الاثنين ٢٤ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٢
بقلم رشا السرميطي

نظارة والدي-بريد الذِّكريات 2012

لم تكن نظَّارة فحسب، بل هي الذِّكرى الأم، والزُّجاج الذي ما سلا أحبابه، الثَّاني عشر من صفر، لكنَّه العام العشرون. هكذا الأيام هربت مسرعة، وانقضت من أعمارنا، بلا نسيان، وكيف لي أن أنسى من يسكن في الحشا. مذ رحل أبي، لم يفارق أرجاء الحياة أبداً، رغم امتثال الرُّوح لبارئها، وانغماس الجسد تحت التراب، وبقاؤنا فوق رفات الحزن نتنَّفس آهات الوداع، مستمرون والإيمان نتنفَّسه بعقيدة راسخة، والله للصابرين خير وكيلاً.

لقد كانت ليلة باردة جداً، مثقلة بالحنين والحزن، والأماني المستحيلة رجوعاً للوراء غير الممكن، عندما دخلت غرفتي متعباً، اتجهت إلى السرير كي ألقي وجع اليوم وآلام الذَّاكرة، دون توَّقع وجدت ابنتي المدلَّلة " حنين " قد اقتحمت درج أسراري، وشرَّعت ستائر الأمس لتسمح للحاذر أن يفشي حجم التوق لغائب، أخذت تستكشف عالمي الذي لطالما أغلقته على نفسي. أصبتُ بالذُّهول وكساني الغضب حينها، بين عتاب وعقاب وقفت على أعراف المحبَّة حائراً.

كانت تنظر إليّ بعينيها البراقتين، وتبتسم لي بثغرها الصَّغير، شفتاها الحمراوان والقبلة التي وضعتها على كفي ربما كانت المنقذة لها، شعرت بالدفء حينها وكأنَّني ابنها ولست الوالد، وكما اعتادت، قفزت على سريري وتسلَّقت أكتافي، وأخذت تطبع على خدي القبل، عانقتني بشدة، وضمَّت أحزاني بلحظة من الحبِّ الصَّادق، لم أقاوم اغواء براءتها التي جعلتني أتناسى سوء تصرفها، وإذا بي أجلس معها على سرير الوقت، وأنزع عن عينيها نظارة والدي. رحم الله موتانا، وأسكنهم الجنَّة . كما القطَّة الوديعة، وهي تدلك خدها بيدي، وتلمس أجزاء جسمي، تتنقل عن يميني لشمالي، وتستلقي في حجري، أخذت تعانقني، وروحي بين يديها ترتفع عالياً، ترسم الحبَّ على عنقي لوحات من الصِّدق، قالت: أبي لمن هذه النظَّارة؟ قلت لها: هذه لجدِّك، الحاج تيسير رحمه الله. قالت: ومن هو؟ قلت: ألا تعرفينه يا صغيرتي؟ قالت: لا، لا أذكره يا أبي.

خلعت عنِّي ملابسي، وارتديت بجامتي، ثمَّ أخرجت من الخزانة، صندوق الصُّور. وبدأنا نقلِّب الألبومات أنا وحنين، حلوتي وسكَّر أيامي. ضحكت تلك الأميرة حين رأتني، وعمري يقارب السَّنة، أرتدي الفوطة، وجسدي عار، وقد ضمَّني أبي مبتسماً، أشارت لنظَّارته بإصبعها الصغير، فقالت: أهذه النَّظارة هي؟ قلت لها: نعم. فقالت: ولم تحتفظ بها حتَّى الآن؟ قلت: لأنَّها الذِّكرى. قالت: وما معنى الذِّكرى؟ فقلت: الذِّكرى يا بنيَّتي، هي تلك المشاعر الحميمة التي تسكننا، وترسم داخل ذاكرتنا صوراً من الاشتياق، الذي كلَّما ابتعدنا عن مواطنه عدنا لانطيق الابتعاد، فرحين رغم الغياب، بميراث يضاهي الثَّروات كلها، مهما انصراف الوقت، تأتي بنا إلى حيث كنَّا وكانوا شركاء الرُّوح والفكر والجسد. هؤلاء الذين يعمِّرون وحدتنا، ويشعروننا بقيمة الرَّحيل، الموت هو الحكمة، ولا قهر أكبر.

أبي: ما هو الموت؟ الموت يا صغيرتي رحلة طويلة، من يذهب بها لا يعود. وإلى أين يذهب؟ إلى الجنَّة يا صغيرتي. أوليست الجنَّة شيئا جميلا، حيث نجد الحلوى والألعاب، إذن جدي يلعب الآن ويتناول السَّكاكر، خذني هناك إليه، هيَّا نزوره يا أبي. ضممتها إلى صدري وقد بكيت، حتَّى شعرتْ بحرارة دموعي تلك الوردة النَّديَّة، فأخذت تلعب بشعري وتمسح عبراتي، وتقول: لماذا أنت حزين يا أبي؟ أعتذر، لن ألعب بأغراضك مرة أخرى، سامحني، أرجوك.

شعرت حينها بأنَّ الآباء يحتاجون تلك الضَّمات أكثر من الأبناء، وكم تمنيَّت لو أنَّ أبي بيننا لأعانقه وأقبل كفيه الطَّاهرتين، تنهدت منهكا ثمَّ قلت: أنا بخير يا بنيَّتي. دعينا نقلِّب الصُّور، كي تتعرفي إلى جدِّك. هذه سيَّارته، لقد كان يأخذني بها في الصَّباح عندما كنت صغيراً في المدرسة، وقد كان عمك " محمد " يعيدني إلى البيت. أبي إنَّها بيضاء كمريول عمي "عبد الكريم" وأنت تحبُّ الأبيض. نعم يا بنيَّتي: لقد كان جدُّك أبيض السريرة، وطيِّب الفكر، كان محبوباً من أصدقائه وجيراننا. وهنا كان جدُّك يصلي دائماً، هذه الصَّالة تحتضن ظلَّه ولا تفارقني الأخيلة كلما مررتُ أرى طيفه يحاكي لحظات العمر، لقد كان قريباً من الله، مواظباً على صلاته، وتلاوته، والتَّسبيح، أذكر مرَّة عندما رأيته يحرِّك أصابعه ويتمتم بشفتيه، قلت له: ماذا تفعل، فأخذني في حجره وعلَّمني كيف أقوم بالاستغفار على عقد أصابعي. أبي ولماذا لا تعلِّمني ما علَّمك جدِّي؟ هات يديك يا حبيبتي، ولنقل معاً: سبحان الله، الحمدلله والله أكبر. وهنا مطبخنا، هذه جدَّتي، أليس كذلك؟ نعم هي الغالية أمي. لقد كان كلاهما نعم الأبِّ والأمِّ، وكان يوم الجمعة، يوماً مميَّزا من أيام الأسبوع، إذ كان ينهض أبي باكراً، يذهب للسُّوق، ويحضر لنا أشهى الأطعمة، ويعدُّ الفطور، كنت أصحو على دفء شفتيه، عندما كانت تناديني رائحته الزَّكيَّة بقبلة يودعها فوق جبيني، افتح عيني وأشاهد جمال اشراقة عينيه البرَّاقة، كان يتأمَّلني، وكأنَّه يوَّدِّعني، ويعلم بأنَّه سوف يغادرني مبكِّراً.

جاءت " أم حنين " وقد انتشلتنا من بين الصُّور الكثيرة لوالدي التي ملأت السَّرير، وقبلَّت جبيني ثمَّ قالت: زوجي الحبيب، اليوم تصادف ذكرى وفاة عمي، رحمه الله وغفر له، ولابدَّ نتذكره وعائلتنا، فما رأيك أن نكلِّمهم ليزورونا اليوم، ونجتمع مع خالتي، فنقرأ القرآن ونرفع له الدُّعاء، ولا تنسى عند المغرب أن تخرج الصَّدقة عن روحه، فلعلَّ ولد بار بوالده يعتقه من هفوات الدُّنيا ويرحمنا ويرحمه من زلات هذه الحياة. شعرت حينها بأنَّني سعيد، فمازالت أمي بقربي، وكثير من الأبناء قد فقد هذا الكنز الذي لا تعوضه نفائس الدُّنيا، ولديَّ زوجة رائعة هي مثل أمي، وابنتي الصغيرة، حادة الذَّكاء، متنفسي وسرُّ فرحي، لقد كانت عنوان أمل شاهق في حاضرنا ومستقبلنا.

خرج من الغرفة " أبو حنين". أمي: نادت الصَّغيرة. نعم يا مدلَّلتي المشاكسة. لماذا بكى والدي عندما حدَّثني عن جدي؟ فرَّدت: لأنَّه يحب جدِّك رحمه الله. لكن، أنا أحبِّكم كثيراً، ولا أبكي. أليس البكاء تعبير عن حالة غير مرضية، وعندما نفقد شيئاً عزيزاً ألا نبكي؟ قالت حنين: بلا. هذا لأنَّك معنا، ونعيش جميعنا، هل تذكرين الخميس المنصرم، عندما زارت جدَّتك عمك "أحمد"، وقررَّت النَّوم عنده؟ نعم حينها بكيت لأنَّني لا أطيق النَّوم قبل ضمِّها والاستماع لتجاعيد كفِّها التي تحنو عليّ، وعزف وشوشة صوتها الرقيق عندما تحكي لي قصصاً عن والدي الحبيب، عندما كان صغيراً، وذو مغامرات مشوِّقة. أمي، إنَّ جدَّتي نبع من الحنان، ليتها لا تفارقنا أبداً ولا تذهب إلى جدِّي، سأطلب منها الآن أن تأخذني معها، وإلا سأظلُّ أبكي وأمنعها من الذَّهاب. ضحكت الأم ونادت حماتها، وزوجها، واجتمعوا على سفرة الغداء، كانت " أم حنين " قد طهت صنوف الطَّعام التي يحبُّها الجدُّ الرَّاحل، احتراماً لذكرى والد زوجها العزيز، وقد تناولوا جميعاً وليمة الذِّكريات واجتمعوا على ذكر محبة ذاك الرَّجل العظيم الذي غاب عنهم جسداً، لكنَّه لم يفارق أركان حياتهم وقد شاركهم بأدق التفاصيل اليومية، حتى - حنين - التي لم تعاصره قد تعرَّفت إليه، وشعرت بأنَّها تحبُّه، وترغب باللِّقاء به، وما إن انتهى وقت الطَّعام، حتى أكملت حنين وأبوها التجوال بين العديد من الصُّور التي جمعت أعمامها وعماتها مع جدِّها وجدَّتها.

عند المساء اجتمع الأبناء والأحفاد، وقاموا بطقوس ذكرى وفاته السَّنويَّة، ورفعت أكفُّهم بالرَّجاء والدُّعاء، حتى مرَّت السَّاعات وانقضى اليوم، وذهب الكلُّ إلى بيته، مغادراً أبو حنين الذي يشتاق لوالده كثيراً، رغم أنَّه لم يقض العديد من سنوات عمره برفقته قبل الفقد، لكنَّه الأب، ولا أغلى من فقدانه وأقسى على الرَّجل من العيش بعيداً عن أبيه.

اليتم شعور قاس، ولا أعنف من فقدان أحد الأبوين، لكنَّها الحياة وسنن الله في كونه، وما على الإنسان إلا الرِّضا بما كُتب له في الصحائف، بريد لكل من لديه أمٌ وأبٌ ما زال كلاهما على قيد الحياة: تداركوا ما بقي من أيامهم، ولا تنتظروا ميقاتاً تسرد به الذِّكرى المكتوبة بحبر الألم، واغتنموا ساعاتكم في البرِّ والإحسان إليهما، إن كان أيٌّ منهما بحاجتكم اليوم، فاذكروا بأنِّكم الأحوج لهما وستبقون كذلك حتى بعد الرَّحيل. - من مذكرات أبو حنين وأم حنين.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى