الخميس ١٣ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٧
بقلم نعمان إسماعيل عبد القادر

حارَةُ الْحَرامِيّة

حارتُنا تُدعى "حارةُ الحراميّة". أَما إِنَّهم قدْ أَطلقوا عَليها هذا الاسمَ؛ لا لأَنَّ سُكانَها اليومَ من اللصوصِ الْمهنيّينَ، ولا من باب التحقير، بلْ لأنَّ الغالبيةَ العظمى منْ شبابِها كانوا في القرنِ الماضي يحترفونَ سرقةَ السياراتِ، ثمَّ تابوا منْ بعدِ ذلكَ وَأُصلحوا وَانتقلَ الحُكمُ إلى يدِ نسائِها.. فأُطيح بالمختار "أسعد بك"وأصبحت "الشيخة زينب"مختارتها.. ومعْ ذلكَ لَم يتغيّرِ اسمُها، خاصّةً بعدَ أنْ أقرّتِ النساءُ هذا الاسمَ واستحسنتهُ منْ بابِ المجاملةِ أوّلا وحتّى لا يُعابَ الرجالُ بهنَّ ثانيًا. والنساءُ في حارتِنا، حدِّثْ ولا حرجٌ.. مولعاتٌ بالثرثرةِ.. دهاؤُهنَّ يفوقُ دهاءَ ابنِ العاصِ وابنِ شعبةَ.. وقدرتهنَّ على المناورة جعلت لهنَّ حظًّا وافرًا في حفظِ السلمِ والمحافظةِ على الأمنِ العامِّ في الحارةِ. فلا يجرؤُ رجلٌ على الاعتراضِ على قراراتِهنَّ المقدّسةِ. ولم يُفكِّرْ أحدٌ يومًا بالإطاحةِ بهنَّ. وقَبِلوا بالقدرِ الّذي فُرِض عليهمْ.. هذا قضاءُ اللهِ وقدرُهُ. والعجيبُ أنَّهنَّ لا يتركنَ أحدًا في حالِهِ.. والويلُ ثمَّ الويلُ لمنْ يقعُ فريسةً لألسنتهنَّ.. ويقال إن لهن قناة اتصال خاصة ومباشرة بالشياطين لا يعلم سرّها إلا هنَّ والله.. ما من رجلٍ أو ولدٍ يسلم من شرهن.. فإذا ما وقع فرمان الحرمان المقدّس على رجلٍ أو ولدٍ، نبذه الناس من حارته وأصبح صعلوكًا ولن ينفعه بكاؤه ولا توسلاته إلا بعد أن يقوم بزيارة لبيت "الشيخة"وشرائه منها صكًّا من صكوك الغفران بسعر خياليٍّ.. وهذا لا يقدر عليه إلا الرجال الموسرون. والأدهى من ذلك أن لديهن حب الاستطلاع بحيث لا يهدأ لهن بال إلا بعد أن يعرفن أدق التفاصيل عن كل رجل غريب يمرّ من حارتنا. ويقال إنه إذا ما اجتمعت امرأتان وتشدقن بالكلام، راح يلتف حولهن نفر من الشياطين يوحون لهن بكل تفاصيل هذا الرجل.. لذلك يُكشف لهنَّ الغطاء فيعرفن متى ينام، ومتى يأكل، ومتى يدخل إلى المرحاض ليقضي حاجته، ومتى يجامع زوجته، ومتى.. ومتى.. والأمرُّ من كل هذا وذاك أنهن متفقات على الرجال، فلا يعرف أحد سرًّا من أسرارهنَّ، ولا تُفضي إحداهن لزوجها عن أسرارِ المهنة.. وبلغ بهنَّ الأمر إلى تسخير بعض الرجال ليكونوا أعوانًا لهن..

أما رجال حارتنا فالكثير منهم يحاولون تقليد نسائها في مشيتهن ولباسهن ونطقهنَّ وذلك عملا بالقاعدة التي تقول: إن الضعفاء يرون المثالية في سلطة الأقوياء. فمنهم من يربط شعره و"يقرمله"بضفيرة أو ضفيرتين. ومنهم من يتنمّص كما يتنمصهنَّ. ومنهم من يتغنج في كلامه ويضع المساحيق على وجهه حتى يبدو كأنه أنثى.

صدر ذات يومٍ قرار الحرمان التاسع بعد المائتين وينصُّ على مقاطعة "مسعود الدهّان"ونبذه وحرمانه؛ إذ إنه خرجت شائعة بأنه يخون زوجته ويخرج مساء كل خميس مع إحدى النساء من حارة "الخواجات"إلى شاطئ البحر ويقضي معها النصف الأوّل من الليل. قرر "أبو علي"الخروج والتمرّد والاعتراض على هذا الحرمان مدّعيًا أنه يعرف الرجل حقَّ المعرفة ويعهد له استقامته وحبّه لدين الله بحيث لا تفوته صلاة الصبح جماعة في المسجد منذ عشر سنوات وصار يدعوه كلّما رآه بحمامة المسجد.. وكلّ ما أُشيع ضده إنما هو بهتان مبين.. ولهذا فإن الحرمان فيه ظلمٌ لهذا الرجل الأمين. يا سبحان الله! ألإنّه رجلٌ؛ لا يتركنه في حاله؟ أين ذهبت جمعيات الدفاع عن حقوق الرجال؟ لا بدّ من الخروج ضد هؤلاء النسوة. سأبدأ بنفسي أولا. حبّذا لو يفهم الرجال جميعًا أن نار رجلٍ واحد خيرٌ من جنّاتهنَّ جميعا.

كان ذلك يوم السبت. يوم العطلة الرسمية. والساعة قد جاوزت الثانية عشرة بقليل، والمقاهي تكون في مثل هذه الساعة مليئة عن بكرة أبيها برجال الحارة. خرج أبو علي يلبس فانيلة زرقاء كتب عليها لا للنساء، ولمّا وصل مقهى "الشاطر حسن"وقف على مدخله ورفع لافتة كتب عليها – "لن أنساك يا مسعود ولن أقاطعك يا مسعود". رآه أحدهم وقام في الحال بتصويره بواسطة هاتفه النقال ثمّ خرج لتوّه واختفى عن الأنظار دون أن يشعر به أحد. وبعد ساعة عُقد اجتماع طارئ في بيت السيدة "هيام الفرّانة"، واقترحت في إحداهنَّ على إصدار حرمان جديد ضده، واقترحت ثانية بالاكتفاء بالتنديد والاستنكار، في حين اقترحت ثالثة بإيقاعه في حضن فتاة جميلة قبل أن ينتشر فكره بين الناس.. فاستُحسن الرأيُ الأخيرُ بتصويت من أغلبية الحاضرات، وصدر القرار بتنفيذه فورًا ودون أي تأخير.

والناس منهمكون في مأدبة أكل المناسف البدويّة والمشاوي الريفيّة التي أُحضر لصناعتها أمهر الطباخين، وأُعدّ لتقديمها أجمل النادلات، والمناسبة، وليمةٌ لوجه الله على نفقة "نائل الطيّار"، والدعوة عامة، إلى الزاوية اليمنى المحاذية لمدخل قاعة الطعام، في الجهة الجنوبية بالتحديد، انعطف أبو علي بعد أن سلّم على المستقبلين واتّخذ مجلسه برفقة ثلاثة من أصدقائه، متحلّقين حول طاولة مستديرة، مُلئت بأصنافٍ متنوعة من السلطات والمخللات والمشروبات الخفيفة، إذ طلعت عليهم فتاة جميلة، لها هيئة مضيفات الطائرات.. ابتسامتها تبعث البهجة والسرور في النفوس.. نظراتها الساحرية تلهب المشاعر.. فتذكّر أبو علي مغامراته مع فتاة أحلامه الأولى التي لم يستطع الاقتران بها بعد أن رفض والده تلبية طلبه لكونها مسيحية الأبوين. ثم قال في نفسه: "يا سبحان الخالق! ما أجملها! لقد كان يتفنن في خلقها". تقدّمت إليهم بخفّة وقالت بابتسامة خجولة ونظراتها مصوّبةٌ نحو عيني أبي علي:

- عندنا مناسف بدوية ومشاوي قرويّة. ماذا أستطيع أن أحضر لكم؟
- أرجو أن تحضري لنا مشاوي على الفحم.
- على الرحب والسعة خمس دقائق لا غير.

المنسف حضر في الحال، والورقة التي شُكّت تحت طبق أبي علي، كتب عليها العبارة التالية: "هذا رقمي وأرجو أن تتصل بي الساعة الحادية عشرة من هذه الليلة".

من أوّل مرّة منذ أن هاتفها، ظلّت تحوم حوله فألقت بظلالها عليه فاستسلم لها بعد يومين في أحد فنادق تل أبيب وظلّ يخوض التجربة تلو التجربة حتى أنساه هذا منسفه ومسعوده فثبتَ عليه القول وأُلحِق بمسعود الذي صار من صعاليك حارتنا ولم يتذكّره أحد من الناس منذ أن نبذوه قبل أسبوعين.. فتوسّل أبو عليٍّ "للشيخة"وحاول إقناع الناس بأن لا يعود على فعلته السوداء، ولا يملك الآن ثمن صكٍّ من صكوك الغفران، لكن لم يسمعه أحد من الناس فقاطعه الناس وقاطعته أنا كذلك مثلهم وطُرد من حارتنا وانضمَّ إلى طائفة الصعاليك التي يرأسها عروة بن الورد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى