السبت ٢٢ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٧
بقلم نازك ضمرة

رحلــة طويلــة

اليوم عيد! مضى عليه مائتان وواحد وأربعون يوما في هذه البلاد وهاهو اليوم يحاول تأمل حاضره مع الناس الذين حوله، ومراجعة ماضيه. ثمّ ماذا يعني عيد الأضحى بالنسبة له؟ وما معنى العيد، أي عيد في نظره أولا وقبل كل شئ ؟

إذا لم تعرف نفسك، فكيف تفكر للناس؟ ثم كيف سيقرؤك الآخر، وإذا لم تكن أنت نفسك مقتنعا بما تفعل فكيف تتوقع من الآخرين أن يقتنعوا بك أو بما تقدمه لهم؟ الساعة تقترب من الحادية عشرة صباحا، صحا متأخرا هذا اليوم، يصحو مبكرا في العادة، يفكر في الأمور التى تجعله يغالب المرور البطيء للزمن، "يا إلهي! سهرت حتى الثالثة صباحا لكي أنام طويلا وبعمق، وعندما أصحو يكون أغلب النهار قد مرّ، ما زالت الساعة العاشرة صباحا، والشمس تغيب قرب الثامنة مساء، معنى ذلك عشر ساعات على الأقل بقيت على غروب شمس هذا اليوم…أهو اليوم فقط؟، لو كان الأمر يوما أو يومين، أو حتى شهرا أو شهرين لهان الأمر"
كالواقع في مكيدة قانونية خطيرة، تفتقد أدلة البراءة، فيبقى قابعاً في الحجز ودون محاكمة، فلا هو عارف أنه بريء ولا هو محكوم عليه ليعرف مدة الحكم بحبسه، وليس ذلك فقط، بل كيف سيقضي فترة الحكم بالسجن؟ المهم أنه يريد أن يفكر كيف يقضي الوقت هذا اليوم حتى لا يحس الملل المهين. غداً يصادف اليوم الأول لعيد الأضحى وهنا.!، "ماالذي يجب أن أفعله؟ لسنا في مدينة عربية نفعل كما هي العادة، فيبدأ الرجل بزيارة بناته وأخواته ومن ينطبق عليهم صلة الرحم، ثم زيارة الكبار والمرضى من الأهل، فماذا علينا أن نفعل هاهنا؟"، لم يسمع أن أحدا من أنسبائه أخذ إجازة بمناسبة العيد، ولا عطلت امرأة من آله أولادها عن المدرسة، اتصل بببعضهم قبل قليل، فعرف أن الجميع مشغولون، وغير متواجدين في بيوتهم.

فراغ يشبه المتاهة وأسئلة كبيرة محيرة! تحس بضيق نفس، أو لنقل هو اختناق وأنت في مثل هذا الأتساع ؟ ولنفرض أنك في بلد عربي فكيف ستحسّ ؟ ستفكر في أمور كثيرة منغصة، لست وحدك الذي يفعل ذلك، إنه كل من عرفت وقابلت في أي قرية أو مدينة، ربما كانت شكوى الريفي أقل حدة، بل شكاواه ذات طبيعة مختلفة، فيها قناعة ومحددة، لكنها الطموح والتوسع في شكاوى أهل المدينة في بلد عربي، لا تسأل عن موسم الزيتون أو حصيلة القمح أو حليب البقرة، بل ما ينغص هي تفاصيل العصر ومتطلباته، يتوه بها العدّ ومن ضمنها الطعام ومتطلبات واللباس والفواتير الكثيرة والأمان والديمقراطية والاستثمار والأيام (الجميلة) التى تتوقع أن تقضيها في سنوات تقاعدك، وقبل موتك والموت قادم لا محالة، فهل سترى نفسك حرا متجولا ؟ وكما يروق لك؟ وكما تستطيع أن تفعل وترى حولك هاهنا ………؟!

تنفذ خيوط نحيفة ضعيفة من أشعة الشمس من بين الشقوق التي في الستارة البلاستيكية المدلاّة على النافذة في غرفتك، الحياة هنا متشابكة مثل ستارة غرفة نومك، الشرائح مرتبة ترتيبا دقيقا ومترابطة بخيوط لا تعلم قوتها من ضعفها، إن انقطع أحد الخيوط انفرطت كلها أو قلت جدواها، وما دام هناك أشعة شمس تستطيع النفاذ لغرفتك فقد صدق المتنبئ الجوي، قالوا ليلة الأمس أن الجو سيكون مشمسا ودافئا، ثم أضافوا (هنيئا لكم شمس نيسان اوالربيع والزهور، تمتعوا واملأوا صدوركم بالهواء المنعش، و متعوا أنظاركم بمرأى الربيع والزهور التي تنمو وتظهر في كل مكان حولكم، بدلو ملابسكم واكشفوا الكثير من أبدانكم، وعرضوها للشمس للنسيم، وتنشقوا الهواء العليل، أملأوا صدوركم به، وسيحوا وتنعموا في الأرض!، استمتعوا بجمال أجسادكم وبكل ما في الطبيعة حولكم)
لم تتناول طعام الإفطار كالعادة يوم أمس، فكافأتك ربة البيت بغداء فخم، ساهمت في العمل وساعد ت، بل قمت أنت بإنضاج اللحم المشويّ على الفحم، كنت تحب مثل هذه الأمور في صباك، بل كنت المحترف والمشهود لك،
"هل تذكر حين كنت تعزل قطعة لحم كبيرة سميكة من بقر تكساس، بل وتختارها من محل الجزار ولو غلا ثمنها، لاتصدق نفسك الان! لم تكن لتقل عن الكيلو وزنا، قطعة واحدة تشويها على الفحم بعد أن يكتمل اشتعاله، ويبدأ الرماد الابيض يتراكم على أعلاه، وقتها تبدأ بوضعها على النار، تقربها من وسط النار لدقائق، ثم تعود لتبعدها عن البؤرة لدقائق أخرى، وهكذا حتى تنضج اللحم دون احتراق، ولا تنسى إضافة بعض البهارات والصلصات الخضرية تدهنها بها بين الحين والآخر، حتى تحميها من شدة الحرارة ولتضيف نكهة مميّزة لها".

تودّ لو تجلس في الفضاء الواسع المشرق، تخشى البرد، لا تحب البرد، ولا حتى الحرّ، تمتد يدك الى زر النور لتشعله، تتمنى أن تختطفك كهرمانة إلى تكساس، تجتثك زلزلة، تتراقص في رأسك، مركز الزلزال في أعلى رأسك، لا تدري ماذا حصل لك، تتمنى لو تستطيع أن تطلب النجدة، أو لعل أحدا من أهل البيت يحضر ليراك، هل هي سكرات الموت، تحس بارتخاء وبرغبة في النوم والاست ومتطلبات رخاء، كأنه الدوار، تحملك أجنحة رقيقة قوية، تبعد شرائط الستارة وتنسل بك محلقة في الفضاء الرحب، أصبحت ترى وتحس ما يجري لك، إنها هي، كهرمانتك التى تمنيت، تأخذك الى مكان بعيد، يا ألهي تقترب بك من الشمس، تقول كعادتك
 أكره الشمس ياسيدتي! أرجو أن لا تكوني من طائفة عبدة الشمس، أن كان ذلك فسأكون أشد البشر كفرا بكم وبمعتقداتكم، تلمسني برفق، يد تتحسس صدري بشيء من اللهفة، لكنها الترفق وكأنه المساج، ما أوسع العالم الذي أنتقل أليه، ليتني أستطيع وصفه ، طلبت مني أن لا أخاف، وحتى أمارس الحياة بشكل طبيعي علي أن أجتاز أنبوبا طويلة للتكيف والفحوصات، قلت لها أنا لآ أحب الشمس ولا الظلام ولا الدكتاتورية ولا الجوع، لم يسعفني النطق لأقول لها أنني خائف من تلك الرحلة ومن صحبتها ومن الفضاء الواسع حتى ولو انه جميل، تصبرت وحاولت أن أكون صلبا وصامدا، قلت لنفسي "عانيت وتعذبت كثيرا في ما مضى من عمرك، فأضف هذه المرة للقائمة الطويلة"، لم أعد أشعر بالزمان ولا المكان، كل شيء أصبح مختلفا بالنسبة لي، ولا أستطيع وصفه او تصوره، أفلاك تدور ودواليب متماسكة مترابطة، مياه تتجمع وأخرى تنزل، أناس يذوبون، وآخرون يتشكلون، كنت أتوقع دماء وأمراضا، لكنني لم أر شيئا من ذلك، حتى أن أكل الناس هناك من الهواء، لا يذبحون حيوانات ولا طيورا ولا يقتلون بشرا، لا أعداء ولا أحكام جائرة، وإذا أختلف اثنان يتصارعان حتى يذوبا، فلا يبقى أثر منهما، لا تدري أيهما الظالم وأيهما المظلوم، وحين استفسرت عن ذلك قالت لي الحورية بحنان يكاد يجعلني أدوخ وأتوه ثانية، صوت موسيقى ملائكي، كما صوروه لنا في الكتب، وبصراحة لم يصدف أن قابلت ملاكاً، ولا أتوقع ذلك، ولم يصدف أن سمعت عزفا ملائكيا، لكن صوتها المصحوب بسمتها ونظرات عينيها البراقتين، ذكاء وقدرة تشع منهما، وحين اقتربت مني لتحادثني كالهمس، وقعت نظراتي على براءتها وصدرها وجسدها الذي زال عنه كل غطاء أو لباس، فهمت أنني كنت سأسأل عن سبب ذاك العري الساحر، أوعلى الأقل فلتغط الكرتين النافرتين، قالت
 لا تقلق، دخلنا حدود عالمنا، وهكذا سترى الجميع، أخترتك أنت من دون البشر لترى عالمنا الذي تعودنا عليه، ولا نفكر بغيره بديلا
أكملت حديثها الذي أحالني الى ركام بلا شكل ولا لون أو ربما بأحساس مضطرب، قالت
 هل ما زلت تريد الاستفسار عن تطاير الشخصين اللذين كانا متصارعين مختلفين؟
هززت رأسي بلا وعي حقيقي، والصورة تزداد غموضا في عيني، بل صرت أفقد استقرار الصور أمام ناظري، كمن يفتقد نظارتيه اللتين اعتاد عليهما، المهم فهمت ما أردت فقالت
 عالمنا يعاقب المختلفين بعد أن ينهكا نفسيهما، فيزولان وينمحيان من هذا العالم الفسيح الذي ترى، فلا محاكمة ولا شهود ولا ظالم ولا مظلوم، هما يختلفان وهما يختصمان وهما ينتيهان.

كدت أن لاأسمع كلماتها الأخيرة، فقد أدخلت الى أنبوب الاختبار الطويل، حاولت التملص والمقاومة، لكن القرارات حازمة هناك ونهائية، وما إن أطل رأسي أذا بيد تتلمسه برفق، كدت أقابلها في الطريق بتقبيل تلك الأصابع، ولكن وجهها كان أقرب، فتحت عيني جيدا أتأمل ذلك الجمال الفاتن، وإذا بيد حفيدي تمتد بالهاتف النقال تناولني إياه طالبا مني الرد على المكالمة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى