الجمعة ٢٣ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٧
بقلم نوزاد جعدان جعدان

الأمل والألم

بدأ الفجر بالبزوغ يطلق شعاعه الأول في نهار شتائي بارد ومازال رائد يدرس في المطبخ بعد أن شعر بأنه يزعج والديه بضوء المصباح المنار طيلة الليل,نعم ملّ رائد من احتجاز حرية والديه ومن حجز حريته فرائد مرن مهما قست عليه الظروف ,فهو يعتبر بان الإنسان أقوى من الظروف ورأى أن المطبخ أفضل مقر ليدرس به طيلة الليل وحتى ينام به بعد أن وضع فرشته فيها ,فهذا المكان الضيق كان بالنسبة له أوسع من عالم بأثره يحقق به حريته ,فرائد في الثامنة عشر من العمر رياضي الجسم جميل الملامح له عينين سوداوين كسواد الليل وذو نظرة صقرية وعلى الرغم من قصر قامته ووضعه الفقير وبيته الذي لا يتجاوز الغرفتين الممتلئة بتسعة أفراد إلا أن له طموحات ليس لها حدود.

دار الزمن ونمت زهور الأقحوان مبشرة بفصل الربيع بالتوازي مع دراسة رائد المجدة تهيئا لامتحان الثانوية العامة إلا انه لم ينسى حلمه الأوحد وطموحه الأقوى بان يصبح ممثلا لامعا فكان عند الساعة العاشرة ليلا يذهب لحضور البروفات مع أصدقاءه عاشقي الفن في مستودع صغير صنعوه كمسرح يتدربون به ويرجع رائد عند الواحدة ليلا إلى المنزل قافزا من على جدار المنزل كي لا يشعر والده بغيابه عن المنزل.

تعرّف رائد في إحدى البروفات على فتاة ممشوقة القوام وتفوقه طولا بقليل ذات عيون خضراء كبستان من القمح الأخضر في فصل الربيع وشعر ذهبي ناعم يتدلى على كتفيها ,فكانت عندما تبتسم تتوقف الدنيا عن الدوران ولها سحر خاص وكلام صبياني أحيانا تصغر رائد بسنة كان اسمها مرام.

اغرم رائد بها ووقع أسيرا لشباكها فكان الناس يعرفونها من كثرة حديث رائد عنها فاسمها لا يفارق لسانه وبمجيئها يكون مجيء الربيع وعندما يلعب النسيم بشعرها تبدأ عيون رائد بالرقص فصارحها رائد بحبه لها واعترف لها عن مشاعره وبادلته المشاعر أيضا وبدا الاثنان كعصفورين جالسين على حائط مد لهين بالقمر.

وحان وقت الحصاد وبدأت امتحانات الثانوية العامة وبدا رائد مضربا خائفا على الرغم من انه لم يخشى شيئا في حياته فالموت والحزن يعتبرهم أصدقاء له فهو حاضن للحزن ويضحك له فالحزن دائم والفرح مؤقت وبهذه الطريقة يكون شخصا ناجحا بنظره.

كانت امتحانات رائد دون المستوى على الرغم من دراسته لكنه لم يلتحق بدورات تقوية كما فعل غيره من الطلاب وظروفه الصعبة ألقت ظلها على دراسته وأخيرا ظهرت النتائج كان رائد ناجحا بعلامات متواضعة وعاد للبروفات بعد أن انقطع عنها شهرين متعاقبين وكله شوق كشوق الظمآن في الصحراء لنبع من الماء لرؤية سارقة قلبه مرام وجاء لقاؤهما كالتقاء نهري دجلة والفرات و عبر عن اشتياقه لها بالقول:

أتدرين يا مرام كنت أتقطر شوقا للقياك وكنت احترق ألما لفراقك و لربما كان ألمي كفيلا بتكسير الحجارة ثم لماذا لم تخابريني على الهاتف أهذا جزاء المحبين منذ شهرين انتظر مكالمتك التي هي بمثابة مسكنات الآلام لمريض يعاني ,فمكالمتك تعيد الحياة إلي أم هو كبرياء منك وتخشين أن تصغري في نظري فتذكري لا كبرياء في الحب.

لم تكن مرام تتكلم بل تنظر إلى الأرض صامتة تعض على شفاها والدمعة محبوسة الأجفان تكاد تنزل على وجنتيها فغادرت الكلمات من فم رائد قبل أن يلحقه لسانه وبدأ يتلعثم بالكلام سائلا إياها: ما الأمر يا حبيبتي ؟

فأجابته بصوت كظيم مضطرب: جاءني خطيب غني في الرابعة والعشرين من العمر يعمل في الخليج وخطبني من أهلي ووافقوا على الأمر.

صمت رائد برهة وكأن بمزهرية سقطت على رأسه وشعر كطفل صغير تسلب منه دميته ولم يستطع الجواب فهو لا يعلم ماذا يريد منها,فبادرته متلهفة :تعال واخطبني من أهلي وان مستعدة أن اقنع أهلي وارفض الزواج من ذاك الشاب واني لأفضل الموت بين ذراعيك على أن ابتعد عنك فاعلم يا رائد أن الماء الذي يسير من النهر لايرجع ثانية ,هذا الكلام جعل رائد يحرك قدمه كثيرا وبعد أن طقطق بأصابعه أجاب :

ليتني استطيع ذلك وليتني لم أتزوج طموحي اللعين فلدي طموحات ويجب تحقيقها وعليك بانتظاري وكما تعلمين وضعي المادي جيدا ,غضبت مرام من جوابه ورفعت رأسها كما زهرة عباد الشمس تنظر للشمس عند شروقها وردت عليه بقسوة:

لا استطيع النوم في سماءك الحالمة وليتني استطيع التنفس في طموحك المضطرب وكم اشعر بالفشل لأني أحببتك فبدا رائد مغتاظا ومحتارا فأجاب القول :

مشكلتي أن سمائي سماء سكرى لأنني أحببت الخلود ولكم سأطعن في قلبي بالخناجر ولكم سأدوس على عواطفي ولكم سأضيع الفرص في حياتي إرضاء لطموحي الأناني فنهضت مرام وغادرت الغرفة بعد أن امتلأ عينا الاثنين بالدمع وجاء صديق رائد عماد يستفسر عن الأمر وعن سبب انزعاج مرام فشرح له رائد القصة.

ومرت الأيام وبدا عصبي المزاج يستخدم دواء الضعفاء لينسى به مرام فأمسى شرها للسجائر والخمر وبدأ يغني أغنية السكارى:لست بشوق مع الخمر إنما اشرب كي أنسى أحزاني فانا الذي رأيتها قبلك فكيف تأخذها مني.

انقضت الأيام مسرعة واقترب عرس مرام فجاء عماد ليستفسر عن أمر صديقه ويطمأن عليه بعد غيابه عن البروفات فبدا له متدهور الصحة نحيلا والسيجارة لا تفارق يده فسأله:

ما بالك يا صديقي مضطرب الأمر متدهور الحال والأمنيات اختفت عن وجهك؟.

فأجابه رائد والسكرة آخذة مفعولها:

أتعلم يا صديقي كم الدنيا عجيبة الشمس تشرق من بيتها وتغرب في قلبي القمر بدر عندها وعندي هلال والجو عندها ربيع وأنا خريفي قد حان فرد عليه عماد:

ما بالك تهذي تذكر طموحاتك وتذكر أهدافك التي تسعى من اجلها وحاول أن تعزي نفسك بذكرياتك.

فأجابه رائد بعد أن سقط كاس الخمر من يده وانكسر:

إن تذكرت طموحاتي فهي سبب مصيبتي وان تذكرت ذكرياتي فهي روحي وهي أشبه بدمعة تنزل من العين من حزنها ولكنها تريحني أما رائحة ذكرياتي فهي كرائحة الماء الرطب المسكوب على شارع ساخن عند الغروب بعد يوم صيفي حار ,فهي ستسافر إلى زوجها وربما تنساني ولكن أنا ما الذي سيصبح بحالي أأجن يا صديقي أم ماذا!!فلما الحياة كذبة كبيرة نعيشها ولما تنطفئ شمعة الأمل في قلوبنا المنهكة ولما نحن مقيدون بهذه الدنيا جئنا إليها بدون إرادتنا وسنغادرها دون أن يستأذننا احد.

بدأ عماد يواسي صديقه بالكلام:

لا تحزن يا رفيقي بوجود الشمس لابد من الظل أيضا وبانجلاء الليل لا بد من الصباح

فقاطعه رائد معلقا: لم يكن ليلي طويلا إنما صباحي قد أفل ,تبا لحياة سأبتعد فيها عن حبيبتي آلافا من الأميال ولكم أريد أن لا تكون لأحد غيري ,فقلبي القمر ومرام ضوءه ولا يمكن للضوء أن يبتعد عن القمر فمهما ابتعدت لا بد أن ترجع إلى فلكي.

فنصحه عماد بان يخرج من عزلته وان يفتح ذراعيه للحياة وينطلق فما زال حلم التمثيل ينتظره ونصحه بأن يعمل فالعمل خير دواء لداء الكآبة.ألقت نصيحة عماد بظلها على رائد وبدا عمله بالبلاط والبيتون فكان يخرج صباحا ويرجع مساء ثم يذهب للبروفات ويرجع في آخر الليل ليكتب مسرحية ألفها بعنوان(سخرية القدر) ثم يستسلم للنوم وهو يفكر في صورة حبيبته التي لا تفارق مخيلته لحظة فترتسم أمامه وباشر يخطط لطموحه وكيفية سفره للخارج لدراسة السينما.

في صباح له نكهة قهوة مرة وصوت فيروزي استيقظ رائد وتوجه للعمل وبيده سيجارته وكالمعتاد بثياب العمل الرثة المليئة بالطين سمع صوت خطوات أقدام ليست غريبة عنه وبدأت دقات قلبه تزداد فنظر للأمام فوجد مرام وسلم عليها وسألها عن وضعها والى أين هي متوجهة؟

فقالت:أنا في طريقي لاستلام تأشيرة الخروج فأنا مسافرة.

استغرب رائد وكأن بكلامها رمت حجرا في الطين فباغتها بجواب لم يدري كيف خرج منه:

أتدرين يا مرام إني انظر إليك وأكاد أجزم إن لقاءنا هذا سيكون الأخير قانت ستغادرين الوطن أما أنا لربما أغادر مدينتي ثم وطني وأخيرا أغادر العالم بأسره فليتني لم أعرفك لما آلمني فراقك وتذكري يامرام أن طموحي بحر عميق وليس لسفينتي مجاديف فقد تحطمت مجاديفي وتمزقت أشرعتي عندما تركتني.

فأجابته مرام وهي مقبلة على وداعه :

تذكر يا رائد أن الأمل والألم نتيجة وسبب وهما وجهان لعملة واحدة اسمها الحياة فلا تتأمل بشيء كثيرا لأنك إذا تأملت بهدف أو بصديق أو بحبيب و خانك الزمن فانك ستعاني نفس الكمية من الألم, فوداعا يا من كنت مالكا قلبي.

شعر رائد بالضيق واتجه لعمله الشاق فبدا منهكا ولم يكن ذاك الشاب المفعم بالنشاط فبدا شارد الذهن كثير التلبك متأملا لوجه السماء ومراقبا غيمة تحاول أن تغطي وجه الشمس .

في طريق عودته للمنزل اشترى رائد جريدة وتصفحها وإذ بإعلان يدعه يجلس على الرصيف ليقرأ الإعلان كان عبارة عن مربض بحاجة لكلية فخطر له خاطر وتحدث مع نفسه :

ماذا لو قمت ببيع كليتي الكثيرون يعيشون على كلية واحدة فبسعرها استطيع أن أدرس في الخارج وأحقق أحلامي وأصبح نجما مشهورا تتهافت علي المعجبات وتتناقلني الألسن عن بطولاتي وأفلامي ثم اصنع شركة للإنتاج واجعل مرام تطلب الطلاق من زوجها ونتزوج نحن الاثنين وتنجب لي أولادا يفتخرون بوالدهم ويرفعون رأسهم عاليا بي على مدى الأيام واجعل مرام بطلة في كل أفلامي.

آه, يا لها من فكرة غدا ولماذا غدا الآن سأتوجه إلى المستشفى لأسال عن أسعار الكلى وسأبحث عن أغلى سعر وأي مستشفى يدفع السعر الأعلى سأبيع كليتي هناك فكليتي زمرة دمها تعطي الجميع وهي من عائلة كريمة.

توجه رائد إلى عدة مستشفيات وسأل عن الأسعار فكانت بسعر مرتفع يستطيع أن يدرس بها في الخارج لمدة سنتين وطلب منه الطبيب فحصه في اليوم التالي قبل بيعه الكلية.

لم يكن رائد يدري كيف أن الصباح سيأتي وبدأ يعد الدقائق والساعات تطول عليه وغادر الليل وبزغ الفجر مع صوت العصافير يعطي ويبشر بأمل آخر بالحياة فجهز رائد نفسه وذهب للمستشفى واتقى بالطبيب الذي طلب منه خلع قميصه ليفحص كليتيه.

باشر الطبيب بالفحص واكفهر وجهه واشمئز مستغربا وسأل رائد سؤالا مباغتا :

ألا تعاني من الم ظهرك ووجع في راسك ثم الم تسال نفسك لما ظهرت هذه الندبات على يدك وألا تعاني من إنهاك في جسدك وألا ألا...؟؟؟؟

سأله الطبيب عدة أسئلة جعلت الرعب يسري في عروق رائد فصرخ رائد: ما الأمر أيها الطبيب؟ فرد عليه الطبيب بان كليته اليسرى تالفة واليمنى ليست على ما يرام وانه بحاجة لكلية في أسرع وقت ,كلام الطبيب كان كصفعة موجهة لوجه رائد وكضربة قاضية له فغادر المستشفى مسرعا وهو يفكر أيبيع والده المنزل في سبيل شراء كلية له ففكر بأنه سيكون أنانيا في نظر الجميع فقرر التوقف عن التفكير بالموضوع! وركض سريعا يعزي نفسه بأنه كابوس وليس حقيقة وطال في نظره عمق الشارع وبدت الأشجار أشباحا تلاحقه وبقيت مسرحيته (سخرية القدر) متوقفة عند احد فصولها وبدأت الغيوم تتكاثف في وجهه ونجمه يختفي رويا رويدا,فالجسد ليس ملكنا وإنما ملك خالقه...

صالة العرض


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى