الاثنين ١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٧
بقلم عبد العزيز غوردو

قطار السادسة مساء...

استيقظت على رنين جرس الباب وهو يقرع قرعا خفيفا، على استحياء، فتحت عيني إلى النصف... لكنني لم أنهض مباشرة، أو بالأحرى لم أستطع أن أنهض مباشرة... فرأسي ثقيلة كأحجار الطواحين لا أكاد أحركها، ودماغي تكاد تنفجر كأن محاكمات نورمبرغ تنعقد فيها...

خيل إلي للحظة أن الجرس لم يقرع إلا في منامي، في إحدى ثنايا دماغي الوسنانة، لكني سرعان ما سمعته يرن من جديد... قرعا خفيفا على استحياء أيضا...

الجو قائظ جدا وأنا أرشح عرقا، نظرت إلى الساعة الحائطية قبالة السرير فوجدت عقاربها تشير إلى الرابعة والربع زوالا! حدقت فيها فزعا وقفزت... لكني سرعان ما عدت لأتهالك على السرير، فالجلسات النازية مازالت منعقدة في دماغي لم يحكم فيها بعد...

أخذت ساعتي اليدوية، من على الطاولة، لأتأكد من الوقت، ولتتأكد معها دهشتي: الرابعة والربع فعلا!

منذ زمن طويل وأنا على هذه الحال، بل لا أكاد أذكر زمنا آخر عشت فيه بشكل مختلف، لا أعرف متى يبدأ الليل ولا متى يبدأ النهار... وقطعا لا أعرف متى ينتهيان... أعتقد أنني ولدت وجلسات نورمبرغ منعقدة في دماغي؟

من عادتي أن أنام نصف عار ما إن يحل فصل الصيف، لم أكلف نفسي عناء ارتداء شيء آخر: فقط خفا خفيفا بجوار السرير ثم توجهت نحو الباب وفتحته، سرت بضع خطوات في حديقة البيت باتجاه الباب الخارجي وفتحته أيضا، فوجدت امرأة في الثلاثينات بساقين طويلتين داخل تنورة حمراء... فوجئت بمنظري النصف عاري لكنها ظلت تنظر إلي بحياء، لا يخلو من استفزاز، وسألتني إن كنت أبحث عن خادمة... نظرت من جديد إلى الساقين وإلى التنورة:

 كلا، لا أريد نساء للعمل و... ولا لأي شيء آخر!

أجل لم أعد أرغب في أي شيء آخر، يخيّل إلي أني على مدى حياتي القصيرة، القصيرة جدا، قد أخذت كل نصيبي من دنياي، من كل ما يخطر ببال الشيطان الذي يسكنني، لم أكن أستمع لأي شيء، لم أكن أسمع غير صوته يصرخ بداخلي:
 "فليحرق العالم، ولأحيا أنا"...

أمس فقط لم أنم إلا متأخرا بعد ليلة صاخبة حمراء، أفرغت خلالها العالم كله بداخلي، بكل تجلياته الجسدية المثيرة لكل أشكال الشبق... وها أنا الآن أستيقظ وقد كرهت كل شيء، أشعر أني عشت ألف عام أو يزيد بعمر الشباب ثم شخت فجأة: في ليلة واحدة نمت وأنا في ريعان الشباب، بعمر أزهار الربيع، واستيقظت أوراق يابسة تذروها رياح الخريف، استيقظت وأنا أحس طعم الرماد في كل شيء، كمثل شاعر عشق ألف خصر، لألف امرأة، ثم مات وحيدا أخيرا... داخل محاكم نورمبرغ الكئيبة...
 كلا، لا أريد نساء للعمل، ولا لأي شيء آخر!

نظرت إليها وهي تبتعد بتثاقل وفي نفسي شيء لم أستطع تحديده بدقة، ليس رغبة، كلا، كلا ليس رغبة بكل تأكيد، هو مزيج من القرف وطعم الرماد وشيء من الغثيان: أحسست قلبي قد وصل إلى حلقي، صفقت الباب بقوة وركضت نحو الداخل...

توجهت نحو الحمام وتقيأت، تقيأت ليلة أمس الصاخبة، تقيأت أحشائي المعصورة، وتقيأت الساقين والتنورة... نظرت إلى المرآة وقد جحظت عيناي، تذكرت أني لم أغسل وجهي بعد، ولم أحلق ذقني بعد، وشعري ما زال منكوشا كألف علامة تعجب!!!

في المرآة لم أميز ذلك الوجه الذي يطالعني كل يوم، والذي أحمله كل يوم، والذي علي ـ وعلى الآخرين ـ تحمله كل يوم، بل وجها آخر غريبا عني... نظرت إلى المرآة من جديد وحدقت فيها: هذا ليس وجهي، أجل، أجل ليس وجهي، ليس أنفي، ليس ذقني، ليست عيوني... نظرت خلفي فلم أجد غيري في الحمام، بدأت أدور حولي كالمجنون أبحث إن كانت قسماتي قد تناثرت على الأرض...

بحثت في جميع أرجاء البيت، لم أشأ أن أنظر إلى المرآة من جديد، خفت أن أنظر إلى المرآة من جديد، خفت من هذا الوجه الذي ليس لي، ليس لي... بي رغبة شديدة في أن ألقيه أرضا وأدوسه بقدمي حتى تنفجر عيناه دما، ومنخراه دما، وجانب شفتيه دما... رغبة ليست سيئة أبدا... بل الأسوأ أن علي حلاقته من جديد مثل كل يوم؟

لكنني لن أحلق هذا الذقن الذي ليس لي، ولن أغسل هذا الوجه الذي يلتصق بي، ولن أحضر فطوري...

 فطوري؟
 عن أي فطور أتحدث؟ قد يكون غذاء متأخرا أو مقدمة عشاء مبكر، أما أن يكون فطورا فهذا شيء مستحيل! ليكن ما يكون، فأنا لن أحضره وكفى...

أريد أن أفعل شيئا آخر، شيئا جديدا لم أفعله من قبل ولم يخطر على بال الآدمي الذي يسكنني، والذي يوسوس لي كل يوم بأن آكل القرنبيط بدل الفاصوليا... وأن أرتدي القميص الحريري أو ربطة العنق الحمراء الداكنة ومعطف الكشمير الأزرق الكحلي...

عدت إلى السرير واستلقيت، نظرت إلى الجدار فتكسرت نظراتي على العقارب التي تحصد الدقائق والساعات، مخلفة هشيم الزمن وراءها، أخذت ساعتي اليدوية وبدأت أحملق فيها، عقاربها الصغيرة أيضا لا تتوقف عن الدوران، عقاربها الصغيرة مناجل لا تتوقف عن الحصاد، لا أذكر أنها توقفت يوما وهذا أكثر ما يغيظني فيها! شددتها إلى معصمي بقسوة فأحسست مناجلها الخبيثة تمزق شراييني فينزَ دمي ليلطخ السرير وأرضية الحجرة وكل شيء ألمسه. امتلأت يداي دما فمسحت بها هذا الوجه الذي ليس لي، وبدأت أبحث في أرجاء البيت من جديد عساي أجد قسمات وجهي التي اختفت فجأة، وحيثما مررت كنت أخلف بقعا حمراء ورائي.

بحثت تحت الطاولة وتحت السرير وقلبت أواني المطبخ، فتشت الدولاب وبحثت خلف الستائر وعلى أرضية الحمام لعل قسماتي قد تناثرت هناك... فلم أجد إلا بقع الدم التي تكبدت في صورة مقرفة!

نظرت إلى المرآة مرة أخرى فطالعني هذا الوجه البشع الملطخ دما: هذا ليس وجهي... أجل، أجل ليس وجهي، ليس أنفي، ليس ذقني، ليست عيوني: أين اختفت قسمات وجهي اللعينة، أين، أين؟ ودون شعور مني شددت قبضتي وفجرتها على صفحة المرآة فتطايرت أشلاؤها في كل اتجاه وعدت أدور حولي كالمجنون، مررت يدي الملطختين على الزجاج المكسور ثم خرجت...
بدأت أبحث في الحديقة التي بدت لي لأول مرة ليست حديقة، بل قطعة من جحيم، كأنني أكتشفها من جديد، كأنني أراها للمرة الأولى في حياتي. أزهارها اختفت فجأة وعوضها العليق والصبار ونباتات أخرى غريبة، كائنات مخيفة: نباتات بأنياب ومخالب طويلة، وطلعها من زقوم... أصابتني وحشة شديدة وركضت خارج البيت...

ركضت إلى أن وصلت محطة القطار، أنفاسي تكاد تنقطع وركبتاي لا تقويان على حملي، جدران المحطة تترنح حولي والأرض تميد تحت أقدامي، وخلف اللهاث الذي يطاردني تهالكت على أحد المقاعد بقاعة الانتظار ثم نظرت إلى ساعتي اليدوية: مناجلها لا تتوقف عن الحصاد ولا يبدو أنها تريد التوقف؟

بقيت عشر دقائق على موعد أول قطار، التقطت صحيفة قديمة ملقاة على الأرض وجلست أتصفحها في شرود دون أن أميز الكلمات عن بعضها... لم يتأخر القطار عن موعده دقيقة واحدة، وها هي قاطرته الآن تقتحم المحطة بتثاقل، كمارد جبار، قبل أن تتوقف تحت صليل الفولاذ والفرامل والضجيج...

تسابق الركاب للنزول أو الصعود، أما أنا فلم أحرك ساكنا وظللت قابعا في مكاني أتصفح جريدتي في شرود.

لا أعرف من أين جاء هذا القطار، ولا إلى أين يتجه، والناس أحد اثنين: مسافر راكب ابتدأت رحلته الآن فقط، وآخر نازل انتهى به المطاف حيث شاء؟ وأنا أتصفح جريدتي في شرود... في الجريدة مكتوب أن المسافر الجيد هو الذي لا يعرف أين يتجه، أما المسافر المثالي فهو الذي لا يعرف من أين جاء...

الآن سيقلع القطار من جديد، تحركت قاطرته بتثاقل كما دخلت المحطة أول مرة، كمارد جبار، وخلفها تحركت العربات التي تكوم داخلها اللحم البشري المتعفن...

انتصبت واقفا وكأن الآدمي الذي يسكنني تذكر فجأة شيئا لم يخطر له على بال أبدا؟ طويت الجريدة ووضعتها على الكرسي، فركت الدم المتخثر بين يدي ثم توجهت نحو القطار، لم يعد بيني وبينه غير مسافة قصيرة جدا، بل إن جاذبيته تكاد تقتلعني من مكاني...

مراقب السكة يصفر مشيرا إلي بالابتعاد، لم آبه لصفيره وبدأت أنظر للعجلات وهي تدور متسارعة، وتدور معها رأسي... مناجل ساعتي أيضا تدور وتأبى أن تتوقف! اختلط كل شيء في ذهني: مناجل الساعة، عجلات القطار، قضبان السكة الحديدية، صفير المراقب... وأنا أريد أن أوقف كل شيء: أوقف هذه القضبان اللعينة، وأوقف هذا القطار المجنون، وأوقف هذا الزمان الملعون، وأجد قسمات وجهي الحزينة...

اختلطت الأشياء في رأسي وأنا أريد أن أفصل بينها، لا بد أن أفصل بينها، لا بد أن يتوقف هذا العالم المجنون، لا بد أيضا أن أجد قسمات وجهي الحزينة...

ركبتاي لا تقويان على حملي، القطار يترنح باتجاهي والأرض تميد تحت أقدامي... نظرت حولي، حدقت في قضبان السكة الحديدية التي تشابكت خلف السرعة الجنونية للقطار... وتحت العجلات النارية رأيتُني ألملم قسمات وجهي التي تناثرت مدعوكة تحت صليل الفولاذ والفرامل والضجيج...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى