الثلاثاء ١ حزيران (يونيو) ٢٠٠٤
بقلم عادل سالم

أبو يوسف

إذا قُدر لك – عزيزي القارئ – أن تزور مدينة القدس وتلتقي بأبي يوسف ، وتتحدث إليه فسوف تخرج بانطباع واحد لا غير ، وهو أنه فلسطيني أباً عن جد وسوف تحبه الى أبعد الحدود.

أبو يوسف هو فلسطيني حقاً ، ليس لأنه أسلم وتخلى عن دينه اليهودي ، وليس لأنه يعيش بين الفلسطينيين ويشعر بمشاعرهم ويحلم بأحلامهم ، بل لأنه اختار – عندما خُير أمام المحكمة الإسرائيلية – أن يكون فلسطينياً أو يهوديا اختار بكامل قواه العقلية ان يكون فلسطينيا حتى النخاع ورفض العودة لوالده الأصلي اليهودي رغم كل المحاولات التي بذلها الوالد اليهودي والتي انتهت بالفشل.

أبو يوسف ليس قصة وهمية؛ أو قديمة؛ بل هو حي يرزق؛ نعتذر للقراء عن نشر إسمه بالكامل لأننا لم نستأذنه في نشر قصته الحقيقية.

بداية القصة

كان أبو يوسف طفلاً رضيعاً عندما تخلى والده عن والدته في مدينة القدس وكلاهما يهوديان ، وتركها دون معين أو مساعدة قبل قيام دولة إسرائيل وأثناء الانتداب البريطاني على فلسطين حيث كانت القدس مدينة واحدة ينتشر العرب في قسميها الشرقي والفربي وكان ابو يوسف يعيش مع والديه في القسم الغربي من المدينة .. حيث عانت امه من زوجها الأمرين بسبب إدمانه على الكحول وقيامه بضربها وأهانتها حتى افترقت عنه ثم تعرفت بعد ذلك على شاب فلسطيني كان أحد أصحاب اشهر الخابز العربية في المدينة فرق لحالها وأعجب بجمالها ولم يكن لديه أولاد ولم يرزق باي منهم فيما بعد وقدم لها المساعدة الممكنة.

ولم يمض وقت طويل حتى عرض الشاب المذكور الزواج على والدة (أبو يوسف) التي توافق وتعلن إسلامها فيما بعد وتصبح زوجة للفلسطيني المذكور على سُنة الله ورسوله.

تعرض الشعب الفلسطيني الى أول نكبة له عندما أعلن تقسيم فلسطين وقيام دولة إسرائيل التي سيطرت على القسم الأكبر منها وشردت من أبناء الشعب الفلسطيني عشرات الآلاف وقتلت مثلهم ونهبت بيوتهم وممتلكاتهم.

واضطر سكان القسم الغربي من مدينة القدس الانتقال قسراً وهرباً من الرصاص الى القسم الشرقي الأكثر أمناً؛ وقسمت المدينة الى قسمين: الغربي الذي اصبح تحت السيطرة الإسرائيلية والشرقي تم ضمه للأردن .. وكان أبو يوسف ووالدته ووالده الجديد قد اصبحوا من سكان القدس الشرقية التي ظلوا يسكنون فيها حتى اليوم.. وهناك ترعرع أبو يوسف وتعلم في مدارس المدينة الدين الإسلامي واللغة العربية وشب مع جيلها الجديد لا تفرق بينه وبين أي مواطن آخر.. أبو يوسف حمل اسماً جديداً وسُمي باسم أبيه الجديد بل ورث عنه كل شيء.

من (عائد الى حيفا)
الى (عائد الى القدس)

في رائعته الشهيرة (عائد الى حيفا) يطلعنا السيد غسان كنفاني على المدعو (س) الذي يعود بعد حرب حزيران 1967 الى بيته القديم في حيفا باحثاً عن ابنه الذي خلفه وراءه أثناء حرب 1948 ولم يستطع بعد ذلك العثور عليه.. ويفاجأ المدعو (س) ان ابنه المذكور قد تبنته عائلة يهودية وأنه أصبح يهودياً يدعى (دوف).. ورغم تأكد دوف بأن المدعو (س) هو والده العربي الا انه يرفض ذلك الانتماء ويؤكد يهوديته وانتماءه لوالدته اليهودية التي ربته وعلمته .. وينتهي كنفاني بقصته المعروفة بأن الانسان ليس مجرد لحم ودم بل هو قضية .. هو ثقافة وحضارة وفكر.

وقصة (عائد الى حيفا) ليست الدليل الوحيد فالدلائل كثيرة ومنها قصة (أبو يوسف) والتي جاز أن نسميها (عائد الى القدس) فبطلها يهودي أصبح فلسطينياً.

فمثلما حرك المدعو (س) سيارته من رام الله الى حيفا للبحث عن ابنه المفقود منذ عشرين سنة ؛ فكذلك فعل والد (أبو يوسف) الذي انتقل من القدس الغربية الى الشرقية بعد حرب حزيران 1967 واحتلال إسرائيل لما تبقى من فلسطين .. لم يكن صعباً على والد (أبو يوسف) العثور على ابنه المذكور ، فقد كان يعرف أن زوجته السابقة متزوجة من أحد أصحاب اشهر المخابز العربية وكان يعرف اسمه الكامل.. ولم تمض لحظات طويلة حتى كان يقف أمام (أبو يوسف) ليقول له أنه أبوه وأنه يبحث عنه منذ عشرين سنة!!

أبو يوسف لم يُفاجأ بالخبر لأنه كان يعلم مسبقاً أنه من أبوين يهوديين ولم يهتز لرؤية والده الأصلي ولم يشعر بأية مشاعر إنسانية تجاهه ، بل زاده ذلك المنظر حقداً على هذا الأب الذي اختار السكر والعربدة ورمى ابنه وزوجته على قارعة الطريق.. فرفض أن يعتبره أباً له وقال له: إن أبي ذلك الذي رباني طيلة السنوات الماضية واعطاني حنانه ورعايته في الوقت الذي قذفت بي وبوالدتي الى الجوع والحرمان.

محكمة !!

والد أبو يوسف اليهودي لم ييأس خصوصاً بعد أن عرف أن ابنه اصبح من اصحاب المخابز العربية ولجأ على الفور الى المحكمة الإسرائيلية مطالباً بعودة ابنه اليه والى الدين اليهودي .. وبالفعل فقد عقدت المحكمة الإسرائيلية جلستها بدعوى من الوالد اليهودي ودعت أبا يوسف لحضورها ، وكانت جلسة صاخبة طالب فيها والد أبي يوسف بإبنه اليهودي الذي سرقه العرب منه.. وعرضت المحكمة على (أبو يوسف) العودة لوالده الأصلي والحصول على الجنسية الإسرائيلية ، إلا أنه رفض ذلك مؤكداً أنه أعلن إسلامه عن قناعة ، وأنه فلسطيني ويدعى (فلان الفلاني) ولا يعترف بأب غير أبيه الذي رباه ومنحه اسمه وثروته.

ولأن المحكمة لا تستطيع إعادة انسان بالغ عاقل بالقوة الى أبيه فقد عرض عليه القاضي أن يعيد على الأقل علاقته الابوية مع أبيه وأن يسمح له بزيارته ، إلا انه رفض ذلك أيضاً وقال للمحكمة ، لن اسمح لهذا المخلوق أن يزورني أبداً؛ ولو فعل سأطرده .. وقد آمر عمالي بإلقائه خارج المحل.

نظر القاضي الى اليهودي بعد أن أفلس في إقناع (أبو يوسف) قائلاً: يبدو أن المحكمة عاجزة عن إصدار أي قرار في مصلحتك .. ننصحك أن تبحث لك عن ولد آخر.

وهكذا عاد أبو يوسف الى بيته العربي ووالده الفلسطيني وأمه التي لم تتخل عن زوجها أبداً.. عاد أبو يوسف وهو يحمل بين أضلعه قلباً فلسطينياً حتى النخاع..

ولم تنجح كل محاولات الإغراء الإسرائيلية.. رغم كون إسرائيل دولة محتلة وتملك السيطرة على القدس بإقناع (أبو يوسف) العودة الى والده السابق.. فيما تخلى فلسطينيون أباً عن جد عن فلسطينيتهم وباعوا أنفسهم للاحتلال الإسرائيلي .. أبو يوسف رفض كل الاغراءات فيما وافق عليها قادة عرب وفلسطينيون باعوا فلسطين والامة العربية مقابل كراسيهم وبقائهم في السلطة.

أبو يوسف فلسطيني حتى النخاع ، وقد يكون البديل لـ (دوف) اليهودي في (عائد الى حيفا) .. (دوف) الذي خسره المدعو (س) لينضم الى الصف الآخر ، كسبه المدعو (ص) في نفس الجولة .. فاذا كان المدعو (س) لا زال حياً ويبحث عن ابنه المفقود؛ فلماذا لا يجده في وجه (أبو يوسف)؟!

تحية لأبي يوسف لأنه صان (العيش والملح) وصار واحداً منا فيما خانها زعماؤنا وملوكنا الذين آثروا أن يصونوا الويسكي والكونياك الذي شربوه مع زعماء إسرائيل سراً منذ النكبة حتى اليوم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى