الأربعاء ٨ آب (أغسطس) ٢٠٠٧
بقلم هشام آدم

الله وخلقه

مسح شعر صدره بأنامله الخشنة، وكأنه يحاول أن يثير انتباه السيدة الواقفة في الجانب الداني من الشارع، غير أنها نظرت إليه باحتقار، وهي تشيح بوجهها عنه. وربما كان مرور الحافلة غير المناسبة، مناسبة لها لتبتعد عن وجهه الذي كاد أن يصيبها بالغثيان. هذا تماماً ما أشعره بالإنجازية وهو يمسح شاربه بعد أن خفّ ضجيج محرك الحافلة المتجهة إلى مدينة نصر. أشار بيده إلى صبي المقهى النشيط الذي كان يربط على خاصرته منديلاً لم يعرف له استخداماً على الإطلاق، فلم يره قبلاً يستخدمه في مسح الطاولات أو تنشيف الكؤوس المبتلة بعد غسلها. وكالعادة فقد أسرع الصبي ليقف بكل تأدب أمام هذا الرجل المعتد بشعر صدره الكث.

"أحضر لي مقعداً خشبياً وشيشية بنكهة التفاح .. بسرعة."

هكذا انتهر جلال القصباني صبي المقهى النشيط، وهو يفرك شاربه في اعتزاز. كان يهوى الاستماع إلى أغنيات ماجدة الرومي على صوت قرقرة الشيشية المزعجة، وفي كثير من الأحيان كان يأخذه خياله غير المتوازن إلى تخيّل أنه واحد من أعضاء فرقتها الموسيقية، وأن ليّ الشيشية ليس إلا آلة ناي، فكان يُكثر من القرقرة تلك اللحظات التوهمية.

مرّ الشيخ عبد الصبور مرتدياً جبته الأزهرية، وأزعجه الدخان المتصاعد من أنف جلال وكأنه شبحٌ لتنين صيني هارب من إحدى نقوش المعابد البوذية هناك. فهزّ مسبحته وقال بصوتٍ مخنوق بدخان الشيشية

"اتق الله يا رجل .. أنت تؤذي المارة بهذا الدخان."

فهز جلال المُشعِر حذاء قدمه الذي وضع ساقها على الأخرى، وهو يهز ليّ الشيشية ولم ينطق بشيء. كان منسجماً مع كلمات ماجدة الرومي "عم يسألوني عليك الناس" وكان حريصاً أن يتقن عزف صولاته في وقتها المناسب، فلم يكترث لما قاله الشيخ عبد الصبور. وعندما أعاد عليه كلامه. توقف عن العزف باستياء ووضع الليّ جانباً

"لن يكتمل إيمانك إن لم تفسد مزاج الآخرين أليس كذلك؟ ألا ترى أنني منهمك في أمر أهم من هراءكَ هذا؟"

هكذا زمجر جلال في وجه الشيخ عبد الصبور الذي توقف عن هزّ مسبحته التي لا تغادر يده وكثيراً ما كان يمرر خرزاتها حتى دون أن يُسبّح.

"الأمر بقليل من اليقين يا مولانا هو في مزاجية التعوّد، أنتَ تعوّدت على حمل السبحة واللعب بها وتجد متعتك في ذلك، أما أنا فإني أجد متعتي في قرقرة الشيشية. أرأيت!"

هزّ الشيخ عبد الصبور رأسه المثقل بالعمامة الأزهرية البيضاء

"استغفر الله العظيم ، ألا تجد مزاجك إلا في المعصية؟"

نهض جلال القصباني بعد أن باعد بين ساقيه

"معصية لمن؟ أتظن بأن الله يحفل كثيراً بما تقول؟ أم تظن أنه سعيد بما تفعله الآن، وتتوقع منه أجراً على ذلك. أتمنى أن تنشغل بنفسك وأن تدع أمور الناس لرب الناس. أليس هذا أجدى بذمتك؟"

التفت الشيخ عبد الصبور بكامل جسده ناحية جلال القصباني، وكانت ملامحه أكثر جدية هذه المرّة:
"أتجاهر الله بالمعصية، ثم لا تخجل على نفسك. كل ما أضر بجسد الإنسان فهو حرام!"

أمسك جلال المُشعر بجلباب الشيخ عبد الصبور وهزّه بقوة:

"اسمع يا هذا .. إن كان كل من لا تعجبك تصرفاتهم سوف يقلعون عما يفعلون ، فسوف لن تكون هذه الأرض أرضاً، بل ستكون قطعاً من الفردوس التي تسعى إليها حثيثاً. أنا أفعل ما أريد وقتما أريد وكيفما أريد. وإن كان ما أفعل معصية كما تقول، فليس لأحد أن يحاسبني عليها إلا من سنّ أنها معصية. فيما عدا ذلك، فأنا لا أسمح لإنسان كائناً من كان أن يحاسبني على شيء إلا إن كان في مخالفة القانون. أتفهم!"

انتفض الشيخ عبد الصبور مخلصاً نفسه من بين يدي هذا الوحش المقرف:
"استغفر الله العظيم ... أتخشى الناس والله أحق أن تخشاه؟"

همّ جلا القصباني بالمغادرة وهو يقول :
"لن تفهم أبداً .. إن خفت الله فإني أخاف أن يُسائلني هو، وليس نائب عنه، أما القانون فهنالك الكثير ممن يمثلون القانون في الأرجاء. ولكن الله واحد فقط. ابتعد عن طريقي لقد عكّرت صفو يومي."

في الجهة الثانية، ومن ناحية ما من مدينة نصر، كانت سيدة ما تحكي لصديقتها في العمل عن رجل مُشعر مثير وكيف أنها لم تتوقع أن يُعاكسها أحدهم رغم أنها تجاوزت الثلاثين من عمرها !!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى