الأحد ٢٣ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٤
بقلم محمد نجدة شهيد

يا بصير، يا بصير

لم يكن أحد يأبه باسمه، أو يراه أصلاً. كان مروان أكثر ضآلة من أن يلاحظه أحد في مخزن كبير . كان قصير النظر، ضعيف البصر. يهبط الدرج وهـو لا يدري أين يضع قدميه. يردد دائماً " يا بصير، يا بصير" إلى أن اضمحل بصره تقريباً، وعميت بصيرته تماماً. قالوا له يوماً ناصحين لا تكن أعمى فتحسب الآخرين عميان.

ورث عن أمه عيشة خانم ضخامة الجسد، لكن نفسه الغريرة كانت قاصرة عن مجاراة جسده. شغل نفسه طيلة حياته بجمع المال الأسود من مختلف وجوه الحرام. كانت عيناه تطرف بنظرة الجوع المعتادة حين يرى مالاً. لا تفوح من ثيابه سوى رائحة الطرقات ومن يديه رائحة الدم. أعتاد الابتعاد عن كل متعة حقيقية في حياته يتلذذ بالانتقام من الآخرين فقط ليعوض بذلك كل ما لديه من نوازع النقص.

كان كل شيء تقريباً متاحاً أمامه في المخزن، ولكنه لم يدر ماذا يريد. يفكر دائماً متحسراً بالأيام الماضية التي قضاها بلا عمل وسط براميل الكنتاكي وعبوات الكولا العملاقة على حساب المخزن، وهو يقول لنفسه ما اثقل الهواء. ما أقل ما أخذت وما أكثر ما أخذوا. ومع ذلك، كانت ريح الخوف تتسلل إليه رغماً عنه. فكان يقف طويلاً أمام المحلات المظلمة التي يحبها كثيراً يبحث فيها عـن أشياء لا وجود لها. ويسير بحواس شاردة في الشوارع والساحات الخالية، والطرقات غير المأهولة وهو يسمع من حوله عشرات الأصوات، ثم يكتشف أنها كلها أصواته، صوت قلبه، وتنفسه وتدفق الدم في عروقه.

كان جائعاً، وظل جائعاً حتى بعد أن تدفق المال الأسود بكثرة بين يديه الملوثتين. لم يغادر جسده وخز آلام الجوع والحرمان والبؤس، أو ينسى شيئاً من أيام الجوع وليالي الخوف عندما كانت الأحلام تتحول إلى اشباح قاتمة فيشعر بالكراهية نحو ذاته ونحو الجميع. يستيقظ في منتصف الليل وهـو يصيح أنا جائع، أنا ميت من الجوع. ولعله مات أخيراً جائعاً.
كوابيس دموية غامضة
رأى نفسه في المنام ذات ليلة يسير عبر ممرات طويلة، هبط فوق سلالم زلقة، ودخل إلى نفق مظلم ، شهق من الرعب. كان مدير المخزن في انتظاره، ولم يكن باقياً منه إلا رأس معلق على رمح. انتفض من شدة الخوف كامرأة حبلى بالألم. عاوده الحلم مرة أخرى، فرأى نفسه ينحدر رغماً عنه إلى واد لم يره من قبل، هبط بين أشجار يابسة وأعشاب جافة. تلفت مفزوعاً، رأى في انتظاره عـدد من الرجال في ثياب سوداء كالغربان. لم يميز ملامحهم.. ابتعدوا، أنتم تخنقوني، تمنعون عني الهواء. لكن دائرتهم الضخمة لم تتزحزح، حجبت الضوء أيضاَ.

وظلت الدائرة تضيق حتى أنه شم أنفاسهم اللزجة. أمسك احدهم بذراعه، كأن أصابعه مخالب بارده انغرست في لحمه، وقال له لماذا أتيت إذن؟ ولماذا لم يأتي معك قرينك المدير؟ لو جاء لعرفنا قدره ورأى منا ما يسره. هيـا. اخلع نعليك. وبعد أن انتهوا فقأوا عينيه وتركوه يخوض وحده في ظلمة الوادي. صرخ أين أنا؟ أجابه الصدى أنت في وادي لوط.
الله كريم .. الله كريم
ذهب بصحبة زوجته أحلام إلى الشيخ الضرير أبو سراج وجلسا أمامه. حدق فيه الشيخ بعينيه الفارغتين، وحرك أنفه كأنه يتعرف عليه من رائحته المبهمة. وأدار وجهه كأنه يراه ويقرأ ملامحه المتوترة. سأله أن يقص عليه ما يريد. فقالت أحلام بركاتك يا سيدنا.. بركاتك بدنا ولـد. فأجابها بصوت خفيض الله كريم الله كريم. كان يرقب في بلاهه شديدة الكلمات التي تخرج بصوت خافت من بين شفتي الشيخ الضرير وهو يردد التمائم والتعاويذ الغامضة.

قالت زوجته لنفسها لئن رزقني الله ولداً على يديه لأسميه كريم. طلب الشيخ الضرير من خادمته عطاف المتشحة بسواد الغربان أن تقدم لهما الشراب المعتاد. وعندما ساد الصمت وشعر أنهما غابا عن الوعي تلمس طريقة إلى أحلام. وبدأت الساعة الجدارية في الغرفة تدق بلا توقف محفزة كل غرائزه الوحشية. بقيت عطاف ترقبه بمشاعر مختلطة وهو يقترب بخفة من أحلام يتحسس جسدها وأنفاسها الدافئة باشتهاء. ورأت يده تنساب بخفوت وصمت إلى مواطنها الحميمة قبل أن يبدأ الزحف على جسدها ويُطبق رأسه الثقيل على أنفاسها. بدا جسدها مغطى بالجروح والخدوش.

لم تكن أحلام فيما يبدو قد غابت عن الوعي تماماً. لعلها لم تتناول كل ما قدم لها من الشراب خلاف مروان الذي كان شخيره يملأ المكان. كانت ترى سقف الغرفة يهتز وهي تسمع أنفاسه المتوترة وتشم رائحة زنخة تفوح من ثيابه كأنه اكتسبها من الغوص في لحم الأخريات. لم تغادر عطاف حتى ترددت في الغرفة أنفاس الانتهاء.
قلب ينبض في وهـن
كان يقف كل يوم في النافذة ويطل على ساحة المخزن دون أن يراه جيداً وهو يردد " يا بصير ، يا بصير". كان المخزن كساحة موت مفتوحة لا توحي بأي أمان. يتحسس الأموال الحرام المكدسة بين يديه الملوثتين بدماء الآخرين لعلها تعطيه احساساً بقيمة الذات بدلاً من هواجس ذلك المستخدم الراقد في أعماقه.

وكانت النهاية مهينة وليست مأساوية حتى ذلك الحين تليق بمستخدم وغـد لئيم كان ينتقم من الموظفين لكل مرارات الفشل والأحلام المجهضة. يقترف كل هـذا والمدير الذي أطال البقاء صامت لأنه راغب خاصة بعد أن شاخ عقله وتثاقل ظله وأصبح قلبه ينبض في وهـن. لوى ذيله أخيراً واسرع في الرحيل مطروداً إلى بيروت وهو يخفي خجله بين الموظفين الذين ظلمهم كثيراً، فلم يدر أحد أهـو أحق بالرثاء، أم بالشماتة؟ انتظر الجميع حتى يأتي هـذا اليوم وتهب نسمة عذبة من ناحية بردى فترتعش القلوب وتسود السكينة.
إلى من يأمن المرء في هذا الزمان ؟
وبعد مرور فترة قصيرة على رحيله المهين وجدوه مشنوقاً بحبل من مسد في قبو بيته وسط بيروت. جمعوا كل الشواذ والشحاذين واللصوص، وكل من كان في صدره نقمة، وله مظلمة في المخزن الكبير ويحلم بالخلاص. وبعدها أختفى الجسد ولم يعرفوا له طريق مثلما لم يعرفوا قاتله. فتشوا كل دروب المدينة وحاويات القمامة والآبار والقبور المهجورة وحتى بيوت الخلاء العامة. واقتفوا آثار الأقدام. لا وجود ولا شهود. وهكذا زال ظلم المستخدم مروان كأن لم يكن. قليل من الموظفين يصدقون أنه قابل للموت. لكنهم لن يعودوا بعد اليوم إلى حياة الخوف في المخزن. وسبحان من له الدوام.

ومثلما أختفى جسده، أختفى ماله. أوليس المال الحرام يذهب هـو وأهله. لم يكن هناك أمام الجميع إلا الشك في المقربين منه، وكانت المفاجأة عندما اعترف الجميع على الشيخ كربوج، رجل المهام الخاصة، الذي كان يتردد عليه في أوقات عديدة ومختلفة لترتيب مواعيد زياراته المتكررة إلى عيادة الشيخ شحتوت في خان دنون الأخصائي في معالجة كافة أنواع المخلوقات التي تسكن كيانات البشر بتقنية جديدة استوردها من أوروبا، وفي تحضير مختلف أنواع الحجابات كالتي يضعها مروان في ثنايا ثيابه المهلهلة وعلى رقبته الغليظة كرقبة الثور.

وضعوا الشيخ كربوج في السجن فلم يعترف. ضربوه وحلقوا لحيته، فلم يعترف. تحمل الكثير وخرج بعد عدة سنوات من سجن عدرا يهمهم بكلمات غامضة تحكي عن تجربة السجن الصعبة، ولا أحد يدري إن كان قد سرق النقود أم لا. ولكن لم تنقضي فترة طويلة على خروجه من السجن حتى شرع في بناء عيادة كبيرة خاصة به في خان دنون.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى