الثلاثاء ٢٢ شباط (فبراير) ٢٠١١
بقلم إبراهيم سعد الدين

مُطالعاتٌ في سِفْر الثَّورة المِصْريَّة

بُرْكانُ الغَضَبْ.. ومُحاولاتُ الالتفافْ

في إحدى رواياته يصف نجيب محفوظ الشعب المصري على لسان إحدى الشخصيات بقوله: شعبنا مثل الوحش الأسطوري ينام دَهْراً ثُمّ ينتفضُ فَجْأة مثل طوفانٍ هادر. لا أدري قَدْرَ ما في هذه المقولة من الواقع والخيال، لكنّ ثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون ثانٍ كانت انتفاضةً مُفاجئة أذهلت الجميع ـ حُكّاماً ومحكومين ـ ليس فقط بعنفوانها بل أيضاً بتوقيتها الذي لم يكن في حُسبان أحد. فوجئ النظام الحاكم الذي كان قد استنام واطمأنَّ إلى أن الشباب الذي أغرقوه بالمُخَدّرات والإعلام المَسْمومِ ومناهج التعليمِ التي غاب عنها الوطن والأرض والهويّة، قد تَشَوَّه وَعْيُه ولانَتْ إرادته وتوزعت اهتماماته بين المقاهي والنّواصي والشّات والتّعصب الكرويّ وتفاهات المُسلسلات اليومية والأغاني الهابطة والعُرْي القبيح وبذاءات السينما والفيديو كليب، فإذا بهم يُواجهون يوم الخامس والعشرين بشبابٍ مُتُفَجّرٍ بالوَعْي والحيَويّة وحُبّ الوطن، مُهيّأ للاسْتشْهاد في سبيل حرّيّته وكرامته وحُريّة الوطن وعزّته واستقلاله.

والشَّعب الذي كان في مُخَيّلة النظام الحاكم مُجَرَّد أشْلاء شَعْبٍ جوّعوه وحكموه بالحديد والنّار وأرعبوه بفزاعات الإرهاب والفتن الطّائفيّة وأغرقوه بطوفانٍ من الفسادِ وأبوابِ الكَسْبِ غير المَشْروع، فاجأ الجميع بخروجه والتفافه حول شباب الثّورة في تظاهرات مليونيّة عَمّتْ كُلّ أرجاء مصر، مُلْتحماً بشعارات الثورة مُتوحّداً مع أهدافها، مُشْعلاً جذوة الغضبِ ضِدّ النّظام الحاكم، مُصَعّداً سَقْفَ مطالبه لتطال رأس النظام وأركان الفساد فيه، مُنادياً ـ جَنْباً إلى جَنْب مع الحُرِّيّة ـ بالعدل الاجتماعي والمُساواة وتكافؤ الفرص واسترداد الثروات المَنْهوبة واسْتئصال كُلّ الأورام الخبيثة التي اشتشرت في جسد الوطن. كان مشهد الثورة مَهيباً وجليلاً ومُدْهشاً بحقّ، والسؤال الذي كان يَتردّدُ على ألسنة الجميع هو: من أين ينبع كُلُّ هذا الطّوفان من الغَضَب..؟! وهل بمقدور النظام ترويضه أو الحَدّ من قوّة تَفَجُّره واندفاعه..؟!

كان جهاز الأمن البالغ مليوناً ونصف المليون المُقاتلين ـ ثلاثة أضعاف الجيش ـ مُدجّجين بأسلحة المعونة الأمريكية ومعونات الاتحاد الأوروبي من أسْلحة القَمْع والتّرويع والقَتْل من قنابل مُسيل للدموع وحارقةٍ ورصاصٍ مَطّاطيّ ورصاصٍ حَيّ وهرّاواتٍ غليظةٍ وعصيٍّ مُكَهْربة، هذا الجهاز الجُهَنَّميّ انهارَ أمام صمود الثائرين وبسالتهم بعد أن زال جدارُ الخَوْف وسطعت شَمْس الثورة مُضيئةً وكاشفةً وقَرّ عَزْمُ الجماهير على مواصلة المسيرة مهما عظمَ الجَهْدُ وغلت التَّضْحياتْ، والمؤسسة العسكريّة حافظت على صَفْحتها البيضاء طوال تاريخها فتجنبت الاصطدام بالجموع الثائرة التي اعتصمت بميدان التحرير واتخذته منبراً للثورة تنطلق منه مظاهراتها المليونية.

والنظام الحاكم الذي مارس كُلّ أنواع الإجرام في مواجهة الثورة وعَجز عن إيقاف مَدّها أصابه التَّخبط والارتباك وراح يُقَدّمُ التنازل تلو الآخر بينما تتصاعد مطالب الثورة في تَحَدٍّ وإصرار على المواجهة واستكمال المسيرة. لم تُفلح مُحاولات الالتفاف على الثورة التي مارسها النظام بدأبٍ منذ الأيام الأولى. وهي محاولات جَنَّد لها زبانية الحُكم كُلّ أسلحة الإعلام الرَّسْميّ وشبه الرّسمي وعناصر البلطجة والتَّشهير وإشاعة الفوضى والترويع بعد سحب كُل قوات الأمن في تآمرٍ رخيص على أمن الوطن والمواطنين.

بدأت محاولات الالتفاف على الثورة بالوقيعة بين قيادة الثورة وجماهيرها، حيث دأبت وسائل الإعلام الرسمي التي تخضع لهيمنة الحكومة وقنوات البثّ الفضائي المملوكة لرجال أعمال أثروا ثراءً فاحشاً في ظلّ حُكم مُبارك على تصوير الأمر على أنه انتفاضة شبابيّة بريئة اندسّ وسطها قوى سياسية ذات أجندات خارجية ـ في إشارة واضحة لجماعة الإخوان المُسلمين ـ وهي صورة مغلوطة وزائفة لثورة شارك بها كُل فئات الشعب المصريّ وطوائفه وقواه السياسية دون تمييز، والتفّ حول شعاراتها ملايين المصريين الناقمين على نظام قائم على الفساد والقبضة الأمنيّة والتَّبعيّة وغياب الإرادة السياسية والإخفاق في إدارة كُل مؤسسات الدولة.

نظام اعتمد على قاعدة حزبية زائفة ومعزولة عن عامّة الشعب، ودستورٍ جرَى تحريفه والتلاعب به وتفصيل موادّه بنصوصٍ تكفل تزوير إرادة الشعب، ومجلسٍ نيابيّ جاء بانتخابات مُزَوّرةٍ لتكريس هيمنة الحزب الوطني الحاكم، وأحزاب مُعارضةٍ ورقية ارتضت لنفسها أن تقبع في زوايا مُحاصرةٍ وهوامش حركةٍ محدودة وعُزلةٍ جماهيرية مفضوحة. ثُمّ انتقلت مُحاولات الالتفاف إلى مُستوى آخر مع تصاعد الثورة وغليان الشارع، فيما أُسمي بالحوار بين النظام القائم وبعض رموز المُعارضة الرسميّة لتمرير تنازلاتٍ هامشية محدودة من قبل النظام مع الحفاظ على دعائمه قائمة. وحين بدا أفق المُصالحة الوطنية ضَيّقاً وظهر عَجز النظام عن تقديم أية تنازلاتٍ جوهريّة، انسحب وفد المُعارضة وتصاعدت وتيرة التظاهرات التي انتهت بتخلي مُبارك عن السُّلطة وتولّي المجلس الأعلى للقوّات المُسَلَّحة مقاليد السُّلْطة في البلاد.

وقد بادر المجلس بإعلانٍ يُفيدُ أنه ليس بَديلاً للشرعيّة الدّستوريّة بل يقتصر دوره على قيادة المرحلة الانتقالية التي حُدّد أمدها بستّة شهور تنتهي بتسليم السُّلطة إلى رئيسٍ جديد مُنتخب. كما بادر المجلس بإصدار قرار بِحَلِّ مَجلسي الشعب والشّورى اللَّذيْن جاءا بانتخابات مُزورة ومطعونٍ بشرعيَّتها. قام المجلس أيضاً بتشكيل لجنةٍ لتعديل الدستور وتنقيح بعض موادّه.

وهكذا تحققت للثورة ثلاثة مطالب من برنامجها المُشتمل على إحْدى عَشر مَطْلباً. انتقل مُبارك وعائلته وحرسه من القصر الجُمهوري إلى شَرْم الشّيخ دون مَساسٍ أو مُساءلةٍ عن كُلّ ما ارتكبه من جرائم بحقّ الشعب على مدى ثلاثين عاماً، وبقيت حكومة أحمد شفيق التي تشكّلت قبل تَنَحّي مُبارك وهي حكومة قوامها أعضاء الحزب الوطني الذين تولوا مناصب وزارية في حكومة أحمد نظيف التي أسقطتها الثورة ووجّهت إليها اتهامات من قبل النظام ذاته بالفشل والفساد الاقتصادي والاجتماعيّ وإفساد الحياة السياسية.

وبقي رؤساء مجالس إدارات المؤسسات الصحفية الرّسميّة ورؤساء تحريرها الذين كانوا اليد الطّولى لنظام مُبارك في تضليل الشعب وتبرير كُل مفاسد النظام والتعتيم على قضايا الفساد وتجاوزات السلطة وجرائمها المُوثَّقة. وبقي الكثيرون من رموز الفساد والمسؤولين عن إفساد الحياة السياسية مُطلقي السّراح دون مؤاخذة أو مُحاسبة. ولم يُحاسَب حتى الآن أيُّ عنصرٍ من عناصر الأمن المسؤولين عن جرائم القتل العَمْد بالرّصاص الحَيّ أثناء المُظاهرات والتي راح ضحيتها نحو أربعمائة شهيد فضلاً عن أكثر من خمسة آلاف جريحْ. هذه الأوضاع تُضاعف من الإحساس بالخوف والقلق على مُستقبل الثورة، وهي تبقي براكين الغضب مُتفَجِّرةً في نفوس الجماهير المُؤمّلة في إنجازات الثورة ورؤية ثمارها حقيقةً على أرض الواقع.

فمحاولات الالتفاف قائمة على قدمٍ وساقْ. والنظام الذي تلقَّى زلزالَ الثورة بكثيرٍ من فقدان الوعي والاتّزان بدأ الآن يلملمُ شتاته ويُحاول الانقضاض على الثورة من هذه الثغرات القائمة ومن خلال ما تبقى من أبنية النظام ودعائمه. وممّا يُفاقم من خطورة هذا الوضع أن نظام مُبارك تمكن ـ خاصّةً خلال السنوات العشر الماضية ـ من توسيع قاعدة الفساد والإثراء غير المشروع بحيث طالت كُلّ مؤسسات الدولة دون استثناء، الأمر الذي عبَّر عنه كاتب كبير مثل محمد حسنين هيكل بقوله: لم يكن هناك فساد دولة.. بل كانت دوْلة فساد..!!. وهي مقولة تُعبّر عن مدى تفشّي الفساد في مُختلف قطاعات الدّولة، ومن ثَمّ اتساع رُقْعة الخلل في بُنيان الدولة، وكثرة عدد المُستفيدين ـ دون وجه حَقّ ـ من عهد مُبارك، وهذه الشريحة تُدافع الآن عن مصالحها المُهدّدة بفعل الثورة، وتُمارس تخريباً مُتعمّداً لمكاسبها المحدودة، توطئة لتقويضها وتصفية مُنجزاتها. ذلك أنّ جوهر الإشْكاليّة في هذه الثورة أنّ قادتها وجماهيرها ليسوا في موقع صناعة القرار بعد تَنَحّي مُبارك وتولّي المؤسسة العسكرية مقاليد الأمورْ.

كُلّ هذه الأوضاع وغيرها تجعل السّاحة مفتوحةً على كُلّ الاحتمالاتْ، ومن ثَمَّ تُبْقي أبخرة الغضب المحبوسة في نفوس الجماهير مُهيّأةً للانفجار على أصعدةٍ شَتَّى ومن خلال تظاهراتٍ متواصلةٍ ومُستمرّة يَرى ثوّار مصر أنها الضَّمانة الوحيدة للضَّغط على صُنّاع القرار لتلبية كُلّ مطالب الثورة وتحقيق أهدافها.

بُرْكانُ الغَضَبْ.. ومُحاولاتُ الالتفافْ

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى