الثلاثاء ٤ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٧
بقلم حسيب شحادة

فذلكة حول إعداد عربيّ المستقبل

صورة العربي السلبية

صورة العربي جدّ قاتمة في أيامنا هذه، بل ومنذ مدّة طويلة قد تكون بدايتُها سنة 1492، حيث هوى حجر الزاوية الرئيس في صرح الحضارة العربية إثر طرد العرب من الأندلس. ولفظة ”العربي” تكاد تكون مرادفةً للعديد من المعاني السلبية المعبّر عنها في العالَم الغربي عامة وفي الولايات المتّحدة الأمريكية خاصة بألفاظ شتّى مثل: همجي، إرهابي، لا يعوّل عليه، انفعالي، سلبيّ، متطرف، صاحب المال والجِمال. والدول العربية، التي يزيد عددها عن العشرين، ليست بأوفرَ حظّاً من شعوبها المقموعة والمقهورة على أمرها، فهي ما زالت بعيدة عن النظام الديمقراطي والحريات على أنواعها والأحزاب والمؤسسات المدنية ما زالت شبه غائبة. ملوك هذه الدول وأمراؤها وسلاطينها ورؤساؤها المعيّنون أو الوارثون أو المنتخبون بنسب، تصل ، في الغالب الأعمّ، إلى تسعة وتسعين بالمائة، ولا مثيلَ لهم في أية دولة من دول القارّات الخمس، فهم لا يتنحّون عن عروشهم وينزلون عن كراسيهم الوثيرة إلا بسبب الوفاة الطبيعية أو التصفية الجسدية وبعد أن يكونوا قد أعدّوا واحدا من فلذات أكبادهم لخلافتهم. وإنصافاً للحقيقة لا بدَّ من استثناء قطر واحد في هذا الوصف للوضع المزري وهو لبنان. أضف إلى ذلك المرض الوراثي وهو التشرذم المستشري في جسد وروح هذه الدول الواهنة التي لا يُحسب لها أيّ حساب في هذا العالم الحديث الذي يسير إلى التكتلات العسكرية والاقتصادية وبخطى العولمة التكنولوجية العملاقة. الحكّام العرب في وادٍ وشعوبهم في واد آخرَ وكلّ في غيّه يعمه

ضرورة الإصلاح

يبدو أن العالم الغربي لا يذكر أي شيء عربي إيجابي، اللهمّ سوى المصطلح، الأرقام العربية التي هجرها المشرق العربي مستبدلا إياها بما يُدعى بـ”الأرقام الهندية أو الغُبارية” وتبنّاها العالَم بأسره. وجامعة هذه الدول العربية لا تقوى على إنجاز أي مشروع ذي بال بسبب الحالة العربية العامّة، التقهقر والخمول والمحسوبيات والروح القبلية والعائلية والطائفية والانفرادية والانهزامية والعجز الصارخ في التغيير الجذري والمدروس، أكان ذلك مرحليا أم دفعة واحدة. وفي الآونة الأخيرة كثُر الحديث واللغط حول ضرورة الإصلاح في شتّى ميادين الحياة في العالم العربي، وتفاقم الجدل حول إصلاح حسب رؤى وأجندات من الخارج، أمريكا وأوروبا، أم من الداخل، أي من الدول العربية المعنية نفسها وتمشياً مع أوضاعها وظروفها الذاتية. لا يظّن أي عاقل بأن مثل هذه الإصلاحات الجذرية في دمقرطة العالم العربي، حيث نصف سكانه تقريباً من الأميين، وعقلنة كافة ميادين العلم والمعرفة المخرقنة وفصل الدين عن الدولة يمكن تحقيقُها في المستقبل المنظور. بادىء ذي بدء، قادة الثلاثمائة مليون إنسان عربي، هم آخر مَن يسعون بجدّ لمثل هذه ”الهزة الأرضية” المجلجلة لأنها تعني خسارة السلطة، العرش والكرسي بالنسبة لهم ولذراريهم من بعدهم. سيادة القانون وتساوي جميع شرائح المجتمع العربي أمامه وقيام السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية بمهامّها بالشكل الصحيح وبشفافية إلخ. من هذه الخيرات العظام التي ينعم بها عرب الشتات ويحلم بها عرب العالم العربي ما زالت كلُّها تقريبا حبراً باهتا على ورق أصفر
ما الحلُّ؟ التربية ثم التربية ثم التربية

ما هي الطريق الصحيح والممكن لتغيير هذا الوضع العربي المزري والبائس حتى النخاع على كافّة الأصعدة؟ نرى أن الطريق الوحيد هو التربية ثم التربية ثم التربية. من الثابت علمياً أن حوالي نصف ذكاء الطفل يتبلور في غضون الأعوام الخمسة الأولى من حياته والسؤال الجوهري الذي يطرح نفسَه بإلحاح هو: هل العائلة العربية عامّة والأم العربية خاصّة، ذات كفاءة فكرية وثقافية وروحية ونفسية تؤهلها للقيام بتربية طفلها ورعايته، وفق الأطر العلمية السليمة في عصرنا هذا ليصبح عضوا صالحا وحرا وفاعلا في هذا المجتمع المعولم؟ نحن في عالم قاسٍ فيه القدح المعلّى للكيفية لا للكمية، ”عدّي رجالك عدّي”، وقطار التقدم الفكري والتكنولوجي سريع جدا، يمتطيه ذوو الههم العالية ولا ينتظر المتقاعسين المترددين والمتقوقعين في عباءات الماضي والغيبيات والظواهر الصوتية والجدل الدائري العقيم. في الواقع يجب أن تبدأ عملية إعداد المولود الجديد للحياة المنتجة منذ كونه جنينا في أحشاء والدته بواسطة مراعاة المبادىء الصحية الملائمة. دور الأم المحوري في التربية لا يحتاج إلى أي برهان أو دليل، كما أن إسهام المرأة أو الزوجة في تفجر عبقرية الرجال العظماء في التاريخ الإنساني جليّ على مرّ العصور، وينظر مثلا في الكتيب ”المرأة في حياة العظماء لإبراهيم المصري والصادر ضمن سلسلة دار الهلال بالقاهرة عام 1961

وقد تبين في الأبحاث النفسية الحديثة أن نقل الرضيع مثلاً من ركن معيّن في المنزل إلى مكان آخر كل فترة قصيرة أمر ضروري وذلك لإتاحة المزيد من الفرص أمامه لاكتساب الخبرات المختلفة عبر حواسّه. إتاحة الفرص على الدوام لتعريض الطفل إلى صور كثيرة ومتنوعة من الحياة والطبيعة والأشخاص تساعد في تنمية قدرات الطفل العقلية والروحية. في الركود جمود وفي الحركة والتغيير تجديد وانفتاح دون حدود. وهناك سلسلة من الشروط الواجب اتّباعها في العملية التربوية التعليمية البيتية فدار الحضانة فروضة الأطفال فالمدرسة الابتدائية الخ. على الدولة العصرية المخلصة أن تضع موضوع التربية والتعليم في أعلى سلم أولوياتها لإنشاء مجتمع حضاري ينتزع مكانته انتزاعا بين الدول الراقية في هذا العالم، الذي لا يقيم أي وزن أو حساب للدول الضعيفة اقتصاديا وعسكريا والمتأخرة علميا وثقافيا. ودور البيت وبالأخصّ الأمّ هام جدا في تشييد المدماك الأول في هذه العملية التربوية الثقافية المتجددة واللامتناهية، وهذا يعني، بطبيعة الحال، أن تكون الأمّ متعلمة لا بل ومثقفة إلى حدّ مقبول، وشتّان ما بينهما، لتنشئة بناتها وبنيها على أحسن وجه ممكن. بعبارة أخرى، نحن نسعى منذ البداية إلى خلق طبقة اجتماعية متعلمة ومثقفة، وهذا استثمار بعيد الأمد ولا بدّ من الشروع به بأسرع وقت ممكن فاليوم خير من غدا،

العقلنة

وفي هذه العُجالة أنوي التركيز على نقطتين اثنتين فقط اعتبرهما الأهم في هذا الموضوع، ويمكن الإشارة إليهما باللفظة العربية المستحدثة ”العقلنة”، من ناحية وباللغة وعاء الفكر والوجدان ووسيلتهما من ناحية ثانية. وفي الحقل الدلالي لهذه ”العقلنة” تندرج عدة مفاهيم مثل ”الموضوعية. المنطق، التعليل والتفسير، الاستنباط، ربط الأمور، قوة الملاحظة، النقد البنّاء، طرح الأسئلة المناسبة والصحيحة في السياق الملائم، تمرّس وشغف في البحث عن المعرفة” وكلها هامة وضرورية جدا في العملية التربوية العصرية والناجحة. إن أي منهج تعليمي وتربوي يعتمد على مثل هذه اللبنات قولا وعملا سيؤدي، لا محالة، إلى إنشاء جيل عصري يكون في مقدوره الانتاج النوعي والتفريق بين الغث والسمين من الآراء والأخبار والسلوكيات التي تعج بها وسائل الاتّصال المرئية والمقروءة والمسموعة. لا شيءَ يأتي من فراغ أو يمنح دون مجهود، ومن الواجب على كل جهة رسمية أو شعبية في الدولة العصرية، أن تقوم بواجبها على أفضل وجه ممكن، واضعة نصب عينيها ديناميكية الحركة في الدراسة والتجديد والاستفادة من مبدأ التراكمية في التجربة الإنسانية بغية انتقاء أنسب الوسائل والمناهج لتحقيق الهدف المنشود في التربية والتعليم. شعوب العالم الراقية علميا وثقافيا وفكريا، وهي في الغالب الأعمّ، في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية واليابان، لم تصل إلى ما وصلت إليه من رقي وتقدم وازدهار عبر تحقيق المعجزات والعجائب في التربية والتعليم. كما وأنها ليست أيضا ذات قدرة عقلية وفطرية خارقة تفوق شعويا أخرى مثل الشعوب العربية. وهذه النقطة تذكّرني بطرفة كنت قد سمعتها منذ فترة طويلة في القدس ولها دلالتها اللاذعة الخاصة. تقدّم ستّة أشخاص، أمريكي وألماني وفرنسي وبريطاني وياباني وعربي (لنقل لبناني)، بطلب عمل في شركة كبيرة. وفي المقابلة التي أجراها مدير الشركة مع هؤلاء المتقدمين للعمل وقع الاختيار على الأخير، وكان هذا بمثابة صدمة شديدة بالنسبة للجميع وخصوصا للفائز نفسه. وفي مجرى التبرير لهذا القرار المفاجىء ورد ان جميع المرشّحين للوظيفة باستثناء الأخير كانوا قد استعملوا قدراتهم العقلية حتى الثمالة، أما قدرة الأخير فما زالت طازجة، جديدة خلنج

يجب ألا يكون هناك أي مكان أو مكانة لمنهاج التلقين دون الفهم، المعروف بسمعته السيئة ”البصم”، الذي يعرفه كل التلاميذ العرب منذ أجيال وما زال ساريا بنسب متفاوتة في المدارس العربية. لا بدّ من اتّباع أسلوب الفهم والنقد البنّاء ومحاولة الاستقراء والاستنباط بناء على معلومات وفرضيات صحيحة وملائمة مستمدة من مصادرَ موثوق بها بقدر الإمكان. بعبارة أخرى، لا يعقل أن يكون الطفل العربي بمثابة إسفنجة لامتصاص ما يسمعه من تعليمات وأوامر ومعلومات بل عليه أن ينخل ويغربل ويشرّح. هذا لا يعني أن الحفظ عن ظهر قلب محظور كلية، إذ أن هناك بعض الحالات التي يكون فيها هذا النمط التعليمي إلزاميا. على سبيل المثال، يتوجّب على كل تلميذ في مرحلة مبكرة من تعليمه الابتدائي حفظ الجداول الحسابية الأربعة، الجمع والطرح والضرب والقسمة حتى الرقم الثاني عشر. والأمر ذاته ينسحب أيضا بالنسبة للصلوات والأشعار والأغاني، إلا أن ذلك كله ينبغي أن يكون مبنياً على الفهم والقناعة الذاتية. لا يُعقل أن يردد الواحد أبيات شعر أو صلوات وهو لا يفقه ما يتفوه به. عملية التحديث الجادّة، عليها أن تمسّ عقل العربي أولا وأخيرا. ومن يسعى دائما وراء الماضي ليعدد الأمجاد الجليلة عليه أن ينظر أيضا إلى الأمام ويحذو حذو السلف الصالح وآراء المعاصرين الأفذاذ مهما كانت جنسياتهم. من هذا السلف الصالح الجدير بالاحترام والاحتذاء به أبو بكر محمد بن زكريا الرازي المتوفى عام 923 والذي رأى في العقل أساسا للعلم والمعرفة والمعيار للحكم النزيه.

اللغة والهوية والكيان

والنقطة الثانية الهامّة في هذا الصدد، كما نوهنا، هي اللغة. الأسرة العربية في مجال تعليم بناتها وبنيها لهجاتها المحكية في البيت تقوم بواجبها خير قيام تقريبا. من الثابت علميا أن التحدث إلى المولود منذ يومه الأول يؤدي بالتالي إلى تسريع بداية مقدرته على النطق والتعبير عمّا يحسّ به ويكون ذلك عادة في أواخر السنة الثانية من عمر الطفل. في عملية التلقين اللغوي هذه يشترك أفراد كثيرون في المجتمع العربي، الذي ما زال في معظمه محافظا والعلاقات بين الأهل حميمة، الوالدان، أشقاء وشقيقات، الجدان والجدتان، الأعمام والعمات، الأخوال والخالات والجيران والأصدقاء. ومن الملاحظ أن هؤلاء الكبار المتحدثين إلى الطفل يستعملون في أحيان كثيرة ألفاظا طفولية مثل: بح، دح، نح، إمْبو، واوا، ننّا، نونو، أحّو، ككّا الخ. في اللهجة الفلسطينية الجليلية، ومن الأفضل استعمال طريقة الحديث العادية لكل فرد، وتوخي الواقعية والصدق وتجنب عملية ”التدليع” غير الموفقة هذه كما يجب عدم لجم خيال الطفل باستخدام ألفاظ غيبية مثل ”حرام، عيب”. الطفل يتكلم بما يعرفه ويناسبه وفق آلية ذهنية ما زال العلم الحديث قاصرا عن معرفتها ووصفها بشكل كامل ودقيق، والبالغون يجب أن يستعملوا لهجتهم، الشخصية

إن الاهتمام المفرط بالطفل والخوف غير المبرر عليه يحدّ في آخر المطاف، من حريته واستقلاليته ولا يفسح المجال أمامه كي يشقّ طريقه ويحاول التعرف على أشياءَ وخبرات جديدة وبلوغ ما يريده بنفسه إذا أمكن. كما أن جعل الطفل مركز اللقاءات العائلية، كما هي الحال غالبا في الأسر العربية، لا يسهم في بناء شخصية حرّة مستقلة وخلاقة بالقدر الكافي في المستقبل البعيد

لغة الأم بالنسبة لكل عربي هي لهجته المحلية وعليه الشروع في تعلّم اللغة العربية الفصحي الحديثة منذ التحاقه بالصف الأول الابتدائي، وشتّان ما بينهما من حيث الصرفُ والنحو وعلم الدلالة. ومن المعروف أن هناك مستويات مختلفة في اللغة العربية الحديثة كما يتجلى ذلك في كتاب محمد السعيد بدوي، مستويات العربية المعاصرة في مصر، دار المعارف بمصر 1972، وتوجد أهمية بارزة بالنسبة لما يُدعى بالعربية الأدبية، إذ أنها الوسيلة الأساسية لاكتساب العلم والمعرفة والتواصل بالحضارة الانسانية قديما وحديثا. وهذا يعني وجوب السعي الجادّ بغية السيطرة على هذه اللغة سيطرة طيبة في المهارات اللغوية المعروفة، القراءة والفهم والتحدث والكتابة. إن فكرة معرفة كل شاردة وواردة، وما أكثرها في قواعد لغة الضاد بمدارسها النحوية المتباينة، لا سيما البصرية والكوفية والبغدادية، يجب ألا تشغل بال أي طالب عادي يود على سبيل المثال، الالتحاق بالمؤسسات التعليمية العليا لدراسة الطبّ أو العلوم الطبيعية أو الاجتماعية. على الإنسان العربي أن يعي بأن معرفة اللغة أية لغة كانت ليست، في واقع الأمر، هدفا في حدّ ذاته، بل وسيلة لهدف آخر، هو مثلا، التعبير عن الفكر والوجدان والتواصل بين بني البشر وفهم الفلسفة العربية في القرون الوسطى أو الشعر الجاهلي أو القرآن الكريم إلخ أو حتى معرفة تركيب قطعة أثاث جديدة في المنزل. اللغة هي هوية الإنسان وكيانه ومرآة الثقافة. غني عن البيان، أن الإنسان العربي المثقف بحاجة ماسّة لمعرفة لغة عالمية واحدة على الأقلّ، مثل الإنجليزية أو الألمانية أو الفرنسية وذلك لمواكبة التقدم المذهل في أغلبية أنماط العلم والمعرفة. ولا نشكّ لحظة أن الإنسان العربي الجديد ذا التوجه العقلاني الصادق الحرّ والنقدي وفيه الروحانية الشرقية السامية السمحة المتجلية في تراثه الثري لقادر في الإسهام من جديد في حضارة أخيه الإنسان في عصر العولمة هذا وما يليه


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى