السبت ٢٣ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٠
بقلم زهير الخراز

مواء وتغاريد

يحتضن القفص بين يديه.. يتأمل طائره مليا.. يصفر له.. يغني له.. يلقي على مسامعه أشعارا.. ثم يرقص له.
العصفور الصغير ينزوي في ركنه الصغير..يطل من وراء القضبان.. يتأمل شاعره في شرود، ويلزم صمته كالمعتاد!

قال الشاعر:

عصفوري الصغير لم يعد يغرد.. لم يعد يرقص.. لم يعد صالحا لأي شيء!
وتومض فكرة صغيرة في ذهن شاعرنا الكبير وهو يتأمل عصفوره الصغير.. تتعلق الفكرة رويدا.. رويدا.. تصبح الفكرة مشروعا.. يحتل المشروع الكبير عقل شاعرنا الصغير.. تزاحم أحلامه.. تزاحم رؤاه.. تزاحم أشعاره.. فيهمس لطائره فرحا» أبشر!.. سأقوم بعمل لم يجرؤ عليه إنسان من قبل!!! سوف أعيد لك حريتك! … «ويعد العدة، وبعد أن يؤجل عمله لسبعة أيام متتالية، يصر على تنفيذ مخططه في اليوم الثامن، فينهض مبكرا، يختطف قفصه ويطير به إلى أعلى بقعة في سطح المنزل. وعند بزوغ أول شعيعات الشمس، يفتح باب القفص على مصراعيه، ثم ينكمش في زاوية بعيدة، منتظرا.. متبسما وهامسا:
هيا اذهب.. هيا ارحل!

لكن طائرنا الصغير لزم مكانه ولم يحرك ساكنا.. ينهض شاعرنا.. ينقر بأصابعه أسلاك القفص عدة نقرات يلتفت العصفور يمنة.. يلتفت يسرة.. ينتفخ.. ينفض ريشه.. يقفز إلى أرضية القفص.. ينقرها ثلاث نقرات.. يطل برأسه من باب القفص.. يصفر صفيرا حادا، ثم يتراجع وينزوي في ركنه من جديد.

يستغرب شاعرنا كثيرا.. يعيد الكرة ثانية، ينقر بأصابعه العشرة على قضبان القفص نقرات كثيرة وخشنة، ويهمس لعصفوره حانقا:

اذهب.. ارحل.. أغرب عن وجهي …

يلتفت الطائر يمنة.. يلتفت يسرة.. ينتفخ ريشه.. ينتفض.. يحك جناحيه.. يرقص على أرضية القفص، يطل برأسه الصغير من بوابة القفص.. يطلق صفيرا حادا وغريبا ثم يتراجع وينكمش في زاويته من جديد. كان ثمة شيء غامض وغريب يتربص بالعصفور من بعيد.. كان ثمة دافع مرير يتوجه الفشل، يغلي في صدر شاعرنا، فيصيح غاضبا:
أبدا لن يسخر مني عصفور بليد.. أبدا لن يبوء مشروعي النبيل بالفشل!

فتتحرك أصابعه المرتعشة.. تندس داخل القفص.. يقفز العصفور إلى اليمين.. يقفز إلى اليسار.. يتشبث بسقف القفص.. يتشبث بأرضية القفص.. يقاوم بمنقاره الصغير.. يقاوم بمخالبه النحيفة.. يثير زوبعة كبيرة داخل القفص.. يتناثر الغبار.. يتناثر الريش.. يطلق صفيرا غريبا.. وحينما تتمكن منه الأصابع العنيدة تقذف به بعيدا في الفضاء:
تذكر هذا جيدا.. فبفضلي صرت حرا!

كان عصفورا ضعيفا.. وقد أصبح في معتقله خاملا بطيئا.. لدى لم يحلق في الفضاء سوى ثوان معدودة ليسقط بين فكي قط نصفه أبيض ونصفه أسود، كان يتربص به منذ زمن طويل وهو في الحساب القططي يقدر بخمسين سنة ونيف وبضع شهور و … ساعات! » أبدا لن يبوء مشروعي النبيل بالفشل! « صرخ شاعرنا بجنون وهو يقف مشدوها.. وبدأ في مص إبهامه بإسراف شديد.. وضحك منه القط طويلا ولما تمل غلبه النعاس، فنام.

لم يتباطأ شاعرنا في الثأر من القط الشرس ولو بفردة حذائه الناعم، لكن ما أن تبرق أنياب القط وتبرز مخالبه، حتى أعلن شاعرنا هدنة مؤقتة، وفكر في استخدام سلاح خاص جدا، فكان الهجاء، وجادت عليه قريحته بأزيد من خمسمائة قصيدة كلها قدح وتحقير وإهانة للقط ومدح مفرط للذات، وألقاها على مسامع القط في خمسين يوم وخمسين ليلة وكان القط يضحك تارة.. ويكشر عن أنيابه ومخالبه تارة ويغط في نومه تارة أخرى. ولما يئس من النيل منه، جمع مسودات قصائده برمتها فأودعها قفصه و أودع القفص في مستودع للنفايات.

وفكر:

يلزمني سلاح جديد !


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى