهينا.. كلانا يبحث عن ملامح الآخر..

حاولتُ ثقبَ النفق من أوسطه من غير علمك، ليدخل النور فيرى كلٌ منا وجه الآخر بجلاء.. بل لنكتشف ما ستكون عليه وجهانا عبر الاختراع.. فوقعت يدي على يدك.. تفاجئنا.. تنافرت اليدين بسرعة.. التقى وجاهنا خارج النفق.. اكتشفتُ بأنك سبقتني لتعمل ذات الفعل.. فازدادت ضحكاتنا.

وبمشاركة (طاهر) الذي يرقبنا حينئذ فأغواه لعبنا، عُدْنا نكرر ذات الفعل.

كررناه مراراً.. تناسينا أساطير الزقاق وأغداره.. تناسينا الزمن العتيق وأفكاره.. بل تناسينا بالبراءة صنفينا..

حينئذ جاءت صفعة يد خشنة على قفاي النحيل فقط، ويالها من صفعة!!.. صرعتني.. باغتتنا جميعاً.. كان أخي الأكبر من فعلها بعد أن جاء بفحولته، برعونته، بسلطته، بل بكل ما يحمل من والديّ وقريته:

· قومي. يا بنت الـ......!!

فشدني من ذراعي كنمرٍ ثائر، بعد أن دفع بك إلى الجدار بقوة، لنرحل إلى البيت، والضربات تنهال عليّ على أثر غناء وجدانه المصاب بالعفن: الله يـ.. الله يـ.. الله يـ..

حينئذ لفت انتباهي، ابن الحاج صادق، حيث وقف متجهماً، فارداً عضلاته.. متقدماً خطوات نحونا.. صارخاً: ( هأأأأي..) ورمى بقبضةٍ من الرملِ باتجاهِ أخي..

أما أنتَ فبقيتَ ملتصقاً بالجدار الطيني، خائفاً، تبكي!

أتذكر هذا الحدث، ياسامي؟

آملة ألا تكون قد نسيت!!.. لم تنس.. كما لم ولن تنس، ولم أنس أننا في ذات الزقاق الذي تأكدتْ لي الأساطير التي حيكت عنه، والقصص الواقعية التي قيلت فيه، حينما نشأنا يافعين.. فتيين.. شابين.. حينما كنتُ في الصف الثاني ثانوي من الدراسة وكنتَ في المرحلة الثالث متوسط.. كان أخي ذاته في السابع والعشرين سنة.. قد اصطحبني بعد أن خرجتُ من المدرسة إلى البيت وقت الظهيرة.. كنتَ جالساً على عتبة بيتكم صدفة. لمحتُك، ولاشك لمحتني، رأيتُ طرفك يسترق النظرات إلي.. شعرتُ بالتقاء وجوهنا برهة رغماً عن الحاجز الأسود الثخين الفضفاض الذي كنتُ أرتديه.

استرقتْ وجوهنا وعيوننا النظرة مرة أخرى وتكلمت من غير صوت.. كان الصوت موؤداً فينا.. كان للخوف في قلبي المضطرب نصيب وافر.. تكهنتُ شيئاً!.. ولا شك قد حصل!.

أخي له صورة سيئة في تعامله معك منذ تلك اللحظة، وخاصة مع معطيات هذا الزقاق العتيقة!

جالساً بعد الاستراق، تخبئ ساقاك وجهك.. وما أن اقتربنا منك، ولم تتحرك.. حتى جاءت ركلة مفاجئة من قدم أخي الحافية المكتنـزة غبار السنين البائسة، في خاصرتي.. أقصد في خاصرتك، يصحبها صوتاً أجش:

· يا حمـ.. ياكـ.. ، أنت تتعمد الجلوس هنا.

أهالني الفعل كما قد أهالك.. صرخنا سوياً بقوة.. ابتعدتُ أنا أراقب الحدث بخوف..

قمتَ شاكياً صارخاً: (آي..). وأتصور بأن القهر يغلي في أحشائك، يأكلها..

استجمعت كل قواك لتقتص من أخي.. نظرتَ إليه شزراً.. كوّنتَ قبضتك كهراوة.. بدأتَ تزفر كثورٍ غاضبٍ لُـوّحَتْ أمامه قطعة قماش حمراء.. مستعداً للهجوم عليه.. رفعت يدك عالياً.. عالياً.. عالياً.. حينئذ أنا شعرتُ بسعادة ما.. شعرتُ بأن ظنوني قد لا يكون لها أثراً.. بل شعرتُ بأنك ستكون نظيراً لأبن الحاج صادق (طاهر) الذي أمسى منذ صغره وحتى كبر غريماً ونداً لأخي، سليطاً عليه بحكمة، حتى لم تجد الأنفاس العفنة طريقاً إليه أو تعبر بجانبه دون أن تأخذ نصيبها منه.. لكنك ياسامي بعد أن رفعت قبضتك كما ينبغي.. زفرت بقوة.. فأعدت القبضةَ إلى جانبك!!.. وفقط، تنهدت باحتراق، ثم ولجت في بيتكم بكامل جسدك أسوأ من نعامة.

لا أظنك يا سامي قد نسيت كل هذا.. بل لن تنساه أبداً..

والمهم الآن أن تفهمني!!

سامي.. لقد تقدم لخطبتي السياسي الأستاذ/ طاهر بن الحاج صادق بالأمس، وأظنني سأوافق عليه.

تصحبك رعاية الله..

( التوقيع/ فلانة).

بدأت تفْترس ثنايا الرسالة في يديْ سامي كافتراس جسده ونفسه.. تمتم بحرقة:

· نعم أتذكر كل هذا يادكتوره.. وفهمت مقصدك، ومعك الحق برفضي.. وأضيف إلى معلوماتك أن كلّ أمرٍ أصبح عبئاً عليّ حتى أدائي في الوظيفة البسيطة.. ولن أذكر لك المسبب الرئيس الآن، لأنه لن يغير من الأمر شيئاً!!.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى