الأربعاء ١٧ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٧
بقلم أمينة شرادي

مدينة الانوار

وسط مجموعة من الأوساخ المتراكمة قرب البيوت التي تنطق بالرفاهية والنعيم، كان أحمد يفتش بيديه ورجليه عما يصلح له أو لأحد أفراد عائلته الفقيرة. كان يتنقل بخفة متناهية ويبحث بسرعة شديدة، خوفا من عيون متلصصة عليه من هنا أو هناك.التفت لصديقه الذي توحد مع الأزبال من كثرة البحث و صاح: مصطفى، انظر ماذا وجدت؟ محفظة سآخذها لنبيل.و كانت الفرحة تستوطن كل وجهه كأنه حصل على كنز.
انهمك للتو في البحث ويده الأخرى لا تفارق المحفظة. غير مبال بالذباب الذي يتطاير من حوله ويعلن عن غضبه من هجوم أحمد عليه و مشاركته وليمته الخاصة.

استحال لباسه إلى لون قاتم من كثرة تراكم الأوساخ عليه. برجليه حذاء أصابه الوهن، تظهر منه أصابع بيضاء شاخت منذ أن بدأت تتعلم المشي والركض. لم يكن صديقه مصطفى أحسن حالا منه. راح بدوره يجوس حول بركة من الأزبال اكتشفها فجأة وطاراليها يخب في ثيابه المتسخة. تابع أحمد تنقيبه الدقيق بوجه حاد، تعلوه إمارات القسوة المبكرة رغم طفولته الجميلة التي تشرئب بعنقها عندما يبتسم.

رجعا يفتخران بما أنجزاه اليوم من انتصار على أزبال الميسورين، لقد حصلا على غنائم كثيرة لأفواه تنتظرهم هناك في الطرف الآخر من المدينة. أحمد و مصطفى، اثنين من آلف الأطفال الذين يقطنون هذه المدينة أو خارجها. قوضا الحصار المفروض عليهم، متسللين كل يوم إلى المدينة المضيئة للاستيلاء على بقايا الميسورين، متسابقين مع الذباب والقطط والكلاب.

بيت أحمد بجانب بيت مصطفى بجانب البيوت الأخرى المنسية، كلها تتشابه لدرجة الخلط بينها. بيوت مبنية من القصدير القاتل ببرودته في الشتاء وحرارته في الصيف. تآلفت معها أجسام الأطفال البيضاء حتى استحالت عالمهم الوحيد. فكان ذلك اليوم الذي اكتشف فيه أحمد، صدفة أضواء آتية من بعيد. سأل نفسه الصغيرة: هل هي نجوم؟ فقد كان جده، المقيم معهم، يحكي له عن السماء والنجوم والشياطين والجن.. لما اعتلت وجهه الطفو لي أولى بوادر التفكير سأل جده: جدي، ماذا هناك؟ ابتسم الجد و قال:_ أنها المدينة يا بني. جللت أحمد ساعتها سعادة كل أطفال الدنيا.فعاد يسأل بكل لهفة:_هل هي مدينة الجن التي حكيت لي عنها؟قال الجد:_ليست هي ولكن تشبهها.فكل داخل منا إليها مفقود. وشردت عيني الجد إلى الأفق حيث تتلألأ الأضواء، بكل شوق وحقد.

واستمر الطفل يسأل والجد يجيب حتى استوطنته فكرة دخول مدينة الأنوار. وتوالت الزيارات، واصطحب صديقه مصطفى.فكانا عند رحيل أديم الليل، يتخطيان السور الوهمي، ويدخلان المدينة المضيئة وأهلها نيام.

فتسرق أحمد البنايات العالية والواسعة التي لا يدرك بعقله الصغير أولها من آخرها. يغمض عينيه ويمشي بخطوات جد متثاقلة مسحورا بجمال المكان، متمنيا أن يعيش وكل أصحابه وأهله وجيرانه المنبوذين، بين أحضان هذا الجمال. ظلت خطواته تنفر من الأزبال ويعيش مع عقله الصغير يحلم ويحلم... فاستيقظ في يوم من الأيام، على ضربة يد أمسكت بكتفه وكادت أن تكسره. صرخ. فكان معلقا بين يدي رجل ضخم هو وصديقه مصطفى كقطين اقتحما مكانا ممنوعا عليهما. انبرى أحمد يتكلم فكان فمه لا يخرج أصواتا من الفزع. فإذا بصوت آخر يقول:_أأنتما السارقان؟
بكا الأطفال. استعطفاه. تجرأ أحمد وتكلم بصوت مرتعش:_لم نسرق سوى أزبالكم.
فقذف بهما الرجل الضخم، داخل البناية الشاسعة التي طالما حلما بها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى