الأحد ٣٠ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٥
بقلم ليلى بورصاص

معنى آخر للحياة

كان يوما من أيام شهر يناير الباردة جدا، غشيت المنازل المتلاصقة في الخارج غلالة هابطة من الغيم ،استيقظت بحذر إشفاقا من إيقاظهما.

تساءلت؟هل ستجد خبزا اليوم تطعمه لهما،أم ستفعل ما اعتادت فعله دائما ،نهضت بنشاط زائد لا ينا سب هزالها ،رغم صغر سنها إلا أنها تبدو اكبر بكثير ،ارتدت ما تملك من ملابس بالية،اتقاءا لبرد عرف بشدته في تلك المنطقة،خرجت بعد أن ألقت عليهما نظرة ضمنتها كل حبها و حنانها،اوصدت عليهما باب البيت – أو الأحرى بقايا البيت التي صمدت أمام جرارات اليهود – أوصدته لتحميهما من أي دخيل ،غادرت لا تلوي على شيء ولا تدري إلى أين ، اكتسحتها رعشة برد وخوف.
من بطن المعاناة والحنين إلى ماض قريب ،تفتق آه عميق…إنها تذكره وتكاد تحسه :يسر الحال الذي كانت تعيشه مع أبي عمر- رحمه الله - كان يتكفل بها وبطفليها عمرو سناء ، يسعى بجهد و عناء صحيح لكنه وقاها شر الحاجة فترة من الزمن .

لم يسمح المغتصبون الغادرون أن تستمر حياتها الرتيبة، امتدت أياديهم المخضبة بدماء الأبرياء إلى أبي عمر واغتالته ، باتت وحيدة مع طفليها مغتالة الزوج والأحلام ،عليها أن تكون منذ الآن الاثنين معا الأب والأم.

هرعت إلى مخزن اعتادت أن تذهب إليه من فينة لأخرى لتأخذ منه خبز الفقراء وما أكثرهم … وقفت عند الباب المغلق تنتظر أن يفتح، لكنها سمعت أصواتا بالداخل
إن المكان ليس خاليا كما اعتقدت، نظرت من الشق فرات الناس مجتمعين إنها تعرف معظمهم،إنهم الكثرة التي تلتقيها عندما تحضر لطلب الخبز ،من هذا الذي يتكلم ؟نظرت جيدا إنها لا تعرفه …انه ليس واحدا بل هم خمسة شبان يافعين، ماذا يفعلون ؟ ماذا يقولون ؟ و فجأة فتح الباب وطلب منها الفاتح أن تدخل وتسمع ما يقال.

دخلت وهي وجلة خجلة من نظرات من التفتوا إليها …أنقذها الخطيب بقوله:
 انتبهوا من فضلكم. فعادوا ينظرون إليه.
 يجب أن نستفيق من نومنا الثقيل، يجب أن نسير في طريق الحياة، إن معظمنا يجاهد لكن جهادنا في سبيل المعيشة هو ما يستنفد كل قوانا، إن معظمكم إن لم نقل كلكم ينحصر تفكيره في تامين كسرة خبز تسد رمق أطفاله!

أحست انه يوجه الكلام لها، فخفضت رأسها حياءا و كأن كل من في القاعة يشيرون إليها ويقولون هذه هي التي تريد الخبز من اجل أطفالها، ولكنها حركت كتفيها بلا مبالاة وقالت في نفسها:انه ليس عيبا أن نفكر في تامين الخبز لؤلئك القابعين خلف الجدران ينتظرون أن تدخل عليهم وفي يدها قطعة خبز طازجة،فقد ملت استعمال الحيلة معهما ،إنها تكثر الملح والفلفل حتى يكثرا بدورهما من شرب الماء فيشبعا بسرعة ،إن الخبز عندها وعند طفليها بل عند الكثيرين من أبناء ذلك الشعب الذي كابد شقاءا وبؤسا كبيرين يعني عندهم الحياة.

يجب أن يكون للإنسان هدف أسمى من ذلك ، فالنفكر في مصير أبنائنا بعد عشرة أو عشرين سنة ،هل يود أحدكم أن يظل أبناؤه عبيد للصهاينة الأوغاد هل يحرمون من الصلاة في المسجد الأقصى إلى الأبد،هل تموت أحلامهم وآمالهم تحت الجدار العنصري الكريه...ماذا تتمنون؟...لا تدر متى بدأت تنصت إليه وتفكر في كلامه...ماذا تتمنى ؟ إن أمانيها تتغير وتتبدل وتتناقص أيضا، رجعت بأفكارها إلى زمن مضى كانت أمانيها فيه شيئا تراه الآن غريبا:كانت تنحصر في جمع الأزهار واقتناء الثياب وحضور الأعراس؛ ثم تغيرت هذه الأماني واجتمعت في أمنية واحدة وهي أن يتم زواجها مع من تحب،ولأنه كان مشاغبا في نظر الصهاينة وبطلا في نظرها هي فقد طال عذابها في انتظار الإفراج عنه... وبعد فترة أصبحت أما وصار كل همها الحفاظ على أسرتها...ثم اجتاحت حياتها عاصفة اقتلعت كل شيء جميل فيها تاركة إياها جرداء من أي آمال او أحلام...هي تحس الآن أنها أصبحت مجرد آلة باحثة عن الخبز لسد رمق أطفالها و لحمياتهم فقط...تساءلت ! متى انحدرت إلى هذه الدرجة من اللاوعي؟ متى حكمت على أحلامها المضيئة وآمالها الوردية بالسجن المؤبد ؟ لقد نسيت متى أصدرت هذا الحكم القاسي على نفسها، لكنها تذكرت أنها سيقت إلى هذا المصير مجبرة مثلها مثل الكثيرات ممن سلب اليهود حتى ابتساماتهن... هي تفكر الآن أن ابنيها اللذان هما جزء منها يجب أن يعيشا وان لا يشعرا بأية حاجة، أنهما الجزء المهم منها الذي يجب أن يحيا أما هي فهي الجزء غير المهم الذي يسعى لإنجاز هذه المهمة.

عاد صوت الخطيب الشاب ينتشلها من أفكارها البعيدة جدا ،لقد فوتت الكثير مما قاله: لقد سعى من قبلنا لسد رمق أطفالهم...أطفالهم الذين تمتلأ بهم سجون اليهود اليوم، لو فكروا في مصيرهم لكان خيرا لهم من أن يسدوا رمقهم ثم يسجنوا الآن، معظمهم اعتقل ومازال في السجن دون محاكمة !

وانتم تعلمون لماذا: لأنهم قالوا القدس لنا ...كلنا تنبض فيه هذه الكلمة نبض الدم في الشرايين، كلنا تصبو نفوسنا إليها لكننا نراها سرابا يتلاشى يوما بعد يوم .إذا كان هدفكم العيش فحسب فخذوا نصيبكم من الخبز واخفضوا رؤوسكم و امضوا إلى حيث تستمرون في معيشة الذل والهوان. توقف قليلا ليرى وقع كلامه عليهم...ساد صمت ثقيل المكان ، ابتسم الشاب وقال في نفسه:إن أضرى المعارك وأقواها تنشب على حدود الصمت ، فليمضي في زرع بذور الكفاح مادام فكرهم خصب الآن ، لقد تشبع بأفكار التحدي وطاقت نفوسهم إلى ما هو أسمى من طلب الخبز،إن كلامه ينفذ إلى قلوبهم وعقولهم ممثل السهام ، إنها كبداية شيء جيد ، فليستمر... لم يكن سكوتها بدافع التأثر بالأفكار، والتفكير بما هو أسمى في نظر الخطيب، لقد قررت بلى أدنى ارتياح أن تسكت كانت تفكر أن أسمى شيء في الوجود هو تحقيق ابتسامة شبع لطفليها، سكتت فقط لان الجميع سكتوا، يا ليت يتقدم احدهم ليأخذ الخبز، عندئذ تلحقه و تأخذ هي أيضا، خجل فظيع يمنعها من أن تكون البادئة، هي أيضا تحب فلسطين وتصبوا نفسها للحرية وللقدس، ولكن عندما يكون البطن جائعا فلا مجال للتفكير السوي. هكذا كانت تقول لنفسها، كانت تبحث عن حجج وأسباب تبرر بها تفكيرها المشتت بين خبز رديء مصفوف على صناديق، وأطفال ينتظرونها مفتوحي الأفواه، ووطن لا تعرف منه سوى أطلال بيت وطريق متعرج إلى مخزن قديم.

من هنا وهناك تنطلق كلمة تأييد لرأي الخطيب؛ الوقت يمر، قلبها يكاد ينفطر خوفا وقلقا على طفليها، يا الله... متى ينتهي كل هذا، وكادت أن تصرخ: اتركوني وشاني، مالي أنا وما تسعون إليه؟! طفلاي صغيران ينتظراني... لكنها لم تفعل، نفس الخجل منعها...وبينما هم كذلك، إذ بنعال الأوغاد تضرب باب المخزن المهترئ، فترديه أرضا. ويدخل الصهاينة إلى الداخل يتقدمهم قائدهم الذي صرخ:- اقبضوا على كل من في القاعة ... تراءى لها الضياء ظلاما ، اقتادها الشرطي إلى الشاحنة الواقفة أمام باب المخزن ، مسلوبة الإرادة والإحساس ، كأنها دمية ، في الخارج تجمهر الناس ورجال البوليس الصهيوني، لكنها لم تر أحدا رغم الزحام ولم تسمع شيئا رغم الضوضاء ، وكان العالم قد خلا من البشر،وضعها الشرطي في زاوية الشاحنة ؛ وفجأة تذكرت طفلاها فاغرورقت عيناها بالدموع ، وضعت راحتيها على وجهها تريد أن تهرب من هذا العالم الظالم :-يا ربي ،ما الذي جعلني احضر اليوم إلى هذا المكان؟ لماذا لم أبقى مع طفلاي؟ ماذا يفعلان الآن؟ لابد أنهما استيقظا ولم يجدانها؟هل هما يبكيان؟ هل هما جائعان ؟ وماذا لو خرجا إلى الشارع؟ من هذا الجانب هي مطمئنة لقد أحكمت إغلاق الباب... لابد أنهما لا يزالان نائمين... لكن الوقت تأخر... يا رب من ينتشلها من حيرتها...لماذا لم اخرج عندما وجدت الناس مجتمعين ... لماذا لم اهرب... لماذا بقيت... طفلاي...طفلاي ...لم تستفق إلا والشرطي الصهيوني ينهرها ويجرها إلى مركز البوليس.

وقفت في الطابور إلى حين يأتي دورها في التحقيق، تتابعت في مخيلتها صورتا طفليها، بكت بحرقة افقدتها صوابها وبلغ بها الضيق حد الغضب فراحت تضرب الجدار الخشن بكفيها بسخط إضافي، رآها الشرطي الصهيوني تفعل ذلك، فصرخ عليها: - توقفي يا مجنونة؟! وقام من مكانه يقصدها والشرر يتطاير من عينيه، والغضب باد في حركاته؛ تقدم منها فتوقفت عن ذلك التصرف ووقفت مرتبكة، قال لها متهكما: -هل جننت؟اصبري قليلا، لا تتسرعي، لم يقرر مصيرك بعد! أم انك مستعجلة لتسجني؟ تمنت لو تصفعه، لو تنشب أظافرها في وجهه، انه يبستم وهذا ما يؤجج النار في صدرها، انه يبتسم، أنى له القدرة على الابتسام وهي تتألم؟ إنها تشعر من جراء ذلك بنقمة لا تطاق، أحست أن كل ذلك أنحبس في حلقها، فشعرت بحرقة شديدة، وأنها فعلا مظلومة وسيئة الحظ.

عندما ذهب الوغد، اقترب منها احد الموقوفين، وبادرها بحرارة: تشجعي سينتهي كل هذا، ليس لديهم أي دليل أن اجتماعنا كان لأمر مريب، كما إن أسماءنا لا توجد في لوائح المطلوبين لديهم، سيسفر التحقيق عن لاشيء ونعود إلى ديارنا فلا تقلقي ثقي بنا...
رفعت عينيها إليه والدموع تبللهما، أرادت أن تقول له:انتم سبب ما أنا فيه، انتم المسئولون الوحيدين عما يعانيه طفلاي الآن من الوحدة والجوع... لكنها لم تستطع قول ذلك، فاومات له إيجابا بأنها تثق بهم.

لا تدر كم من الوقت مر... لكنها أدركت أن دورها في التحقيق قد أزف عندما ناداها المساعد لكي تستعد للدخول عند الضابط.

شعرت بفرحة بدل أن تشعر بخوف أو رعب، تلاشت المخاوف والحذر، بدا لها أن الصراع النفسي الذي تعيشه يمضي نحو مستقر، لاح لها الأمان من بعيد ، لم يهمها ما هي مقدمة عليه ، المهم عندها أن ينتهي كل شيء لتعود إلى حيث معلق قلبها. انطلقت نحو باب العذاب والراحة في آن، دخلت فوجدت رجلين احدهما يجلس إلى آلة راقنة والآخر يجل إلى مكتب وفي يده سكين شفاف مخصص لفتح الاظرفة، أشار إليها بواسطته ان تجل فجلست، التفت إلى الكاتب وقال له: ابدأ! ثم موجها كلامه لها: اسمك؟ فأجابت في حياء:حليمة الخطابي .

  سنك؟
 سبعة وثلاثين سنة، فرمقها بنظرة اندهاش إنها تبدو عجوزا من الغابرين بوجه مدبوغ وعينان زائغتان، وفهمت مغزى نظرته ،فقالت له : انه البؤس والفقر يا سيدي ،انه الشقاء الذي يجعلنا نبدو اكبر من سننا بكثير . بدرت منه حركة عفوية تنم عن تأثر، لكنه استمر في التحقيق:
 ماذا تعرفين عن فؤاد العلي، وجلال العلي، وحمزة عمران، وخالد بركات، ومحمد حسن ؟
كادت أن تصعق فقالت متسائلة من هؤلاء؟ أجابها الضابط بهدوء: أنا من يسال هنا، وأنت من يجيب؟ - لكني لم اسمع بهذه الأسماء من قبل، صدقني. – إذا ماذا كنت تفعلين معهم، ماذا كنتم تحضرون؟ - ماذا نحضر، لكني لا افهم شيئا ؟؟ - ماذا كنت تفعلين في المخزن معهم ؟ - لم أكن افعل شيئا ، ذهبت لأحضر الخبز الذي ...
وقاطعها:
  أي خبز في مستودع قديم، أتهزئين مني؟
فجلست على ركبتيها باكية قائلة: لا يا سيدي ، ولكن من حين إلى حين يوزع فيه الخبز للفقراء، فذهبت لعلي احصل على بعض الخبز لطفليّ ... وانفجرت بالبكاء بصوت عال، فتأثر الضابط لحالها وقال: كفى...سأتاكد من الأمر وإذا كان فعلا يوزع فيه الخبز من فينة لأخرى كما تقولين،سأطلق سراحك لأني اعلم أنهم أرادوا استغلال أمثالك لتحقيق أهدافهم الارهابية.
أحست بوخزة في قلبها من هذه الكلمة، إنها تكره أن يوصف الفدائيون الفلسطينيون بالإرهابيين، لكن ليس في وسعها ولا في صالحها أن تقول ذلك ، فسكتت على مضض ، ومع ذلك فقد بدا الق يشع من ثناياها ، انه نوع من الفرح

بفرج قريب، وفي تلك اللحظة رن الهاتف فاجاب الضابط وتكلم بالعبرية، وعندما أنهى كلامه قال لها : أمامنا مهمة مستعجلة سأشرف عليها ، وعندما أعود سأعطيك حريتك ؛فحركت رأسها إيجابا وقد ارتسمت على شفتيها ابتسامة باهتة لأول مرة ذلك اليوم . خرج الضابط وتبعه آخرون، وظلت هي تنتظر، كم تتمنى أن يمضي الوقت بسرعة ، عندما رفعت رأسها إلى ساعة معلقة على الحائط كانت الساعة تشير إلى تمام الثامنة مساءا، إنها تحس انه لا يتحرك ، وازداد اضطرابها ، فرفعت رأسها مرة أخرى لم تمض سوى دقيقتان ... يا الهي! أرخت جسدها المنهك على الكرسي الخشبي ، وراحت تحلم أنها خرجت وذهبت إلى طفليها ، ووعدتهما أن لا تتركهما أبدا لوحدهما؛ متى يعود الضابط من مهمته ؟ متى يجود القد ر بالراحة، متى تنتهي هذه المهمة التي عطلت الإفراج عنها، يا ليتها تنتهي بسرعة فائقة...أسلمها التعب إلى غفوة رأت فيها طفليها يلعبان بالأزهار على ربوة خضراء والشمس باسطة نورها عليهما، وابتساماتهما تملأ المكان فرحا وبهجة، وفجأة اظلم المكان، وأصبح الطفلان يناديانها وهي لا تستطيع الحراك، وكأنها تزن الأطنان، وفتح الباب فاستفاقت مرتعبة قائلة : اللهم اجعله خيرا، التفت إلى القادم فوجدته الضابط قد أنهى مهمته وعاد .

قال لها: الآن أستطيع أن أقول لك انه بإمكانك الخروج والذهاب إلى أطفالك؛ لاحظت انه مغطى بالغبار. فقالت له: هل أنت بخير يا سيدي هل وقعت ؟ فرد عليها ضاحكا: كلا، كنت في مهمة تهديم بعض الأماكن المهجورة... أنت حرة فانطلقي.

لم تعرف كيف تشكره، شكرته كثيرا، ثم خرجت راكضة وكانها تخشى أن يغير رأيه، خرجت وهي لا تصدق أن كل شيء انتهى . كان الليل قد أرخى ستائره على الكون عندما خرجت؛ اتجهت من فورها إلى بيتها وهي تتساءل كيف ستجد طفليها ، كيف سيستقبلانها ، كيف ستعتذر منهما وتعدهما بان لا تعيد الكرة مرة أخرى ؛ وما إن وصلت إلى الحي الذي تسكنه حتى هالها ما رأت : غبار يغطي عنان السماء ، والناس مجتمعون ، هناك بعض النسوة جالسات يبكين , والرجال كاظمون يدعون الله ، وأطفال يصرخون خوفا و جوعا وبردا ؟ لم يكن هنالك منزل واحد قائم، كل الحي أصبح ركاما، تقدمت من إحدى النسوة وسألتها: ماذا حدث يا أم عمار؟ فرفعت المرأة إليها وجها حزينا مدبوغا وقالت: لقد هدم اليهود بيوتنا بجرار اتهم الكريهة، لم يبق منزل واحد في الحي.

رددت قولها في باطنها ببطء وهي تغوص فيه بحذر وإشفاق، أحست أن احدهم اقتلع قلبها أو كبدها، أحست أن أطرافها تجمدت بينما ينفث قلبها نارا كاللهب، ولكنها سالت المرأة متمنية قشة نجاة مما لا تستطيع التفكير فيه : وبيتي يا أم عمار ؟ فأجابتها: حتى بيتك هدم مع البيوت الأخرى.

وقع عليها الخبر وقوع الصاعقة، أطلقت صرخة منكرة، وركضت كمن أصابه مس إلى حيث كان منزلها وراحت تنبش الأرض بأظافرها محاولة حفر الأنقاض فالتف بها الناس يحاولون منعها وهي تصرخ: طفلاي، طفلاي، لقد أغلقت عليهما الباب، كانا نائمين، وذهبت وتركتهما، لماذا لم ابق معهما ؟لماذا لم أمت معهما ؟ أنا قتلتهما ، أنا قتلتهما...وأصبحت تهذي وتحط التراب على رأسها كانت صدمة شديدة، داهمتها بعنفها وقسوتها ولا مبالاتها، تفشى الأسى كما تفشى اليأس من نجاتهما، انتابتها انفعالات جياشة حزن وغضب ومقت وكره ونقمة، انفعالات لو صبت على جبل لتفتت، وفي غمرة الانفعالات تذكرت الضابط، لقد تركها وخرج للقيام بمهمة تهديم، انه هو من هدم حياتها عن آخرها : وأنا كنت أدعو له بالتوفيق ، كنت أتمنى أن ينتهي من قتل طفلاي بسرعة ويعود، كنت أتسرع حتفهما، وشعرت بالسعادة عندما عاد من قتلهما ، وشكرته... يا الهي ساعدني. وفجأة خطر لها خاطر وقفت واتجهت إلى حيث مركز البوليس الصهيوني الكريه، رأته هناك يستعد لركوب سيارته، فصرخت من بعيد: يا قاتل..يا مجرم... وهرولت نحوه رافعة يدها إلى أعلى، انطلقت في إثرها رصاصة احد الحراس أردتها قتيلة واستشهدت رحمها الله. تقدم منها الضابط وقال لمرافقه: انظر نكران الجميل، أخرجتها منذ قليل من السجن فأجابه مرافقه: كلهم مثل بعضهم لا تثق فيهم مرة أخرى.... وماتت المسكينة وانتهت بذلك حياتها المليئة بالمآسي؛ في مكان آخر ولد أمل جديد سمع صوت بكاء من تحت أنقاض بيت أم عمر، فتعاون السكان على إخراجه كان عمر لا يزال حيا ، سيكبر ويعرف من اغتال أمه ووالده وأخته ، وسينتقم لهم جميعا .

ليلى بورصاص ـ الجزائر

سيرة ذاتية

 تاريخ الميلاد: 02-02-1977 بولاية قالمة الجزائر
 المستوى الدراسي: ليسانس حقوق ومحامية مع وقف التنفيذ
 الشهادات المحصل عليها : بكالوريا دورة 1996 ودورة 1997 ،شهادة في الاعلام الالي دورة خاصة

  المشاركات الادبية: شاركت في عدة ملتقيات وتجمعات ادبية محلية اي جزائرية ، كما شاركت في ملتقيين عربيين في الجماهيرية الليبية حيث حصلت قصتها القصيرة (ولم يات الربيع) على الترتيب الاول والتي تتطرق فيها للصراع العربي


مشاركة منتدى

  • بعد قراءتي لـ"معنى آخر للحياة"، رجعت للورى لأتذكر نقاشات عامة و أكاديمية حول قضية يبدوا أنها حسمت أو هي في طريقها للحسم و هي جدلية "الكتابة الأدبية" مقابل "الكتابة الصحافية" أو "الإعلامية"

    تعد الكتابة بأنواعها من أساليب "التأثير"و "التطوير"و"التحسين"و"التغيير"لعدد من المستويات: 1)صناع القرار، 2) الرأي العام 3) صاحب الشأن الإقتصادي أو السياسي أو الثقافي أو غيرها. هذه قاعدة تعمل في كافة المجتمعات و تصدق في كافة شئون الحياة، لكنها تتهشم على صخرة النفوذ الإسرائيلي و القوة الأمريكية الطاغية خاصة في حق تقريرالمصير للشعب الفلسطيني في دولته المستقلة و ذات سيادة، محورها و عاصمتها القدس و عودة جميع اللاجئين الفلسطينيين.

    كنت أعتقد أن الكتابة في القضية الفلسطينية و عنها بمواجهة صخرة النفوذ الإسرائيلي و الهيمنة الأمريكي الرأسية و الأفقية في العالم، هي من باب التنفيس و إجترار المعاناة و النواح و ندب الحظ و اللطم على الخد و اللعن، أو من باب متعة الكتابة، و ليس من باب التأثير في صانع القرار أو الرأي العام سواء للجلاد أو للضحية و تغييره أو تعزيزه.

    و قد تملكتني هذه القناعة منذ فرغت من دراسة الماجستير في الإعلام من جامعة آيوا الرسمية في الولايات المتحدة الأمريكية،حيث كانت أطروحة الماجستير عن القضية الفلسطينية في الإعلام الأمريكي، إضافة إلى القناعة بأن هذا النفوذ الإسرائيلي مستمد من ضعف العرب و إضعافهم المبرمج و الممنهج ذاتياً. هذا الضعف و الإضعاف يبدأ بسوء التخطيط أو إنعدامه في الوطن العربي، و في غياب الديموقراطية العربية أو تغييبها، و غياب أو تغييب حقوق الإنسان في الوطن العربي و منها حقوق المرأة و حقوق الطفل و حقوق الأقليات الدينية أو العشائرية أو الثقافية و قمع الحريات، و غياب المشاركة الشعبية في الدولة العربية أو تغييبها، و سوء الإدارة العربية و فسادها. فمن أين -إذاً- يبدأ من يكتب للقضية الفلسطينبة أو عنها و هو محاط بشبكة عنكبوتية من البدايات التي تفضي لكل هذه المشكلات؟

    ثمة سبب آخرلتلك القناعة يكمن في أن حل القضية الفلسطينية سيؤدي إلى حل كل القضايا العربية الجوهرية. فيقيني أن لولا وجود القضية الفلسطينية، و إنشغال الحكومات و الشعوب العربية بها منذ بدايات إستقلال الدول العربية، لولا هذا الإنشغال، لكانت هناك دولة عربية واحدة،أو إتحاد عربي سياسي أو تكتل عربي إقتصادي قوي الجسم و العقل و الوجدان و لديه المناعة الكافية لمقاومة الأجسام الغريبة و الخبيثة مثل الورم الصهيوني الخبيث في جسم و عقل و وجدان الوطن العربي.

    فوق هذا و ذاك،أتساءل دائما ماالذي يستطيع الكاتب أن يقول عن القضية الفلسطينية أكثر مما قالته و تقوله كاميرات التلفزة على مدار الساعة؟ هل شاهدتم دراما أطول و أكثر أثرا في نفوس المشاهدين من المسلسل التراجيدي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي من خلال كل التلفزات الإخبارية؟ إنه أطول مسلسل تلفزيوني تراجيدي في العالم، عرضه لا يزال مستمراً. إنتاجه غير مكلف، فأبطاله لا يتقاضون أجراً و لا يحتاجون إلى ماكياج و لا يحتاج إلى تأسيس موقع للتصوير، فكل فلسطين موقع لتصوير حلقات هذا المسلسل. صراع الخير ضد الشر من خلال خط درامي أساسي و خطوط درامية فرعية، الشر هو الأقوى عسكريا و سياسيا و الخير يقاود الشر بأظافره و لا يملك سوى تعاطف الشعوب المغلوبة و المقهورة و حجارة الأرض التي يتشبث بها. مسلسل تراجيدي لا يتخلله مشهد كوميدي، غنائي أو مقطع موسيقي، أحداثه بالذخيرة الحية، و الضرب فيه تحت الحزام.
    هنا نتساءل: ماذ يمكن للكتابة أن تتفوق به على الصورة؟ و هل يمكن أن يكون الكلام أبلغ من الصورة؟

    ماسبق كله مقدمة منطقية لما سيأتي. إن من يقرأ قصة "معنى آخر للحياة"، سيعرف أن قلم ليلى بورصاص هو الكاميرا لما لا كاميرا فيه،لأن كاميرات التصوير التقطت صور تهديم البيوت و إطلاق النار على أصحاب الأرض الأصليين و تجريف الأراضي و تدمير الأشجار و قصف البنية التحيتية المحدودة في الأساس، لكن تلك الكاميرات توقفت عند ذلك، و لا تستطيع أن تصور ما في نفس إمرأة فقدت ثلاثة من أولادها و لا شيخ أسقط منزله الذي بناه منذ صغره في لحظة بدون مأوى أو معيل و في عمر لا يستطيع معه حتى تناول الأدوية. هنا يأـي دور القصة القصير و ليلى بورصاص في قصة "معنى آخر للحياة " من خلال منلوج يدخل إلى المشاعر و الأحاسيس و الذكريات المريرة. هذا القلم الذي إلتقط الدمعة الفلسطينة قبل نزولها على الخد الفلسطيني، ورصد "المر" و "القهر" و "الظلم" الذي يشربه الفلسطينيون مع حليب أمهاتهم. هذا القلم إستطاع أن يرصد بؤس طفل يقف بالعراء بلا معيل و لا مأوى، و تلك المرأة التي فقدت طفلها حديث الفطام. هذا القلم إستطاع أن يرصد ما لا تراه العين المجردة. إن عدسات الكاميرا التي تستخدمها ليلى بورصاص من الدقة بحيث تلتقط صورا لا تلتقطها الأقمار الصناعية و لا يستخدمها الجراحون. في قضية كالقضية الفلسطينية، يفوق الدمار النفسي كل دمار مادي أو عيني. فالنفس البشرية أعمق بكثير من الصورة الخارجية. و أهم خاصية للقصة القصيرة هنا، أنها تصور القيم و لا تصور الملموس، فقد نجحت ليلى في تصوير قيم المقاومة لدى الفلسطينيين، و قيم الوطنية، و القيم الإنسانية لديهم رغم الظروف الإستثنائية التي يعيشونها و إستطاعت نقل همومهم و تفكيرهم و ضميرهم، بأسلوب سهل و جذاب للقاريء و بجمل ذات إيقاع شعري مؤثر.

    أخيراً، إنها المعادلة الثلاثية الصعبة: المدرسة الفلسطينية في النضال و مقاومة الإحتلال، و أدب القصة القصيرة، و "كاميرا" ليلى بورصاص السيكلوجية.

    صادق الود و التقدير

    عبداللطيف الضويحي
    dwaihi@agfund.org

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى