الثلاثاء ٢٩ أيار (مايو) ٢٠١٨
ذاكرة القهوة بنكهة رمضان (11)
بقلم سماح خليفة

وأخيرا سأسافر إلى الفضاء

"تبا للرتابة وتبا للروتين الذي سيقتلني" تلك هي الكلمات التي تفوهت بها وأنا أقف بباب مدرستي الابتدائية مع صديقاتي، في نية منا لمغادرة المدرسة والتوجه إلى البيت.

أذكر كيف تجمدت بالباب أنظر على مدى البصر، وأفكار ملائكية أو ربما شيطانية تحفر في تلابيب عقلي رغم الشعور الذي انتابني بأني لست إلا جثة في ثلاجة للموتى. أتحسس كل جزء في جسدي لا أشعر بشيء؛ إلا ذات الأفكار تتململ في ذاكرتي.

هي خطوات تفصلني عن بيتي ذهابا وهي ذاتها التي تجرني إيابا في الصباح؛ لأتسمر على ذات الكرسي في غرفة الصف وأمارس ذات الطقوس وأسمع ذات العبارات "ممتازة سماح، شطورة، مؤدبة، هادية، مواظبة على دروسها...." وماذا بعد؟!

لماذا لا يبتعد البيت عن مدرستي ولو قليلا؛ حتى يتيح لي فرصة اكتشاف المحيط والمجتمع والطبيعة؟! لن أسلك ذات الطريق اليوم، لن أنساق لخطواتي الرتيبة ولن يكبلني الروتين.
"سلام صديقاتي" جملة ألقيتها على مسامعهن أصابتهن بالذهول، ثم أدرت ظهري سالكة طريقا مغايرة للطريق الغربية من بوابة المدرسة. يممت وجهي شطر مخدع الشمس الذي تتمطى منه صباحا لتشرق في وجهي وتلقي علي نبؤتها: "سيعلو شأنك ذات يوم يا صغيرتي، وستنثري عبيرك في وجوه المخلصين لهذا الوطن؛ فتزكم أنوفهم رائحة الحرية".

كانت الطريق الشرقية زاخرة بالجديد والمفيد؛ فأشجار السرو الشاهقة كانت تحييني بحب، وأما الياسمين والفل والجوري ودالية العنب التي احتضنت دار أبو العبد، كانت تبتسم وتلوح لي بأغصانها في دعوة منها للاتحاد مع طبيعتها الخلابة والتزود بطاقتها الإيجابية.

أومأت لها بأني عائدة، ثم أكملت المسير أجوب بنظري في كل الأرجاء حتى شدني ذاك الرجل غريب المظهر، يشبه رواد الفضاء الذين أراهم على شاشة التلفاز. يحمل على ظهره صندوقا يخرج منه انبوبا ممتدا حتى كتفه إلى الأمام، ربما ينتهي طرفه في كفه، لا أعلم فلم تكتمل الرؤية لدي. إلا أني لمحته يرتدي كمامة ظننت لوهلة أن الأنبوب يتصل بذاك الشيء الذي يكمم فمه وأنفه. لم أتمكن من تحليل المشهد الذي رأيته آنذاك وإدراك طبيعة عمل هذا الشخص. كل ما تبادر لذهني أنه إما أن يكون رائد فضاء أو غواص.

كنت في تلك اللحظة في قمة ذهولي وفرحتي، ولم أسمح لنفسي أن أفوت هذه الفرصة، تبعته كظله لأكتشف هويته، ولكن الشارع الذي كان يسلكه كان شديد الانحدار لا يظهر آخره، عندها أيقنت أنه غواص، وتساءلت في نفس الوقت: هل طوباس فيها بحر أو أي شيء قريب من ذلك؟!

عدت أدراجي إلى البيت بسرعة الريح أتوق لرؤية والدي رحمه الله؛ لأروي له ما شاهدته وأطرح ألف سؤال وسؤال: "طوباس فيها بحر؟!!!" لم أكد أنهي سؤالي حتى انفجر والدي من الضحك: "بحر مرة وحدة يابا!!! ليش بتسألي هذا السؤال؟. وبدأت أسرد له ما شاهدت. حتى انفجر مرة أخرى من الضحك، قبلني وقال لي: "هذا يابا راح على ارض زراعية يرش المزروعات بالمبيدات الحشرية"، ثم أكمل يوضح ويشرح لي كل ما يتعلق بطوباس ومواضيع أخرى، وأما أنا شعرت بخيبة الأمل؛ لا جو ولا بحر وبقيت قدماي تجوب الأرض ومع ذلك فرحت بتلك المغامرة البسيطة الزاخرة بالكثير.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى