الثلاثاء ٣٠ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٧

حدث في جزيرة الطوابية

عبد العزيز نايل

هي قرية مصرية تطل ببيوتها وعائلاتها على النيل مباشرة، وليس غريبا أن تسمع من بعض المتعلمين فيها أن رجالا ونساء عاشوا وماتوا على أرضها ولم يروا محطة القطار قط، فهم يرون القطار وحشا خرافيا لذا يهابونه وخاصة عندما يرون كثافة الدخان الذي يتصاعد من منخريه على حد تعبيرهم .. يلوحون بأيدهم غضبا عليه كلما مرّ، وترك ادخنته، تتصاعد صانعة سحبا تتهادى فوق سماء القرية ساعتها يتخلى الأطفال عن تشكيل الطين كالعريس والعروسة، فيرون أدخنته كل يوم وهي تتشكل كالإنسان والجان والحيوان، فوق حقول القصب التي تجاور شريط السكة الحديدية، الجميع يعرفون أن هذا القطار للسفر إلى كل البلاد، وهم لا يسافرون،يقولون:شرط السفر ... حاجة في القلب والبصر
أو أن تضيق علينا بيوتنا ...
أو نتطاول .... فلا يسعنا .. سريرنا الحجر ...

وفي رواية عن أحدهم أنه كان يقسم لهم في محافلهم عقب مراسم الجنازات أو عقب مراسيم الأفراح، أن هذا القطار من العجائب فهو يسير بالنهار والليل ولا يتعب، كما أنه ويقسم لهم على ذلك انه لا يأكل ولا يشرب ..... وأما من كان حظه من السماء وشاءت له الأقدار أن يسافر بالقطار فعليه أن يتزود بالمش والعسل والبيض المسلوق فالطريق طويل وعليه أن يتجهز منذ مساء اليوم السابق بأن يبدأ بالاتفاق على استعارة، أكثر الحمير صحة وعافية وكذلك ثلاثة أو أربعة من الرجال يودعونه حتى محطة القطار وهم يهرولون خلف الحمار الذي يمتطيه المسافر.... للمعونة والحماية من اللصوص والعفاريت التي تقبع خلف كل شجرة وكل جُميزة وخاصة ما قيل عن العفاريت التي استوطنت دغل النخل والأشجار الواقعة،خلف المستشفى الأميري والتي ما عاد منها أحد دخلها سواء بعلة أو بغير علة مطلقا، فترى كلّ مريض، وهو محاط بالمودعين، ولا أثر للأطباء فيها، شخص واحد يقوم بكافة المهام فيها هو" عباس ابو دردير " فيجيء إليه المريض محمولا على ظهر أحد الشباب في عائلته، دخولا من الباب الرئيسي، فلا يبيت المريض إلا يوما واحدا أو يومين ثم ويحُمل ثانية لكنه في هذه المرة على نعش فيودي به إلى الجبانة التي تقع خلف المستشفى عبورا من بابها الخلفي .....فيجمع "عباس " ما تبقى من " الراوند " حيث لا دواء آخر للمرضى، ليستفيد ببقاياه مريض آخر، سيجيء اليوم أو بعد أيام.

و لكل واحد وواحدة في القرية حكاية حقيقية عن العفاريت، يرويها فقط في ضوء الليالي المقمرة وفي غير هذه الليلات لا تُتَداول الحكاياتُ ولا يكون سهرٌ ولا يكون السمر فالحكايات في الليالي المظلمة تستحضرُ أرواحَ العفاريت فتطلُ على جمع المسامرين ليصرخَ الذي وقعت عيناه على عفريت امرأةٍ تدعى "جمال " والتي لا تخرج في غالب الأحيان من الساقية التي على مشارف كرم النخيل، إلا على الرجال انتقاما، من زوجها الذي فصل رأسها عن جسدها، أمام جميع رجال القرية، يوم سحبها من شعرها، من فوق سرير الخيانة، أو على عفريت " جابر التختوخ " الذي سقط ميتا قبل ان يصل الى الارض من فوق نخلة " معروف الروسي " ليهيمَ عفريته على وجهه مطرودة ً روحه من عالم الأرواح، فهي لم تتعلم لغة الولوج إلى عالمها قبل موت الجسد، وأكمل الشيخ للسامعين، لذا فروحه تائهة بيننا وبين مسكنها الذي افتقدته، فما عادوا يشعلون النار عند حضوره وهم يعرفون أنه في وكر العفاريت يأوي جميع العِرَسْ التي تسرق الذهب وهو الذي يحرّضها على أن تقضم أرجل النائمين والمسالمين في الليل، ويحكى بأنه يتربع فوق التوتة العجوز فيسب جميع الناس بأمهاتهم ثم يمضي متوعدا اياهم في الليلة القادمة، قبل بزوغ الفجر بنوره الذي تهابه العفاريت، فإذا برجفة يصاب بها الجميع فيتركون كل شيء على حاله، فقط يتخطفون أطفالهم ليندسَّ كلٌ منهم في داره وعلى وقع المغاليق الخشبية تسمعُ أصواتهم المرتعشة وهم يطمئنون على بعضهم البعض من خلف الأبواب المغلقة، ثم لا تسمع إلا صوت الوشوشة العالية والتي يبثها جريدُ النخل وهو يتملصُ من زغزغة الهواء له حتى بزوغ الشمس ......

كنت أنا المسافر غدا فتجهزت من مساء اليوم باستعارة حمارٍ، يملكه حامد أبونْعِيمة، وهو أقرب للبغل منه إلى الحمير وفي اليوم التالي وقبيل الظهيرة تحرك الموكب،أنا وأربعة من الرجال متسلحين بالعصي و " الشماريخ " امسك احدهم بلجام الحمار، وثلاثة من الخلف، وعيونهم تتقلب في الطريق المتبقي، وليست مُهمِلة مراقبة الطريق الفائت،و ما اجتمع الرجال إلا وكان الحديث في الجنس ثالثهم إن كانوا اثنين، أو ثلاثة فيكون رابعهم وخامسهم إن كانوا أربعة فإن كنا خمسة كان هو سادسنا فلما بدأ "شحات " يتحدث عن النساء وكيدهن، عرج ليحكي حكاية زهيرة الشهيرة فامتعض الرجالُ الثلاثةُ من رغبة " شحات " أن يقصّها عليّ فَتَقْصُر الطريقُ بها، فقد حفظتها النسوة ويقصصنها بافتخار، واتعظ الرجال بها وسمعوها ألف مرة....
ترك " شحات " لجامَ الحمار ... آخذا في ألحكي.... قال:

" جذبت " سكينة" يدها من بين أصابع كفه الغليظة ... ترك يدها تتفلت من بين اصابعه، متحاشيا تنامي غضبتها، قالت:ما بك يا رجل !!! أتمنعني من الذهاب إلى جنازة جدي ... هل فكرت فيما سيحدث بيني وبين عمي، إن لم يرني "مُطيَّنة" بالطين وإن لم يرى حبل الليف الغليظ ملفوفا ّ فوق بطني ... وهل تقدر على غضبته إن افتقدني بين النادبات ... هناك ... ماذا يقول عني وعنك، وقد تحرك التراب ولن يهدأ الغبار على جسر الجزيرة تحت اقدام القادمين من كل قرى ونجوع " اولاد عمرو " منذ شاع خبر وفاة جدي أبو" درباس " و أنت مازلت جالسا هنا و تجلسني الى جوارك لأ تسلى معك بالحكايات ... هل نسيت انك رجل من رجال " درباس " وكان مفروضا ان تكون اول الرجال، الذين يصطفون، لإستقبال القادمين للعزاء، رفع واحد من الثلاثة اتباعنا عصاه ليلكز بها شحات قائلا له:قل لإبن عمك، عن اسم الرجل، فاعتذر شحات، وأخبرني بأنه " طايع أبو الكلب " وأكمل من حيث انتهى، فقالت له:

أنت رأيته وهو خارج، ليكون على رأس أبيه المتوفى، ولم تلحق به، وما فعلتها قبل ذلك البتة، كان يكفيك أن تسمع، دقة عصاه على الأرض فتهرول للحاق به فماذا حدث بينكما حتى تركته يمضي وحده وما الفائدة منك إن لم يجدك إلى جواره الآن.... فمتى يجدك إذن ؟ وهل تراه سيغفرها لك، فقال لها، ما خرجت له يا امرأة رحمة به، فلو عرف أني رأيته وهو يبكي ورأيت دموعه وهي تتقاطر من بين شعر شاربه ودموعه أكثر غزارة من دموع الحريم .... سينكسر قلبه يا امرأة، وأجرح رجولته يا امرأة، فيصبح خطره عليّ أكثر يا امرأة ... فَتَرَكْتُه يذهب وحده، ليبكي وحده، ويهدهد ضعفه المدفون تحت ابطيه وحده، أنا وحدي من الجزيرة الذي رأيت "درباس " اليوم ضعيفا باكيا، وهو الذي لم يبك في حياته قط ....!!!!! قالت المرأة وهي تُقَطِعُ الحروف حرفا حرفا ...... تقول "درباس " بكي اليوم ورأيته بعينيك اللتين سيأكلهما الدود ........ قال لها بحروف تتمطى ... نعم ... رأيته اليوم خارجا من داره إلى جنازة أبيه وهو يبكي بدموع أكثر غزارة من دموع الحريم ...

فما كان من المرأة إلا أن امتشقت طرحتها وخرجت ولها ثغاء كنعجة وتردد اعتراضها كالاوراد الصوفية، إذا بكى "درباس" فليس على أبيه يبكي بل هي مصيبة .... فَصَاحَبَها زوجُها حتى باب دارهما وهو يردد في أذنيها
، هذا ما أردتك فيه، أن تخبريني كيف يبكي عمك "درباس " وهو الذي لم يبك على أمه " شهربان " ألا تذكرين يومها حين هوى بكفه الغليظة على ظهر أخيه " عواد " حين رآه يبكي أمَه وأمام جميع المعزين في أمه يصرخ فيه مستنكرا " منذ متى يبكي الرجال في بيوتنا ثم رأينا عواد يشهق بين المُعَزّين حابسا دموعه خجلا وخوفا من "درباس "
قالت ... أي نعم والله ما أظنه يبكى على جدي ... إن هي إلاّ مصيبة أكبر من ذلك بكثير .. نطقت بجملتها وهي تلقي بطرحة رأسها على وجهها وما برحت تضبطها حتى دخلت بيت عمها " درباس " مهمومة بمعرفة الأسباب التي أبكت رجلا لم يبك قط، لتصرخ في امرأة عمها" زهيرة "، ما الذي حدث يا امرأة حتى يخرج عمي من بيته وهو يبكي كما النساء وهو الذي لم يبكِ في حياته قط .... ثم ما بالك ترتدين الفاتح من الملابس وكل نساء الجزيرة اتشحن بالسواد، ولم تفكي ضفائرك بعد .....

قامت زهيرة من مكانها ثم احتضنت المرأة، أجلستها قائلة لها سأخبرك لماذا بكى "درباس " .. هل تذكرين يوم مات أبي منذ سنة كاملة كنت على هذه الرحاية اطحن علفا لبهائمنا وأشارت على رحايتها، وإذ ا "بدرباس " يدخل علينا، آمرا أولاده بالذهاب إلى بيت جدهم، ثم جلس في مواجهتي فيقول محزونا أو ربما كان يتصنع الحزن وهو ينظر في عيني، الأمر لله وحده، ولله الدوام وحده، قلت في من....؟! قال في الحاج رضوان أبوكِ
صرخت مولولة في وجهه، فغطي فمي بكفه، ثم راح يطبطب على ظهري، أمسك بزراعي، و أدخلني إلى غرفتنا أنا وهو، كان يتودد بطريقة ما عهدتها فيه، قال ستقضين يا "زهيرة " في بيت أبيك أربعين يوما وسأكون فيها هنا وحدي، وتعرفينني لا أقوى على تحمل ابتعادي عنك أكثر من ثلاثة أيام، ثم أجبرني على تأجيل ذهابي إلى جنازة أبي
فقلت له وأنا باكية، هيت لك يا "درباس، لكنه أمرني أن استحم، وان تختفي علامات الحزن من وجهي، فهذا الحزن يُضْعفُ هِمّته، فتحممت وواريت حزني، وتمددت كنعجة ماثلة للذبح،

تعرى أمامي، لكن عيني لا ترى إلا عري أبي و " أمين الفحّار" المعني بالموتى في قريتنا يغسله هنا على هذا السرير و "درباس " يقلبني ذات اليمن وذات اليسار، وكذلك أبي يقلبه" الفحّار"، ذات اليمين وذات اليسار أيضا، هناك يصبون عليه الماء تغسيلا، و "درباس " يتصبب عرقا على وجهي وصدري، فيغسلني من نحري إلى الفخذين، ويعوى فوق جسدي ضبعا فوق جيفة، وفي بيت أبي صراخٌ، ومائة شبر فقط قستُها بهذه اليد يا " سكينة "، قالتها وهي ترفع كفها قدام عيني سكينة ثم تكرر، مائة شبر بمقياس يدي تفصل بين الصراخ على فراق أبي وبين عواء "درباس " على جسدي،..والصراخ والعواء كلاهما يتعانقان في أذني، أبي محمول على نعشه، وأنا محمولة على صدر " درباس "، آهتان على سرير واحد، فيتأوه "درباس " وهو ينزل ماءه في لحمي وآهة تعلق في حلقي ولا تنقطع، تشبه النحيب ولكن "درباس " ظن به الظنون التي تناسب رجلا يحتاج شهادات دائمة من المرأة بأن رمحه مازال قادرا على استهداف مكمن الألم الجميل،

قام يجرجر غروره إلى حمَّامِه، ثم اعتدلت فارتديت السواد ثانية وحللت شعري، وفي البركة التي بين بيتي وبيتك يا " سكينة " قبل أن تُبنى بيتا لابن عمك "عزاز " تَمرغتُ في طينها، وأسبلت الطين على شعري، وسرت في اتجاه بيت أبي، لأندب أبي مع النادبات وأستقبل النساء المعزيات، وحجلت مع الحاجلات، ومازال ماء "درباس " ساخنا يسيل بين فخذي، فانفجرت سكينة متألمة للألم الذي يشيع في عيني زهيرة، لتسب عمها وهي تحتضن زهيرة وتلعن كل الرجال، وشهوة الرجال العبيطة الحمقاء ......قالت ولكنك لم تخبريني كيف بكى "درباس "، فأكملت زهيرة:كنا نجلس على "طبليتنا " وأتذكر " يا سكينة " على نفس الطعام الذي كنا نأكله يوم مات أبي .... ودخل علينا "رفاعي " ابن أخته، فصرخ فيه "درباس "، قال لو قلتها لقتلتك ... فلم يتكلم الولد ... نهضت إليه، مبعدة إياه من أمام خاله، فتكلم الولد واخبرني أن جدّه ... أبو "درباس " مات منذ نصف ساعة ... قلت له خذ أولاد خالك واذهب ودخلت إلى "درباس " قال لا تخبريني قلبي يحدثني أن أبي .... قلت له ... نعم فقام وارتدى عباءته والتقط عصاه الغليظة وهم بالخروج، بعد أن وضع قدميه في "بُلغَتِهِ" ... فَسَبقْتُه ووقفت بينه وبين باب الدار ... فنظر إليّ، فهمت من نظرته انه تذكر يوم اعترضني هنا في نفس المكان لكنه حاول بمسلكه أن يجعل اعتراضي غريبا عليه، فلا افطن أو هكذا كان يريد إلا أتذكر يوم مات أبي .. قلت له ... لا يحتاج الأمر إلى مناورات فأنت مدينٌ لي يا أبا الرجال ولن تستطيع جزيرة الطوابية كلها ولو اجتمعت مع نجوع أولاد عمرو وأشقياء "السمطا " رفقاء الليل على ألا تسدد ما عليك لي ما استطاعوا ولن يحول بيني وبين أن تسدد ما عليك إلا أن تقتلني الآن فوق هذه العتبة، فبُهت "درباس " من طريقتي في الكلام وإصراري فهو على مدى عشرين سنة لم يسمعني ولم يرني كما رآني اليوم فقد رأى قطة تتحول حيّة منتصبة العنق وتدق أجراسها قدام فريستها لتنتقم وتدفع عن نفسها عار يوم استعملها " درباس "، كما لو كانت وسادة لكنها من الجلدِ المثقوب، وليس ذلك فقط بل رشًّ ماءه على جثة أبي وهو ممدد بالموت تحت نَهْدَيَّ، جحظت عيناه ..يدقق فيما توعدته، وفي عاقبة مسلكه ... لكنني ابتسمت، فنبالة مقصدي، أن أستعيده رجلا في نظري ويقيني واستعيد نفسي من جارية مبتذلة إلى سيدة للقصر والدار، ألهمتني قوة وشجاعة، فتعلقت في زراعه وقلت له ... هَيت لك .... إلا تذكر ...فتقدم معي وكأنه المسحور، فقرأت في وجهه وعينيه، حزنه، وضعفه، وخوفه من الفضيحة بعد أن أقسمت له، أن لم يفعل اليوم، ما فعله من احد عشر شهرا، لخرجت ـ وأنا صادقة ـ وأخبرت سكان الجزيرة والذين سيحكون بدورهم لكل النجوع وستصل الحكاية وتشاع في مدارس قنا والجامعة ويكفيك شهرة قلت له انك " أنت الذي يجامع الموتى " ويصب ماءه في الوسائد الجلدية المثقوبة، فتحول "درباس " إلى كيس كبير من الجلد ومنفوخ أعلاه من الغيظ و ولكن أسفله غير قادر على الانتفاخ ,..... ثم أخذت اقلِّبه ذات اليمين وذات اليسار، فلما لم يستطع معي صبرا، قلت له، هل سمعت يا "درباس " عن أسد ألقى بنفسه فوق غزالة نافقة، أو ألقى بنفسه فوق جثة ميتة ..............

منذ عام في يوم كهذا كنت ترمح فوق جثتي، وما دريت انك بفعلتك قد تحولت في عينيّ من أسد بين الرجال إلى ضبع يقتات الجيّف، أو نباشا لقبور الموتى فتجامع امرأة ماتت في ليلتها الأولى،ولأول مرة أدرك انك واسمك الذي يعني الكلب العقور متشابهان هل لا تقوى الآن على مجامعة الأحياء .... هل استطبت جماع الموتى..... أو تعرف .. لا يقوى على ذلك إلا من ماتت نفسه...قال وكيف لها أن تحيا يا زهيرة، فضممته في صدري، وهمست في أذنيه، لو استطعت ..... ستحيا، صار دمه البارد نارا ثم صعد ونزل وله زئير، بلل صدري ووجهي، ليس من عرق، بل غسّلني من عاري بدموعه فغفرت له ولنفسي، ساعدته أن تنفجر حظيرة أولاده في رحمي .... فانفجرت ... في نفس اللحظة، رأيت بعيني ورآه معي .. ضبعاً مطرودا تتنزل من أنيابه جثثا نافقة لألف جارية وأمة والآلاف من المحظيات يخرج من تحت الإبطين لدرباس فتخفف " درباس " من أحمال عاشرها منذ خرجنا من جنتنا الأولى فلما تخفف من هذى الأحمال رآها وأراني اياها هذى الحية العمياء الساكنة في جسدي، قفزت حين رأيناها لتهرب من نافذة غرفتنا، سقطت في ساقية بجوار البيت، فتحممنا سويا ولأول مرة من هذا الماء الصاعد جراء سقوط الحية ثم ارتدى ملابسه على عجل، لملم كل الجثث النافقة في غرفتنا في صرة ألقى بها على ظهره، ثم قال في مقبرة أبي متسع لجميع الموتى"

.وعندما أفقت من هول حكاية شحات عن زهيرة الشهيرة سألته، لقد تأخر القطار، ضحك شحات وضحك الرجال معه ... كيف لم ترى القطار يا ابن عمي وقد جاء بصفارة وانطلق بصفارة تماثل بوق اسرافيل يوم القيامة فلم تتنبه ومضى، وكان اول المسافرين فيه من جزيرة الطوابية زهيرة و" درباس "، فانتَفضتُ واقفا من غضب، لأقول:هل هو قطار مسحور حتى يأتي ويمضي ولا اراه ولما لم اجد فائدة من صراخي في أولاد عمي قلت:حقا إن زهيرة و"درباس " فقط هما اللذان يستحقان السفر بالقطار، أما أنا فلا استحق إلا العودة فوق حمار ابن عمك أو أنتظر إلى ما شاء الله حتى يجيء القطار الذي لن يجيء، فقال شحات، يقينا سيجيء قطار آخر يا ابن عمي في غضون القرون المقبلة
قلت أجننت يا شحات، أتريد مني أن انتظر قرنا قال شحات، أو قلت قرنا ؟ أقصد الأيام المقبلة، ولم ينهي جملته التي استحضرها، مواساة لي، إلا واشتعلت المحطة بالصراخ والعويل، عندما أعلن ناظر المحطة، عن فحوى الإشارة التي وصلت إليه في التو واللحظة، بأن القطار الذي حمل كل من زهيرة و"درباس " قد خرج عن مساره !!! وأوغل سيرا في الصحراء !!! ليستقر به الحال بجوار خيام البدو !!!! فانتقلوا فيه وامتلأت عرباته بنعاجهم !!! ودِلال القهوة،اثنان وعشرون عربة غرست عجلاتُها في رمل الصحراء !!! من يومها توقف الناس في جزيرة الطوابية عن تقصي أخبار العفاريت التي على الجسر أو خلف المستشفى الأميري، وأصبح لكل واحد وواحدة حكايته عن القطار الذي فقد عقله فاجتذبته رمال الصحراء القاحلة !!! وروى احدهم أن زهيرة و "درباس " أمسك كل منهما بيد الآخر، فتحولا طيرا كحمامتين، طارا سويا فوق البحر، وألقى كل من "درباس " و " زهيرة " بالعباءات المطرزة وبقايا خيمة علقت في أجنحتهما، قال الراوي، ستحط العباءات المطرزة وبقايا الخيمة على قريتنا غدا بفعل الريح المرتدة، وسنصنع منها أحجبة للأحياء وللموتى

عبد العزيز نايل

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى