الاثنين ١٧ نيسان (أبريل) ٢٠١٧
بقلم نجمة خليل حبيب

وداعاً أحمد دحبور شاعر التجريب والحداثة


أجمل ما يكون رثاؤك أن نتذكرك في جميلك الشعري 


مقتطف من مقالة بعنوان «طقوس العودة ودلالاتها في الشعر الفلسطيني» [1]

قصيدة التجريب والحداثة

في قصيدة بعنوان "غراب طارئ" [2] لأحمد دحبور يتعقد مشهد العودة [3] ليمسي محاورة بين خطابين؛ واحد يؤكدها وآخر ينقضها، "ما مضى لن يعود". ويبرع دحبور في نقل هذا الحوار الذهني شعرياً، لا عن طريق الساذج المعد سلفاً ولا المعقد المرتبك التأويل، بل من خلال تصوير عميق لاختلاجات النفس واضطرابها في لحظات الضعف. يقدم الشاعر لموضوعه بأبيات متهكمة توحي بالعطالة وتهيء لطقس مضطرب مهزوم سكن فيه الناس الى العبث (البخور والطيب والبرونز البشري) والخطب الحماسية (المذياع)، وإلى الإتكالية والغيبية (والتفت الساق بالساق/ إلى ربك يومئذ المساق). وصار الزمن زمن شهرزاد، زمن الحكي العابث الخادع (حتى إدراك الصباح). [4]

"وإذ يندلع البخور والطيب والبرونز البشري
أنشد راحة نفسي فأفتح المذياع
(والتفت الساق بالساق
إلى ربك يومئذٍ المساق)
فليبارك الرب لهاثنا وآثامنا الضرورية
حتى نتمكن، بأمان، من إدراك الصباح
إنه زمن الضعف والانكسارات حيث تشيع الرؤى اليائسة، وتتراجع المخيلة الثقافية الأم لتفسح للأخرى الدخيلة (إدْغار أَلِنْ بو، الأميركي) بالبروز. لقد حاورت النفس مقولة "إدْغار أَلِنْ بو "ما مضى لن يعود"، وضعفت أمامها، وكادت أن تستسلم لها، ولكنها ما لبثت أن رفضتها وعادت الى إيمانها الأول. وتكمن فنية القصيدة في براعة العبور من حالة الضعف إلى حالة المقاومة، لا عن طريق البطولة المصطنعة بل بفتح كوة يُستشرَف منها المستقبل المشرق. وما كانت إشراقة مصطنعة بل من خلال صورة شعرية موحية تستبشر الحدث ولا تجزم به إلا بعد إخضاعه لمنطق الحياة. فمن قلب اليأس والعتمة والسواد تلمع البشارة، موت "ما مضى لن يعود":
"سماء صغيرة مطلية بالغربان
. . .
والأرض مزنرة بشريط نعيق أسود
آه. . سماء صغيرة مطلية ب"ما مضى لن يعود"
تهبط فجاءة فتبلِّط الأرض بالسواد
ثمّة غراب ميت
إذن هي جنازة "ما مضى لن يعود"
فهل أقول مثلاً إن ما مضى قد يعود؟
ولمَ العجلة؟
. . .
تنهش الطيور السوداء عريس جنازة الأمس
كان فقيدها يوم أمس
وهو وجبتها اليوم
فمعذرة يا إدغار ألن بو
إن ما مضى قد يعود
بشكل آخر
بمنطق آخر
في يوم آخر. . لكنه يعود". [5]

وإذ نتساءل عن السبب الذي جعل الغربان تهبط فجاءةً فتبلِّط الأرض بالسواد، والذي عاد وأمات "ما مضى لن يعود"، يحيلنا زمن كتابة القصيدة إلى حالة التأرجح بين الشك والإيمان التي كان يعيشها الكاتب. فهو من ناحية، يعيش في زمن من أزمان البؤس العربي عندما كانت الحرب الأهلية في اليمن مشتعلة بين جنوبها وشمالها [6].
ومن ناحية أخرى، يشهد التماع نجم المقاومة الفلسطينية. [7]

وقد جاءت هذه المحاورة لتؤكد إيمان الشاعر الفلسطيني ببعده العربي، ولتظهر هلعه على القضية عند أي انحناءة في أي قطر من أقطار الأمة العربية. ففي زمن التعاسة المملوءة سماؤه بالغربان، استجاب الشاعر لمعطيات الواقع الذي لا يبشر بالعودة فحومّت على المخيلة مقولة أَلِنْ بو المتشائمة، "ما مضى لن يعود". ولكن بادرة ما متفائلة، (تطور واشتداد ضربات المقاومة من جنوب لبنان ربما)، حاورتها وردتها مهزومة. وبعد أن برع الشاعر في نقل معاناته بين الرضوخ للسهل والتمرد عليه، انتهى معلناً أن "ما مضى قد يعود، بشكل آخر بمنطق آخر . . لكنه يعود". ولا يخفى ما لحرف التقليل "قد" من دور في إبقاء الفكرة في دائرة الممكن والابتعاد بها عن المحقق [عائد- سوف يعود] ، لتشكيكه، ربما، بإمكانية تحقيق العودة، بالاعتماد على العامل الفلسطيني وحده دون الآخر العربي. أو لعلها محاولة لجر القصيدة إلى الهامش بالابتعاد عما يوحي بالبطولي الذي تتحاشاه قصيدة الحداثة.
وتظل قصيدة دحبور وفية لشرطها التاريخي، وتظل العودة حاضرة ضمناً فيها دون أن تنحرف عن فنيتها. ففي قصيدة بعنوان "قصيدة المكاتبة"، [8] يبشر الشهيد بلغة مواربة بالعودة : (لكنني عَوّاد) فالالتباس في لفظة "عَوّاد" بين اسم العلم وصيغة المبالغة، يفسح مجالاً للمخيلة أن تتمدد وتقرأ ما تريده لا ما يقول به السطح. ويستعيض الشهيد عن اللهجة المفاخرة التي كانت له في القصيدة التقليدية، بأخرى خفيضة لا تدعي البطولة الفردية، ولا تفاخر بالتضحية العبثية. ويبقى الارتباط بالأرض والوطن قوياً دون اللجوء إلى العاطفة المسطحة كالمبالغة بالحنين أو التفجع
"ويا أهلي مديدٌ يومُنا
وامتد سلك شائكٌ في الروحِ
واشتد الأذى لكنني عَوّادْ
معي أهلٌ سواكم أهلهم أنتم
لهم أشواقهم مثلي
لهم في مستقر الريح أوهام وأحلام . . لهم أولاد
الوطن الفقير لا يخذلنا
والمطر الناصع لا يخذلنا
الأرض ظلت كرةً، أطفالها نحن ولا تخذلنا". [9]


أجمل ما يكون رثاؤك أن نتذكرك في جميلك الشعري 


[1نشرت في مجلة العلوم الإنسامية، جامعة النجاح، عدد 4/ مجلد: 23، حزيران 2009

[2(دحبور، 1983، ص 735-743)

[3(قد يكون قصد الشاعر بالعودة عاماً. عودة الماضي المجيد للعرب مثلاً. ولكن هذا لا يمنع قراءتها فلسطينياَ، فالقصيدة مفتوحة على عدة احتمالات، وكل قراءة جادة تجهد لملء البياض الذي يتركه النص).

[4دحبور، 1983، ص ٧٣٩

[5(دحبور، 1983، ص 741-742)

[6جاء في ذيل القصيدة أنها مكتوبة في عدن 28/ 1/ 1981 (المصدر نفسه، ص نفسها). واليمن في هذه الفترة كانت في صراع داخلي بين شطريها: الجمهورية العربية اليمنية في الشمال وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في الجنوب، لم يتوقف إلا بعد الاتفاق على توحيد البلاد عام 1990
(Stevenson and Alaug, 2000, Journal of Anthropological Research, Vol. 56, No. 4, p. 453)

[7(Baumgarten, 2005, Journal of Palestine Studies, Vol. 34, No. 4, pp. 25-48)

[8(دحبور، 1983، ص 781-796)

[9(المصدر نفسه، ص 795)


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى