السبت ١٣ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٧
بقلم إدريس بن خويا

فاعلية الحوار الأسري ودوره في تنشئة الطفل.

إن الضوابط الأساسية لتنمية المرء إنما تتكون في سنوات مرحلة طفولته وهي السنوات الأولى في حياته التي تكون فيها النفس البشرية مرنة قابلة لكل شيء، منفعلة بكل أثر؛ إذ إنها في تلك المرحلة الدقيقة كالصفحة البيضاء الخالية من كل نقش وصورة، ولكنها على الفطرة السليمة، والبراءة الطاهرة.

وقد أشار الرسول  بقوله: كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجّسانه1. لذا أوصى الرسول  الآباء والمربين باغتنام هذه الفرصة الحساسة ذلك الاغتنام الحسن المحمود، بتعليم الطفل سبيل الحق والخير والرشاد وتوجيهه نحو ما ينفعه في دنياه وآخرته.

لكن - وبكل أسف - نلحظ تقصيراً ظاهراً بائناً في تحمل هذه المسؤولية، وأداء هذه الأمانة نتيجة تلك الثغرات الواضحة، والأخطاء الفادحة، التي تعود في مجملها إلى أسباب، منها: سوء التربية البيئية، ومغالطات المناهج التعليمية، والتباس كثير من الظروف البيئية، حتى تحولت التربية في زماننا هذا إلى مجرد تلقين للمعلومات، وحفظ لبعض الأفكار والعبارات، دون أن تدخل حنايا القلوب، وتتخلل ثنايا النفوس، وتطبق فعلاً أو سلوكاً في أرض الواقع2.

وإذا أردنا أن نفكك العنوان بدءا من الطفولة فهي مرحلة مهمة - بلا شك-؛ إذ إنها المرحلة الأساسية في بناء شخصية الفرد، من فترة الميلاد حتى البلوغ، وتستخدم أحياناً لتشير إلى الفترة الزمنية المتوسطة، بين مرحلة المهد، ومرحلة المراهقة والتحديد بالمعنى الثاني يستثني فترة العامين الأولين من حياة الطفل؛ وهي مرحلة المهد.

ويمكن تقسيم مرحلة الطفولة إلى فترتين متميزتين3:
 مرحلة الطفولة المبكرة: وهي من 2 إلى 5 سنوات؛ وفيها يكتسب الطفل المهارات الأساسية مثل المشي واللغة بما يحقق قدراً كبيراً من الاعتماد على النفس.
 مرحلة الطفولة المتأخرة: وهي من 6 إلى 12 سنة، وتنتهي إلى بلوغ الطفل ودخوله في مرحلة مختلفة كثيراً عن سابقيها؛ وهي مرحلة المراهقة.

إنَّ الأسرة هي المؤسسة الأولى والأساسية من بين المؤسسات الاجتماعية المتعددة المسؤولة عن إعداد الطفل للدخول في الحياة الاجتماعية، ليكون عنصراً صالحاً فعّالاً في إدامتها على أساس الصلاح والخير والبناء الفعّال. والأسرة نقطة البدء التي تزاول إنشاء وتنشئة العنصر الإنساني، فهي نقطة البدء المؤثرة في كلِّ مراحل الحياة إيجاباً وسلباً، ولهذا أبدى الإسلام عناية خاصة بالأسرة المنسجمة مع الدور المكلفة بأدائه، فوضع القواعد الأساسية في تنظيمها وضبط شؤونها، وتوزيع الاختصاصات، وتحديد الواجبات المسؤولة عن أدائها، وخصوصاً تربية الطفل تربية صالحة وسليمة متوازنة في جميع جوانب الشخصية الفكرية والعاطفية والسلوكية. ودعا الإسلام –كذلك- إلى المحافظة على كيان الأسرة وإبعاد أعضائها من عناصر التهديم والتدمير ومن كلِّ ما يؤدي إلى خلق البلبلة والاضطراب في العلاقات التي تؤدي إلى ضياع الأطفال بتفتيت الكيان الذي يحميهم ويعدّهم للمستقبل الذي ينتظرهم4.

وجاءت تعليمات الإسلام وإرشاداته لتخلق المحيط الصالح لنمو الطفل جسدياً وفكرياً وعاطفياً وسلوكياً، ونموّاً سليماً يطيق من خلاله الطفل أو إنسان المستقبل مقاومة تقلبات الحياة والنهوض بأعبائها، ولهذا ابتدأ المنهج الإسلامي مع الطفل منذ المراحل الأولى للعلاقة الزوجية مروراً بالولادة والحضانة ومرحلة ما قبل البلوغ وانتهاء بالاستقلالية الكاملة بعد الاعتماد على النفس.

فالعلاقات الأُسرية لها دورٌ كبير في توثيق بناء الأسرة وتقوية التماسك بين أعضائها ولها تأثيراتها على نمو الطفل وتنشئته، وإيصاله إلى مرحلة التكامل والاستقلال؛ وذلك باعتبار أنّ الأجواء الفكرية والنفسية والعاطفية التي تخلقها الأسرة للطفل تمنحه القدرة على التكيّف الجدّي مع نفسه ومع أسرته ومع مجتمعه5.

ومن هذا المنطلق، فإنّ الأسرة هي بحاجة إلى منهج تربوي ينظم مسيرتها، فيوزع الأدوار والواجبات ويحدّد الاختصاصات للمحافظة على تماسكها المؤثر في انطلاقة الطفل التربوية.

فالأسرة، إذن، هي الوحدة الاجتماعية الأولى التي ينشأ فيها الطفل ويتفاعل مع أعضائها، وهي التي تتسم بالقدر الأكبر من الإشراف على نمو الطفل وتكوين شخصيته وتوجيه سلوكه. بل هي الحصن الذي تنمو فيه بذور الشخصية الإنسانية وتوضح فيه أصول التطبيع الاجتماعي6، أو هي شكل اجتماعي يتميز بطابع ثقافي يختلف من مجتمع لآخر؛ بحيث إن هذا النظام الثقافي في الأسرة يعمل على تلقين وطبع، ثم تنشئة الفرد منذ نعومة أظافره.

إن هذه التنشئة، هي بمثابة عملية تشكيل وإعداد أفراد إنسانيين في مجتمع معين، وفي زمن معين، وفي مكان معين حتى يستطيعوا اكتساب المهارات والقيم والاتجاهات وأنماط السلوك المختلفة التي تسيّر لهم عملية التعامل مع البيئة الاجتماعية التي ينشئون منها أفراداً.

ولا تتم تلك التنشئة إلا عن طريق التفاعل الدائم مع البيئة الاجتماعية التي يتواجد فيها؛ ألا وهي الأسرة التي تحدد له أهم المواقف الاجتماعية التي يقابلها إبان سنوات طفولته، ومدى تفاعله مع هذه المواقف ومعايير توافقه فيها.

وتترتب علاقة الطفل في داخل الأسرة على عوامل كثيرة، من أهمها: الحاجات البيولوجية في المراحل الأولى من حياته، وكلما تقدم في السن ظهرت أهمية حاجات أخرى مرتبطة بهذه الحاجات البيولوجية مثل: الاعتماد على النفس، وامتلاكه لطريقة التعامل مع الآخرين.

ويتفق جل العلماء – عموماً- على أهمية الأسرة في تنشئة الطفل، والتي من خلالها يستطيع الحصول على أهم احتياجاته النفسية؛ وهي الشعور بالحب والأمان، وأنه مقبول ومرغوب فيه7.

كما اهتم المختصون بالطب النفسي وحديثاً بالعلاقة بين نوعية رعاية الوالدين بالطفل في سنواته الأولى، ومستقبل صحته النفسية والعقلية؛ فمن الضروري لذلك أن يمارس علاقة مستمرة مليئة بالدفء والألفة مع أمه تلك العلاقة التي تتحقق معها السعادة والرضى بين الطرفين بأن لها الأولوية، أو هي الأساس لتشكيل الشخصية السليمة والعقل الصحيح8.

ومن ذاك، أن الأسرة هي التي تساهم بالقدر الأكبر في الإشراف على نمو الطفل وتكوين شخصيته، وتوجيه سلوكه. فمن خلال تلك العلاقات الأولية الحوارية التي يقوم بها داخل أسرته وباشتراك الأبوين ينمي خبرته عن طريق الحب والعاطفة والحماية، ويزداد حينها وعيه بذاته؛ وهذا باعتبار أنه من واجبات الوالدين إشاعة الودّ والاستقرار والطمأنينة في داخل الأسرة، حيث يقول المولى عز وجل : وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمُ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً9.

فالعلاقة بين الزوج والزوجة أو الوالدين علاقة مودّة ورحمة وهذه العلاقة تكون سكناً للنفس وهدوءاً للأعصاب وطمأنينة للروح وراحة للجسد، وهي رابطة تؤدي إلى تماسك الأسرة وتقوية بنائها واستمرار كيانها الموّحد، وتؤدي المودّة والرحمة إلى الاحترام المتبادل والتعاون الواقعي في حل جميع المشاكل والمعوقات الطارئة على الأسرة من حين إلى حين، وهي ضرورية للتوازن الانفعالي عند الطفل10. يقول الدكتور سپوك: "اطمئنان الطفل الشخصي والأساسي يحتاج دائماً إلى تماسك العلاقة بين الوالدين ويحتاج إلى انسجام الاثنين في مواجهة مسؤوليات الحياة"11.

كما يجب على الزوجين إدامة المودّة في علاقاتهما في جميع المراحل؛ أي بداية من مرحلة ما قبل الولادة وصولاً إلى المراحل اللاحقة لها، والمودّة فرض من الله تعالى؛ فتكون إدامتها استجابة للمولى -عزّ وجلّ- وتقرباً إليه12.

ولابد إذن، من التطبيع الاجتماعي الذي عن طريقه يوجه الطفل لكي يسير على نهج حياة أسرته، والجماعات الاجتماعية الأكبر والتي يجب أن ينتمي إليها ويسلك في غمارها بصورة مناسبة، وبذلك يصبح في النهاية مؤهلاً سلفاً وجديراً لدور الراشد الناضج؛ باعتبار أن الأسرة هي المسؤولة الأولى عن تكوين ونمو الضبط الكامن لدى الطفل13.

ويصف "جبرم كاجات" ميكانيزمات التطبيع الاجتماعي على النحو الآتي14:
  الرغبة في الحصول على التعاطف والاحترام.
  السعي لتجنب الأحاسيس والمشاعر غير السارة والمتولدة عن طريق عقاب أو رفض الآخرين.
  الرغبة في أن يكون مماثلاً لأفراد معينين نشأ الطفل على احترامهم ومحبتهم والإعجاب بهم؛ أي ما تسمى بمرحلة التطابق.

وبالتالي، فإن الأسرة هي بمثابة الوعاء الثقافي الأول الذي يشكل حياة الطفل بما فيها من علاقات وأنماط ثقافية تعبِّر عن الثقافة الأم.

وتتمثل الوظيفة التربوية للأسرة في ناحيتين أساسيتين15:
1-إنها الأداة لنقل الثقافة والإطار الثقافي إلى الطفل، فعن طريقها يعرف ثقافة عصره وبيئته على السواء، ويعرف الأنماط السائدة في ثقافته.
2-إنها تختار من البيئة الثقافية ما تراه هاماً، وتقوم بتفسيره وتقويمه وإصدار الأحكام عليه مما يؤثر على اتجاهات الطفل؛ ومعنى ذلك، أن الطفل ينظر إلى الميراث الثقافي من وجهة نظر أسرته، هذا إلى أنه يتأثر بنوع الآمال التي تصنعها الأسرة لمستقبلها. فهي تنقل الميراث الثقافي بطريقتها الخاصة، بل أنها تطبع الثقافة عند نقلها إلى أطفالها بصورتها الخاصة، ومن هنا تتكون معالم الطفل وقيّمه، ولا يستطيع أن ينعم بالاستمرار والهدوء في حياته ومجتمعه إلا إذا امتص هذه المعايير والقيّم واعتبرها جزءاً من كيانه.

و يمكننا القول، إنّ الأساليب الحوارية لها دور فعال وأساسي في تنشئة الطفل، بل هي طرق تنمية فكر الإنسان وتنظيم سلوكه وعواطفه، وبناء شخصيته المتميزة لتحقيق صلاحه ونجاحه في جميع مجالات حياته.
وقد امتازت التربية الإسلامية في الماضي والحاضر بكثرة طرقها، وتنوع وسائلها في تنشئة الأطفال والبلوغ بهم إلى حد التمام، واستطاعت هذه التربية المتزنة أن توجه التحديات، وأن تبدد الإدعاءات بأن الإنتاج الفكري الإسلامي يتصف بالتقوقع والجمود، ولا يمكنه مواكبة الأحداث والمستجدات16.

ولقد نص كل من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف على جملة من هذه الأساليب الناجحة التي جاء بها الدين الإسلامي منذ أول ظهور له؛ إما نصاً صريحاً عن طريق استخدامها في ثنايا الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، أو إشارة عن طريقة إيرادها باختصار وإيجاز، ولا نكاد نجد عالماً أو تربوياً أو منهاجاً تعليمياً واحداً - سواء أكان قديماً أم حديثاً - نجح في مثل هذا النجاح الباهر والمشهود له للقرآن والسنة في استخدام الأساليب العديدة والمتنوعة لتنشئة الأجيال وتوجيههم17.

ونجد من تلك الأساليب -أيضاً- القدوة الحسنة التي لها تأثير في النفس والعقل من الدعوة بالقوة أو الاقتصار على مجرد النضج والوعظ.

ومن هنا ينبغي على المربي أن يحمل مسؤوليات وتبعات حق حملها، وأن يكون مثالا حيا لحسن السيرة والسلوك والخلق القويم.

ومنها كذلك، الحوار المباشر والهادئ؛ فالأول ضروري في توجيه الطفل ومخاطبته مباشرة، وبكل صراحة ووضوح، رغم أن التوجيه غير المباشر أحياناً قد يكون أكثر بلاغة، وأشد تأثيراً في النفوس.

فمن فوائد الخطاب أو الحوار المباشر للطفل:
  لفت نظره إلى الحقائق المباشرة من غير التواء.
  إيقاظ ذهنه وشد انتباهه لما يُطلب منه ويُنشأ عنه.
  توضيح الفكرة له بصورة أفضل وطريق أيسر وجهد أقل.
  الإسهام في نمو عقليته وسمو فكره.
  التنوع في أسلوب تربيته وإرشاده.
 
وأما الثاني؛ أي الحوار الهادئ الذي يتمثل في مناقشته حول أمر معين للتوصل معه إلى نتيجة صحيحة، أو إعطائه العبرة لمسألة ما. فإن رسوخ الموضوع فكرة ونتيجة في عقل الطفل وفؤاده يكون أبلغ وأنفع بالحوار الهادئ والهادف، حيث يشجع الطفل على المبادأة ويفجر طاقته الحيوية بشغفٍِ واهتمام، ويكسبه أيضاً الثقة بنفسه، فلا يكون إمعة لغيره في كل حال من الأحوال18.

ومن ذلك، نجد أن التفاعل بكل أشكاله بين الطفل والأم يأخذ أهمية خاصة في نمو قدرات الطفل وتطوره؛ فالتفاعل اللمسي والتواصل البصري، والشمي، والصوتي يؤثر تأثيرا مهما في نمو الطفل من مختلف الجوانب الجسدية والمعرفية والاجتماعية والانفعالية؛ وهو ما تبيّن لنا -من خلال إطلالتنا على بعض البحوث الحديثة- أن التفاعل بين الأم والطفل في المراحل الأولى من حياته نقطة انطلاق مهمة في تطور التواصل اللاكلامي بينهما؛ إذ يستند هذا التواصل إلى الإشارات الجسدية كالتعابير الوجهية المتنوعة والإصدارات الصوتية والتبادل البصري والشمي19.

كما تضطلع الأم -أيضاً- بدور أساسي في تنشئة الطفل؛ فالتنشئة القائمة على المحبة والديمقراطية والتسامح تعزز شعور الطفل بالأمان والثقة بالعالم، ونمو الطفل في جو مفعم بالمحبة والحنان يُفعِّل تفعيلاً كبيراً في تنمية ثقته بنفسه، ومقدرته على مواجهة شروط الحياة، السمحة والقاسية على السواء، بينما تؤدي معاملة الطفل بتشدد ونفور وكراهية إلى التعاسة والشقاء وتجعله ينظر إلى العالم نظرة متشائمة.

ويرى الكثير من الباحثين أن هذه المرحلة تمهد لاكتساب اللغة الكلامية، وأن السياق الإبداعي الذي يؤدي إلى التفاهم والتفاعل بين الأم والطفل، يشكل حجر الزاوية في تطور الطفل اللغوي والمعرفي.
كما تشير - أيضا- تلك البحوث إلى وجود علاقة قوية بين النمو اللغوي عند الطفل ونسبة المحادثة بين الطفل والأم التي تظهر في أثناء النشاطات المشتركة بينهما، ويرجع النمو السريع عند الطفل الأول (البكر) إلى وفرة فرص النشاطات المشتركة بين الأم والطفل الوحيد20.

ويمكننا أن نستثمر أهمية الحوار ونتائجه الإيجابية من خلال تعدد تلك النماذج النصية في القرآن والسنة، ومن أبرزها:
  الحوار الخطابي أو التعبدي؛ ومن أشكاله: الخطاب الموجه للمؤمنين، والتذكيري والتنبيهي، والحوار الوصفي، والحوار القصصي، والحوار الجدلي لإثبات الحجة، والحوار النبوي الذي من أشكاله: التربوي والعاطفي والإقناعي21.

ومن أمثلة الحوار في النص القرآني ذلك الذي دار بين قادة الظلم والباطل، وبين السوقة الذين استسلموا لهم في الدنيا، فحشروا معهم في العذاب المهين22، حيث قال تعالى:  وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءلُونَ، قَالُواْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ، قَالُواْ بَل لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ، وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ، فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَآئِقُونَ، فَأَغْوَيْنَاكُمُ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ 23.

وأما في السنة النبوية؛ فذلك الذي دار بين الرسول  وبين صحابته الكرام -رضي الله عنهم جميعا- في بيان حقيقة المفلس في الدنيا والآخرة، حيث قال الرسول  مخاطبا جلساءه من الصحابة الكرام: أتدرون من المفلس؟ قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال:  إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاته وصيامه وزكاته، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيقعد فيقتص هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقتص ما عليه من الخطايا، أُخذ من خطاياهم فطرح عليه ثم طرح في النار 24.
وهناك حوار تعليمي جميل ومفيد دار بين الصحابي الجليل أبي موسى الأشعري –رضي الله عنه- وبين زوجته أم ولده (أبي بردة) –رضي الله عنهما- الذي روى لنا هذا الحوار فقال: "شهدت أبا موسى وهو ببيت أم الفضل، فعطست فشمَّتها، وعطست فلم يشمِّتني، فلما جئت إلى أمي أخبرتها، فلما جاء أبو موسى قالت له: عطس عندك ابني فلم تشمته، وعطست امرأة فشمَّتها؟!.

فقال:" إن ابنك عطس فلم يحمد الله فلم أُشمِّته ، وإنها عطست فحمدت الله فَشَمتُّها. سمعت رسول الله  يقول: إذا عطس أحدكم فحمد الله فشمتوه، فإن لم يحمد الله فلا تشمتوه25. فقالت أحسنت، أحسنت.

وفي هذه الرواية يتبين لنا أهمية الحوار، وما فيه من تعاليم، وإقرار للحق، والتزام به. فهذه زوجة أبي موسى- رضي الله عنهما- حاورت زوجها وناقشته، فأجابها وأقنعها بالدليل القاطع، وأثنت عليه، وقوفا منها عند الحق، تعليماً لولدها الذي استفاد من ذلك كثيرا، وروى لنا هذا الحديث المفيد والحوار الهادف، والجواب المُجدي والنافع26.

ومن الأساليب النفسية المؤثرة في نفسية الطفل، مصاحبته ومتابعته باستمرار وعدم التقاعس أبدا في الاستفسار عن أصحابه ورفقاء دربه؛ ليتم إرشاده في اختيار الصالحين من أولئك الأصحاب، وتجنب الطالحين منهم27.

ولذلك، فإن من إدخال السرور والفرح إلى نفسية الطفل يتمثل في أمور كثيرة، منها28:
  الاستماع إلى آرائهم وتصويبهم والثناء عليهم.
  ملاقاتهم بوجه بشوش واستقبال دافئ.
  التسليم عليهم أو مصادفتهم ومعانقتهم وتقبيلهم.
  مسح رؤوسهم والدعاء الصالح لهم.
  ملاطفتهم وممازحتهم ضمن حدود معينة.
  الأكل معهم ومشاركتهم في بعض أفعالهم.
  مداعبتهم بلين الكلام.
  مما تؤدي هذه الأمور إلى تعزيز وتنمية ثقة الطفل بنفسه، وعدم شعوره بالنقص والضعف والحرمان.

الحوار إذن، ركن أساسي في النمو النفسي السليم للطفل، كما أنه ضروري للنضج الاجتماعي، فلا يمكن للطفل أن يتعامل اجتماعيا وبشكل سليم إذا لم يكن عنده قدرة وملكة الحوار، فصرنا في عصرنا الراهن نفتقد شيئاً هاماً يسمى "الترابط الأسري"، ومع غياب ذلك الترابط غاب الحوار الناتج عن هيمنة الثقافة الأبوية، الذي يؤدي بلا شك إلى29:
  عدم قدرة الطفل على التواصل مستقبلاً مع الآخرين.
  تدني مفهوم الذات والثقة بالنفس لديه.
  تأثر الاستقرار النفسي والتكيف الاجتماعي.
  انخفاض المهارات الاجتماعية التي تكتسب في العادة من خلال التواصل والحوار مع الآخرين.

وأما السُبل الكفيلة المتمثلة في معالجة الحوار فتبدأ من تعزيز فاعليته التي تتمحور حول مجموعة من النقاط، أهمها:
  اكتساب الأزواج أسس وفاعلية الحوار والمشاركة، مع تنويرهم بالطرق والمهارات والمعارف الضرورية التي لها السبيل الأساسي في المحافظة على استقرار الأسرة.
  توعية أفراد الأسرة بأهمية التواصل والتآزر العائلي فيما بينهم.
  تعزيز الجوانب السيكولوجية والفسيولوجية والصحة النفسية لجميع أفراد الأسرة.
  زيادة من مساحة الحوار غير اللفظي؛ فهو لا يقتصر على اللسان فقط، بل يشمل الإشارات، والرموز، والنظرات، واللمسات،...
  استخدام الأساليب العقلية في التربية والبعد عن العقاب البدني قدر الإمكان.
  محاولة من الزوجين إظهار أمثلة يُحتدى بها أمام الأولاد.
  استمرارية الحوار داخل الأسرة يقيها من التفكك والارتباك.

ولا يسعني في آخر المطاف، إلاّ أن أنصح الآباء بتطبيق واستغلال أسلوب الحوار الهادف والفعال الذي هو أساس النهوض بهذا الجيل؛ الذي يعتبر أمانة في أعناقنا، ومسؤولية ملقاة على عاتقنا سنسأل عنها لا محالة.
ونسأل الله العلي العظيم أن يأخذ بأيدينا على هذه المسؤولية، وتنشئة الطفل النشأة القويمة.
وخير ما أختم به، هو أن أدعو في هذا موقف هذا الدعاء الوارد في قوله تعالى:  رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا30، و سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ 31.

الهوامش:

  1. صحيح البخاري، البخاري، 1/465، تحقيق د. مصطفى ديب البغا، دار ابن كثير، اليمامة، بيروت، ط3 ، سنة 1987.
  2. ينظر تربية الطفل في الإسلام-أطوارها، وآثارها، وثمارها-، عبد السلام عطوة الفندي، ص08، دار ابن حزم، ط1، 2003.
  3. معجم علم النفس والتحليل النفسي ، د.فرج عبد القادر طه، ص266، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت،لبنان.
  4. ينظر تربية الطفل في الإسلام، ص07، نقلا عن موقع www.rafed.net/books/akhlaq/tarbia/index.html
    بتاريخ 10/02/2007.
  5. ينظر المرجع نفسه، ص07.
  6. ينظر سيكولوجية نمو الطفل، سهير كامل أحمد، ص212، مركز الإسكندرية للكتاب، 1999.
  7. ينظر إرشاد الطفل وتوجيهه في الأسرة ودور الحضانة، د.مواهب إبراهيم عياد، ص131، منشأة المعارف الإسكندرية، 1997، وفي أسس تهذيب الطفل، ضياء الدين أبو الحب، ص36-40، دار أبو سلامة للطباعة والنشر والتوزيع، د.ت.
  8. ينظر المعاش النفسي لدى الطفل المسعف- دراسة ميدانية لحالتين، زيدان العيد، ص26، مذكرة ليسانس، جامعة وهران، 2004-2005.
  9. سورة الروم، الآية 21.
  10. ينظر تربية الطفل في الإسلام، ص11، من موقع www.rafed.net/books/akhlaq/tarbia/index.html
  11. مشاكل الآباء في تربية الأبناء، للدكتور سپوك، ص44، المؤسسة العربية للدراسة والنشر، ط3، 1980.
  12. ينظر تربية الطفل في الإسلام، ص11، من موقع www.rafed.net/books/akhlaq/tarbia/index.html
  13. ينظر المعاش النفسي لدى الطفل المسعف، ص27.
  14. سيكولوجية نمو الطفل، ص35.
  15. ينظر إرشاد الطفل وتوجيهه في الأسرة ودور الحضانة، د.مواهب إبراهيم عياد، ص 123.
  16. ينظر تربية الطفل في الإسلام- أطوارها، وآثارها، وثمارها-، عبد السلام عطوة الفندي، ص208.
  17. ينظر المرجع نفسه، ص208.
  18. ينظر المرجع نفسه، ص224-226.
  19. ينظر الأم ...أول وأفضل مربية، د.فايز نايف القنطار، ص174، مجلة العربي، عدد 497، أبريل 2000.
  20. ينظر المرجع نفسه، ص174.
  21. ينظر أصول التربية الإسلامية وأساليبها، عبد الرحمن النحلاوي، ص206-232، دار الفكر، دمشق، سوريا، ط2، 1983.
  22. ينظر تربية الطفل في الإسلام، عبد السلام عطوة الفندي، ص226-227.
  23. سورة الصافات، الآيات 27-32.
  24. سنن الترمذي، للترمزي، 4/613، تحقيق احمد محمد شاكر وآخرون، دار إحياء التراث، بيروت، د.ت.
  25. صحيح مسلم، للمسلم، 4/2292، تحقيق محمد ففؤاد عبد الباقي، دار احياء التراث العربي، بيروت. د.ت.
  26. ينظر تربية الطفل في الإسلام، عبد السلام عطوة الفندي، ص226-227.
  27. ينظر هروب الطفل، وفيق صفوت مختار، ص202-204، مجلة العربي،عدد 506، يناير 2001.
  28. ينظر المرجع نفسه، ص 229.
  29. ينظر 50 % من المعوقين يعانون اضطرابات سلوكية....بسببنا!!، د. طارق المعداوي، من موقع www.womengateway.com بتاريخ 10/02/2007.
  30. سورة الفرقان، الآية 74.
  31. سورة الصافات، الآيات 180-182.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى