الأحد ١٦ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٧
بقلم السيد نجم

بائع متجول بدين

 1-
الوحيد الذي نجا من تلك المماثلة الغريبة بين سكان الحي الذي أقطنه بمدينة القاهرة..مجهول الاسم والعنوان. الجميع يتعرفون عليه ولا يعرفونه.. غامض. وهو بالضبط سر انجذابي إليه. أتلصص خطاه، وإيماءة رأسه، ونظرته نحوك قابض على جفونه، كأنه يسعى لأن يغمضهما. شغلني: من أي مادة يصنع وجوده على الأرض، ذلك القصير اللئيم الذي حارت فيه العقول.. ترى من الرصاص أم من الزهور ؟!

ربما تدهش لو عرفت قراري فور أن رأيتهم حوله، شيوخ الحي يسألونه: لماذا ترفض صحبتنا؟ لماذا تراهن على غفلتنا؟ .. مادمت نجحت في الظهور والاختفاء بين طرقتنا، فما الذي يمكنك إنجازه أكثر ؟!

كأنه مصنوع من النحاس والأسلاك المعدنية. نادرا ما تجده يبتسم، عفوا تسمع فحيحا من خلف شفتيه. منتظم الخطو بين شوارع وحارات الحي.. يبدو وكأنه غير معلق بشيء على الأرض .. فلا تشعر به.

إلا يوم أن اكتشفوا نقطة ضعفه، يوم أن عرفوا أنه يغيب في غداة يوم هزيمة فريق كرة القدم الذي يشجعه. فهو لا يعرف أيام الإجازات أو الأعياد والعطلات الرسمية. دوما له ميقاته بين الطرقات، كأنه يحرص على شئ ما في رأسه، أكثر من حرصه على الشراء والبيع !!

صامتا يتحرك خلف عربته الخشبية. بخفة وبسرعة تثير التساؤل: ماذا يبغي هذا البائع المتجول البدين؟ تأكدت أنه يعمل في كار بيع وشراء المخلفات أو "الروبابيكيا".. من الأثاثات حتى هلاهيل الملابس القديمة.

الصحف التي كثرت في الآونة الأخيرة، وقد اعتاد الناس على شرائها، ربما يسرون على أنفسهم ليضحكوا في صمت من كثرة ما يقرأون وغرابة ما يعرفون: إن من رجالات السياسة المرموقين، ولاعبي الكرة المشهورين، وفناني السينما.. يطون خلف جلودهم أسرار تشيب لها الأجنة في الأرحام.
فنجح الملعون.. الكل في انتظاره للتخلص مما يقتنون.. وقد راجت ظاهرة بيع الكتب والصحف القديمة.

دعوني لا أنسى أن أخباركم الأخيرة،حي الذي أقطنه، بدا لي خلال السنوات الأخيرة، أنك لا تستطيع أن تفرق بين أفراده إن أصدرت حكمك من نظرة أولى. فملابسهم التي تعلو أجسادهم، لا تعنى شيئا. تنتشر بينهم البنطلونات الجينس وفوق عضلات صدورهم "تى شيرت" تبرزها. والفتيات الصغيرات بألوان ملابسهن الفاقعة الزاهية، وجيباتهن المشقوقة من الأمام أو من الخلف وربما على الجانبين.

الحي الذي أقطنه منذ ميلادي، مواطنوه من الموظفين الفقراء وصغار الحرفيين وعمالهم . لكنني أعلم تماما أنهم يملكون أجهزة التليفزيون، وبعضهم اقتنى الفيديو حين رواجه.. ومازالت تعلو أطباق استقبال الأقمار البعيدة. يكفى طبقا واحدا لأن يجعل كل سكان المنزل يحيلتهم، خيلاء أن أحد جيرانه يقتنى "الدش"، ناهيك عما سمعته من مشاجرات بين الأزواج على اقتناء المزيد منه، اسوة بالجيران.

ولا أدرى لماذا لا أشعر بضعف جيراني وقلة حيلتهم، إلا إذا زرت المستشفى العام بالحي أو حتى تلك الملحقة بالمساجد ؟!

ومع ذلك أراهم يسيرون أمامي، وكأنهم يتساقطون عفوا في مياه آسنة عميقة.

 2-

"حمامة".ذي نجا من تلك المماثلة الغريبة بين أفراد الحي، هو هذا الكائن. "حمامة" .. لقب أطلقه البععليه، ربما يميزونه حين يتحدثون عنه، وكثيرا ما يفعلون. وإن دهشت لقراري بأن أعرف الرجل حقيقة، أخبرك أن هذا الشيء السائر إلى جواري، الصحيح الذي أعدو إلى جواره علني الحق بخطواته. تسبقني وتسبقه العربة الخشبية التي يجرها بكل سهولة ويسر.

لم ينبس عندما القيت التحية، ولم يكف عن الاندفاع.. أ لست أحد الزبائن؟!
القيت نظرة نحو العربة(الصندوق متأنية. لم أر سوى كومة من الكتب القديمة والصحف والمجلات. أمرته بالانتظار حتى ألقى نظرة متأنية .. فأنكاتب، يعشق اقتناء الكتب.

وقف صامتا، بدأ اللعبة.تابا تلو آخر، وفى كل مرة يسلمني كتابا واحدا، فآمره بآخر.. وهكذا حتى مللت اللعبة . وكأنه لا يسعى للبيع ولا يرغب في الشراء. لفت انتباهي أن وجدته يفر الكتاب قبل أن يسلمه لي، فسألته وأجاب: "حاكم الجماعة بتوع الكتب.. كل أسرارهم يدسوها فيها. إما يكتبوها أو يخبئنها بين أوراقها".

لم أفهم وإن سعدك بحديثه الأليف.. أفاض قائلا:" مرة لقيت واحد داسس ويعرف،شرة جنيه، ومرة شكوى إلى ربنا، وكتير لقيت خطابات غرامية".. فلما اقترب أكثر من أذني ليسر بما يعرف، نفرت أنفى من رائحته الحادة كأشواك سيقان التين .

أخبرته برغبتي في شراء جمحصان،يحمل، علني أبقى إلى جواره لفترة أطول.. إيماءات الرجل زادت، لمحته يثنى ركبتيه بآلية غريبة، و كأنه حصان يهم بالعدو حالا. بدلا من أن أناديه بالعم حصان، فضلت أن أناديه ب"العم فارس".

لم يعترَض، لكنه فاجأني بالتحرك تجاه الشارع. لم نتفق على قيمة الكتب.. بعضها بين كفى وأكثرها في قعر افارس، الخشبي. بدأ يثرثر ويسرع الخطو معا. حدثني عن ورثة كاتب معروف يقطن الحي، لم تصبر أسرته على بقاء مكتبته، كوموها والقوها بأقل الأسعار إلى فارس، حملها ثم لعنهم كلهم ..لم يلحق بهأحد..

المجنحتين، قدميه المجحدد.، إنسان آخر أعدو خلفه: يثرثر وهو يزيد من سرعته، يبدو وكأنه لا يعبأ بالبيع أو بالشراء، ولا بمشهد تلك الحشرات التي تتقافز بين الكتب هناك.رفض أن يبيع بأقل مما حدد .. فلعنته وأسرعته مائلاوم خاسر.. لم يغضب.

وصلنا إلى الشارع الكبير.. مازال على حال عجلته و ثرثرته. رويدا زاد غضبى.. ويزيد هو من سرعته مائلا نحو عربته الخشبية العفنة.. خلته و العربة شيئا واحدا.. يتدحرجان معا حتى فاق خطواتي. .. وقفت أتابعه وأنا أراه يطوى أسفلت الشارع، وكأنه يهم بالطيران.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى