الأحد ٩ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٧
بقلم رانية عقلة حداد

الكتابة على جدران قابلة للحياة

مضى وقت طويل قبل أن تجرؤ على فتح باب المكتب الخاص بجدتها، تذكرت ذلك المساء عندما كانت تجلس بقرب المدفأة تتأمل القمر عبر زجاج النافذة، وهي تصيخ السمع لحديث جدتها عن لغز عشتار، يراودها الآن وهي تدّور المفتاح في القفل أن جدتها لم تحدثها عن موت عشتار، وبعثها آنذاك الإّ لتهيئها لغيابها الشخصي، وإنها لم تغب الإّ لتعود مجدداً وقد استعادت تموز، ها هو الربيع ينبئ بعلاماته إنها قادمة، فتحت الباب يغمرها ذلك الإحساس بأنها ستجد جدتها كالمعتاد جالسة إلى مكتبها؛ تقرأ أو تكتب أو تروي لها الحكايا، لكنها لم تجد سوى صوت الذكريات الدافئ المنساب بهدوء من جدرانها يخفف وحشة الغياب، نظرت إلى المكتبة التي كانت تتمدد على مساحة الجدار، ممتلئة بالكتب المتنوعة يتخللها بعض الفراغات تحركت مستعرضة إلى أن وصلت بنظرها حيث فراغ أول كتاب قدمته لها الجدة كهدية، لم تزل تذكر حين حدثتها عن مكتبة اندريه فالوريس والفراغات التي ازدادت فيها بعد أن بدأت الكتب بالانتقال شيئا فشيئا إلى مكتبة صديقه البروفسير بطل الرواية، وكيف تحولت إلى فراغات مقدسة شأنها شأن الكتب لذا تركها خاوية، إنه الفراغ الخاص برواية أمين معلوف (القرن الأول بعد بياترس) الذي أرادت جدتها أن تستفتح به العبور.

يتقابلان يتوازيان ويمشيان معا جنبا إلى جنب ليفضيان إلى شرفة واحدة، هكذا كانت جدتها تحب أن تصف الفضاء الخاص بمكتبها، فتلك المكتبة بنوافذها المشرعة تقابل ذلك الجدار النابض بالكتابات والتاريخ، تتصل بطرفيهما شرفة تطل كلسان موشك أن ينطق حرفه الأول في حضرة اللوز العتيقة.

في إحدى الأمسيات كانت الأولى التي تحدثها فيها الجدة عن تاريخ المنزل، والجدار "على هذا الجدار صاغ نخبة من الشباب الثائر بيانهم... وعلى ذات الجدار عُلقت جثة بعضهم، ومنحته دماء بعضهم الآخر لونها القرمزي الداكن... فاشترى والدي المنزل، بعد أن استحال على من بقي من أصحابه أن يعيشوا دون أن ينكأ هذا الجدار بجراحهم".

تعددت الأمسيات ويبدو أن معها ستتعدد الروايات التي تحيط بتاريخ المنزل، فها هو الآن يعود إلى ثالث أجدادها كان قد واصل مسيرته إليها بما أنها الابنة الوحيدة لوالدها، فعلى هذا الجدار أودع الأجداد عندما كان كل منهم بعمر الأبناء كلماتهم، أودعوا فرحهم... ألمهم... حبهم... تمردهم، هنا على هذا الجدار، حينها قاطعت الحفيدة وهي تخطو نحو الشرفة استرسال جدتها: ولكنك قد أخبرتني سابقا أن والدك قد اشترى المنزل من اجل ذلك الجدار وشجرة اللوز تلك ومن اجل هذه الشرفة؛ فمن هنا كانت تطل الفتاة التي احب وعلى هذه الشجرة حفر اسميهما يحرسان القلب، ثم انتظر زمنا حتى استطاع أن يستعيد حبه قصائدا على الجدار التي راحت تكتبها فتاته بعد أن عارض والدها قرانهما إلى أن قضت كمدا، أي القصص يا جدتي صحيح.

فأجابتها الجدة: اسألي الجدار يا صغيرتي ونبضه سيحدثك.

والآن وقد غادرت جدتها، راحت تبحث في فضاء المكان وفي أحد أدراج المكتب وجدت مسودة لتأملات غير مكتملة... وقرأت:

(1)

الكلمات التي لا جدار لها تنبت فيه
تسقط على الطريق و تدوسها الأقدام
الجدار الذي لا تدفئه الكلمات
لا تبعث في مسامه الحياة

كتابة على جدار

ملعقة صغيرة، ملعقتان ثم سكبت الماء الساخن فوقهما، النسكافيه جاهزة الآن لم يبقَ سوى الهدفون، تناولت أحد أشرطة فيروز وضعته في المسجلة ثبتته على خصرها والسماعات في أذنيها، ها هي الآن جاهزة للخروج، كانت قد اتفقت وصديقتها ابتداءا من اليوم ممارسة رياضة المشي ساعة صباحا قبل العمل همت بالخروج لو أن صوت رسالة الخلوي استوقفتها؛ إنها صديقتها تعتذر عن الموعد، لا بأس سأمشي بمفردي حسمت الأمر، أغلقت الباب وضعت المفتاح في جيبها ثم ضغطت على زر تشغيل المسجلة، وحافظت على الصوت منخفضا، هذه هي المرة الأولى التي لن يكون فيها الشارع حسر الوصل بين الأمكنة، أرادت أن ترخي حواسها للشارع كي يعبر إليها، مضت نصف ساعة قبل أن تفلح بالاستمتاع برائحة ياسمين اللويبدة، وبصوت طيورها الممتزج بدفء صوت فيروز وبمنازلها، وهي تقاوم النسيان وكأن حنا السكران بعدو عم يصور بنت الجيران على حيطانها.

يهدأ إيقاع مشيتها... تتوقف تماما قبالة سور عال تتأمل عبارات حب إلى حبيبة مجهولة كتبت بخط صغير، وحرف لا بحجم صرخة عالية يتمدد أحمرا على الجدار يجاوره ثلاث نقط... لرفع الأسعار، ومزيج أصوات تختلط بعشوائية جميلة على رقعته الكلمات، والعبارات بألوانها، وأحجامها المختلفة تتسع لتحتضن أفكار وأقوال، مخاوف وأحلام انكسارات، وانتصارات جميع الناس على اختلاف منابتهم ومعتقداتهم وأعمارهم. هناك كلمة ماما صغيرة تحمل ارتعاشة يد طفل تظللها الله والوطن والملك، وهناك في الجزء الأعلى نعم للديمقراطية وبالسفل الله عليك يا سيدي، وفي مكان آخر الإسلام هم الحل، وعلى بعد خطوتين صوت عبد الحليم وأنا كل ما أقول التوبة يا بوي ترميني المقادير، في الأعلى رسم لحنظلة يتبعه... فلسطين في القلب... كي لا ننسى، ثلاث خطوات أخرى... لا للاحتلال الأمريكي على العراق مذيلة بعلامة النصر، في الأسفل قلب أحمد يرسل بسهمه إلى سهى... سأظل أحبك إلى الأبد. قد خيل إليها وهي تمشي أن السور ينمو وتنمو معه الكلمات... كانت تسمع عن معتقلين ومناضلين يستودعون ذاكرتهم بكلمات متمردة على جدران السجون، لكن لما يكتب الناس هنا، هل تحول الإحساس لديهم بهذا الفضاء الواسع إلى سجن بحجم وطن، ولكن مهما يكن لم يسبق أن سمعت اجمل من هذه الأغنية الشعبية وتساءلت هل من مكان هناك يستحق عن جدارة أن يكون منبرا للشعب اكثر من هذا الجدار؟

هنا تحتفظ الكلمات ببرائتها فلم يقبل فمها رقيب بعد، وهنا تتلاقى الأصوات يمتزج بعضها، يتصارع بعضها الآخر دون أن يفسد الود، فتبقى بحق مساحة حرة للأصوات، تخيلت انه على مسافة مائة سنة للأمام، عندما يفكر أحفاد أحفادنا أن يحدثوا أحفادهم عنا فسيكون هذا الجدار بوصلتهم النادرة إلينا، أحبت أن تشارك بصوتها مع الأصوات على هذه الجدارية قررت أن تكتب أول شيء يخطر ببالها، قطعت عفوية كلماتها صورة من الماضي البعيد لطفلة ترسم بالألوان على جدران المنزل، كانت هي هذه الطفلة وكان عقاب الأهل هو المسافة التي تفصلها عن الجدار فكتبت "اتركوا لأصابع أطفالكم أن تحلم كما تشاء.

في طريق عودتها قطع عليها التفكير بالجدار ما تناهى إلى مسامعها من نشرة الأخبار، وهي تمر بأحد الدكاكين عن بناء إسرائيل للجدار الفاصل على الأراضي الفلسطينية، فأعاد إلى ذاكرتها قطعة من جدار برلين قد أهدته لها صديقة شهدت إزالة الجدار، تابعت سيرها وهي تردد عندما يضيق الجدار بالأحلام سيتمزق وينهار.

(2)

هنا ولد الحلم
كتابة على جدار كهف

تسرق كلماتي يقظة القمر
فقد يأتي الفجر خلسة

كتابة على جدار سجن

يوم كان الإنسان يبحث عن لغة تشبه حلمه وتجسد فزعه، مزج العظم بالدم، وراح يرسم حرفه الأول في عمق ظلمة الكهف، حك العظم بالجدار؛ فتوهج الدم وأنار في النفق درب الخروج.

هل صدفة أن للكهف والسجن ذات القسمات، على جدرانها تخلع الكلمات صمتها وتعلن أنها عتبة الأيام المقبلة، ودهاليزها تحفظ صور ارتعاشة الأجساد التي حفرتها.

لم تكن قد شاهدت معتقل سياسي من قبل، وها هي الآن تتحرك في أرجائه بقيادة دليل من أحد أبنائه المحررين، كأنها تتجول في متحف على خلفية المكان صوت أغاني للمقاومة والدليل يشرح؛ هذه ساحة الشمس هنا في هذه الساحة الصغيرة، كان يضعنا جيش الاحتلال ملتصقين ببعض لساعات طويلة تحت أشعة الشمس الحارقة؛ من ينجو من ضربة الشمس يكافأ بحمام بارد من ثم عليه أن ينشف الأرض بلسانه، ثم قاد الدليل الوفد الزائر والكاميرات تتدلى من أعناقهم إلى ساحة أخرى صغيرة مثبت فيها أعمدة حديدية هنا كان يربط العدو أيدينا للأعلى بهذه الأعمدة وتبقى أقدامنا تتأرجح لأيام، اقترب أحد أفراد الوفد وطلب من زميله أن يصوره بجانب أحد هذه الأعمدة للذكرى، ثم تابع الدليل وهم يتحركون؛ هذه غرفة التحقيق هنا كان يجلس العدو المعتقلات ويوصل (عدم المؤاخذة) بعض المناطق الحساسة بأجسادهن بمقابض موصولة بتيار كهربائي، صور أخرى للمكان ثم تابعوا؛ هذه زنزانات المعتقلات وتلك زنازين المعتقلين، استعدت لتدخل إلى أحد زنازين المعتقلات بما أنها الأقرب وهي تعد كاميرتها لالتقاط صورة؛ منعها الدليل كما منع الآخرين من الدخول خوفا من انتقال الأمراض لهم، فالحمام جزء من الزنزانة مفتوح عليها لا يفصله عن الآسرة سوى قاطع صغير، وقد انتشر الذباب المتجمع حول الفضلات وعلى الرغم من سوء الرائحة التي تعم المكان لم تستطع أن تقاوم التقاط صورة لذلك الجدار، حركت عدسة الزوم ورسمت بالضوء ذاكرة الجدار، وقد استعاد الزمن عليه وجوده بحزم من عصي تستدير لتحتضن كلمات الشابي: "إذا الشعب يوما أراد الحياة... فلا بد أن يستجيب القدر " تلتف بدوائر تتسع لتأخذ شكل الحلزون، لم تسجل بعدها سوى صورة لسجن انفرادي كانت قد أمضت أشد المعتقلات صمودا وشراسة فيه ما يقارب العام، فتح الدليل الباب كانت تعتقد أن ما يجعله انفرادي هو انفراد السجين في الزنزانة فلا يشاركه أحد، لتكتشف أن الزنزانة التي كانت تتسع لثلاث آسرة، وحمام تقلصت لتصبح صندوق مغلق معتم طول متر بعرض متر بارتفاع مترين، يقضي فيه المعتقل الوقت امّا وقوفا أو جلوسا وهو يتكئ بظهره إلى الحائط، وبجانبه الحمام على هيئة سطل لا ضوء أو هواء يعبر المكان سوى من فتحة رأسية في منتصف السقف بقطر البوري، والآن وباب الصندوق مفتوح، وقد غمره الضوء أغمضت الكاميرا عينها على شكلٍ لحرف النصر مكتوبا على طول الجدار ونامت.

(3)

هنا يتعلم البكم النطق
ويتهجى الجسد أبجدية الجسد

كتابة على جدار حمام

لم يزل صوت المحاضرة يرافقها وهي تردد "حقوق الإنسان تبدأ من الحمام"، يومها استغرقها وقت طويل، وهي تفكر ماذا يمكن أن تعني، كيف يمكن أن تبدأ حقوق الإنسان من الحمام، بدت تركيبة الجملة غريبة بالنسبة لها، فبقيت تحضرها بشكل قوي في كل مرة تدخل فيها الحمام، ويبدو أن أصدقاءها حينها انتابهم نفس الشعور فبعد المحاضرة كانت هذه الجملة الوحيدة التي علقت وبشكل قوي في أذهانهم لم يصلوا حينها لفهم معناها، إلى أن أحد الزملاء اقترح تفسيرا بدى معقولا، فقال أن الحمام هو اكثر الأماكن التي تظهر فيه سمتي الشراكة والصراع ففي البيت قد يكون لكل فرد سرير أو خزانة بشكل منفرد، ولكن ليس هناك سوى حمام واحد يشترك فيه الجميع وقد يحتاجوه في ذات الوقت، وأن لم يفكر أحدهم بالآخر وبإتاحة الفرصة له، وتنظيم الأمر تبدأ المشاكل التي تقود إلى اكتشاف الحقوق والواجبات التي لنا وعلينا، بقي هذا التفسير يحمل القدرة على إرضائها لحد ما لوقت طويل، واليوم وهي تدخل أحد الحمامات العامة الذي تتسع دائرة المشتركين فيه على اختلافهم وتنوعهم، يحضر السؤال مجددا وبشكل قوي، فهي لا زالت تبحث عن إجابة اكثر إقناعا.

كانت هذه هي المرة الأولى التي تدخل فيها إلى حمام عام مختلط، فالحمامات العامة التي ارتادتها سابقا جميعها مخصص للنساء، ولم يسبق لها أن لاحظت أي كتابة أو رسوم عليها استعرضت الرسومات والكتابات، استوقفها ترسمان متجاوران أحست انهما مألوفان، وانه قد سبق لها وأن شاهدت هذان الشكلان من قبل، ركزت قليلا، تذكرت... كانت قد شاهدت ما يشبهما في كتاب الأحياء، وتذكرت أيضا أن المعلمة قد عاقبتهن بقراءة هذا الفصل لوحدهن، ولم يعرفن للان سبب العقاب، كان مدون اسفل الأشكال على الجدار أسماء أخرى غير تلك التي كانت مدونة اسفل الأشكال في الكتاب، ولكنها بذكائها استنتجت انه لا بد للأسماء المختلفة اسفل الأشكال المتشابهة أن تحمل نفس المعاني، استكملت القراءة على الجدار المجاور هناك كلمات سمعت بعضها في الشارع تلقى بصيغة للشتم كانت تخجل أن تلفظها بداخلها، وما أن تسمعها حتى تستغفر ربها وتجهد نفسها أن تطرد هذه الكلمات من أذنها الأخرى، فسماع كهذه الألفاظ يجعلها شريكة في الإثم هكذا دأبت أمها على تحذيرها، لكنها هذه المرة لم تصم أذنيها، فلا علاقة للأذن بالصور، فالصور لا يمكن أن تدخل من عين وتخرج من الأخرى في مسار أفقي، بل تدخل من العينين معا وتنعكس عموديا على الدماغ، ولان الدماغ موقعا للتفكير استفزت صور رسومات وكتابات هذا المكان الضيق فيها الأسئلة، فأحالته إلى فضاء رحب يتسع ليشمل صور السبابة، وهي تنتصب بمفردها محذرة، وهي مترنحة ناهية وهي تهوي باتجاهها متوعدة مرتبطة بصور وجوه متعاقبة للأب، والأم، والأخ، والمعلمة، والأقارب، تمتزج جميعها على الجدران بضجيج الكلمات والرسومات والأسئلة.

 لماذا الكتابة على الجدران؟ ولماذا هنا في الحمام؟
 هل يمنح هذا المكان للجسد مرآته؟
 ما هو النائم الذي يوقظه هذا المكان؟ ولماذا هو نائم؟
 هل يمارس المرء التفكير على جدرانه كما لو إنها ذاته؟
 وإذا كان كذلك هل يعني هذا أن للرجال ذوات مفكرة لا نمتلك نحن النساء ما يكافئها فتصخب جدرانهم في حين يلف الصمت جدراننا؟

في أكثر مكان مشترك مع الآخرين يمارس الفرد خصوصيته، فهل هذا معنى أن حقوق الإنسان تبدأ من الحمام، حيث يبدأ المرء باكتشاف جسده ويبدأ يؤرقه السؤال كما يؤرقني الآن لم لا يحق لنا أن نفكر بأجسادنا؟
ومن يمنح الحق في التفكير فيه؟
لم حرام و لم عيب؟
خرجت من الحمام دون أن تقضي الحاجة التي دخلت من أجلها، محمومة بزخم الأسئلة.

(4)

للحب هنا نكهة التفاح و رائحة التوت
هنا تبادل آدم و حواء قبلتهما الأولى

كتابة على شجرة تفاح

كان قد انتهى توا من غرس قلبه بين المقاطع الأولى لأسميهما على الشجرة جلسنا في ظلها، لم يكن الفصل شتاءا كما تهيئه الأغاني للحب، كانت الأوراق تتساقط في طيفها الغامر بين الأحمر والأصفر لتمنح المكان دفئا خاصا، توقد جذوة الحب المطفأة، وإحساسا فريدا بأن الحياة ستبدأ توا، التفتت إليه تؤرقها فكرة ما: هل الكتابة على الشجر تمنح حبنا ديمومة؟ أخشى أن هناك أشياء ما أن تلفظها خارجا حتى تموت، فهي لا تكتسب هذا الوجود الا من كونها سرا.

فأجابها وقد ملأته الثقة: أن الكلمات التي تخرج منا وتحيا مستقلة عنا قادرة على الشهادة بان يوما كنا نجلس أنا وأنت هنا نتبادل الحب وهي وحدها تمتلك القدرة على الخلود، ألم تغني فيروز؛ بكتب اسمك يا حبيبي على الحور العتيق، وبحكي عنك يا حبيبي لأهالي الحي، ليحفظ الكلام ولتحفظ الكلمات الحب، فالحب المعلن على صفحات الشجر أو على ألسنة الناس سمة للبقاء، أو لم يخلّد حب قيس وليلى بكلمات خرجت من فم قيس متخذة شكل القصائد، ولزمن أبعد ألم تكن كتابات ورسومات الفراعنة على الجدران شكلا للخلود، فلولاها هل كنا سنعلم أن قبل خمسة آلاف سنة كان هناك أناس يعيشون، يحبون ويحلمون بأن يستعيدوا الحياة ثانية.

هي: لكنهم لم يستعيدوها ثانية، وكذلك قيس هل تعتقد انه احب ليلى بالفعل، أم انه كان هائما ولها بصدى الكلمات وهي تردد اسمه حتى لو كان ممزوجا بالندم والفراق، هل فعل شيئا حقا من اجل أن يحافظ على ليلى وحبه غير النطق بالكلمات، كما أني لم اسمع عن حب كتب على خشب الشجر وخلّد، ثم هل هي الرغبة في أن يرى المرء امتداده في الاسم على الشجر، تماما كما يرغب الأجداد في أن يروا امتداد لأسمائهم في الأحفاد، فلم اكن اقصد الديمومة بمعنى البقاء بعد غيابنا، وإنما الاستمرارية ونحن موجدان على قيد الحياة، أرغب أن ينمو الحب داخلنا لا مستقلا عنا على خشب الشجر، صمتت برهة وأرسلت نظرها في الأفق بعيدا كانت تتخيل أمرا ما، مسكت بيده وابتسمت بهدؤ: لكن ما يسعدني في رؤية القلب واسمينا على الشجرة هو احتمال أن هذا الجزء يمكن أن يكون يوما حطبا في مواقد العشاق؛ يحترق ليمنحهم دفئا، فيعمر ويحفظ في قلوبهم الحب، كما يحفظ دفء هذه الأوراق المتساقطة فينا الحب، واستدارت إليه ضاحكة: حينها سينفرد اسمينا أنا وأنت بمعرفة أسرارهم كما تفعل الآن هذه الشجرة وتلك الأوراق.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى