الأربعاء ١٩ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٧
بقلم ميلود بنباقي

سعدك يا مسعود

"مسعود! انتبه يا مسعود، إنك تسبح ضد التيار.. طاوع الماء ولا تعانده."

هكذا هتف الهاتف في داخله فهب مفزوعا وحك رأسه بيدين مرتعشتين. تفل وأخذ نفسا عميقا وأرخى جفنيه المبتلتين بدمع النعاس. كان مجرد حلم.

"حلم؟ هل حلمت حقا؟ يرحم الله الحلم وزمن الحلم. زمن السمن والعسل والزبدة الصافية والناس الأخيار الطيبين، لا يكيدون ولا يمكرون ولا يتسلل الحقد إلى قلوبهم البيضاء وسرائرهم النقية... جيران وأصدقاء وأعمام. زمن المطر والغلة التي تفيض عن الحاجة وتبور في السوق إذا حملها الفلاح للسوق لأن البطون شبعانة والعيون ملآنة والناس قانعون ومقتنعون.

حلم؟ هل حلمت حقا؟ هل نمت فعلا؟

منذ أيام لم أنم إلا نوما متقطعا تتخلله الكوابيس وصياح الأطفال وشتائم النسوة وزعيق السيارات ومشاجرات المخمورين والمنحرفين... مذ وطئت قدماي السعيدتان هذه المدينة لم أنم كما نمت في زمن السمن والعسل الذي ولى وراح دون رجعة. أقعي أسفل عمارة بئيسة وسط البرد والظلام و فوضى الليل العارمة وغربة الحواس؟"

نفض ثيابه ونهض. الناس في الشارع كالنمل، لا يدري من أين يخرجون وإلى أين يذهبون، وماذا يأكلون وكيف يولدون، وأي أرض تسعهم عندما يموتون... كان يسيرعكس اتجاه عموم الناس في ذلك الشارع الطويل. وكان بقامته القصيرة وجسمه النحيف، يعاني الأمرين وهو يخترق الجموع ويتسلل بين الأجساد والحقائب والروائح. يدفعونه بأكتافهم رجالا ونساء وتصطدم يداه في هبوطهما وصعودهما، بأيديهم وبأنحاء متفرقة من أجسادهم. ينط وينحرف ويدير كتفيه ليتجنبهم ويتفادى لمس ما حرم الله، غاضا بصره ما أمكن، ناهيا نفسه، لاعنا الشيطان ووساوسه.

"انتبه يا مسعود، إنك تسبح ضد التيار!"

"ولماذا أسبح ضد التيار؟ بل لماذا أسبح أصلا؟ لماذا لا أسير في الاتجاه الصحيح؟ اتجاه الماء والتيار والناس؟ اتجاه الوقت والموجة؟ لماذا أعاند؟ المثل يقول: افعل ما يفعله جارك، أوغير باب دارك. أسيادنا الأولون رحمة الله عليهم أجمعين لم يتركوا حكمة إلا دونوها و نقلوها إلينا."

حك رأسه واستدار، فأصبح الشمال أمامه والجنوب خلفه والناس يمشون على يمينه وشماله. أضحى سيره أيسر من ذي قبل. الشارع أمامه طويل، حتى لكأنه يبدو بدون نهاية. كأنه الزمن الذي لا يدري أحد متى وأين بدأ، ومتى وأين سينتهي.

طال به المسير فبدأ يتعب وأصبح جسمه عالة عليه، وصارت قدماه أثقل. والشارع يتخفف من حمولته الآدمية رويدا رويدا حتى أصبح شبه خال. "أين ذهب الآخرون؟ أين اختفوا؟ لا لا، هذا ليس هو السؤال المهم، بل أين أذهب أنا وأين أختفي؟"

حك رأسه وظلت أسئلته غصة في حلقه.

الشمال أمامه والجنوب خلفه، لكن لا أحد جنبه هذه المرة. كأن الأرض انشقت وابتلعت أسراب النمل. برد الليل يجمد أطرافه كلما توغل الليل في هذه المدينة المتعبة. ثقلت مشيته وانحنى رأسه على صدره وتضاءلت همته.

"همته؟! همة من، همتي أنا؟ وهل جئت إلى هذه المدينة الملعونة بإرادتي حتى تكون لي همة أو ما يشبه الهمة؟

الزمن الغدار ودوائره المتقلبة تتسع يوما وتضيق أياما وليالي. القدر المكتوب على الجبين من يوم الولادة إلى يوم الدين. الجفاف الذي بطش بالقرية، فشح الماء وهلكت الماشية وغطى الغبار الحقول والطرقات وجباه الناس. كسرة الخبزالتي صارت أعز من الذهب. مطالب الأولاد التي لا تنتهي ولا ترحم والمعيشة الغالية... ولا أحد يقول: كان الله في عونك يا مسعود.

زيت وسكر وشاي ودقيق وخضر ولحم ودفاتر وكتب وإنارة وصابون... حذاء رياضي وجوارب وتذكرة حافلة ومشط لهذا، وملين شعر لتلك، وعلكة وعجين وقلم رصاص وأقلام ملونة و تأمين مدرسي ورياضي، وجمعية آباء وأمهات وجمعية رياضية... قاموس عربي فرنسي، وفرنسي عربي، وفرنسي إنجليزي وعربي أمازيغي... أي زمن هذا؟ أي جيل؟ أي ويل أسود؟ أي مسخ؟

سعدك يا مسعود، عشت وشفت وسمعت العجب. ملين شعر وصباغة شعر؟! تأمينات في المدارس وأمهات في الجمعيات وقواميس من كل نوع! كان الله في عونك يا مسعود، الزمن قهار والقرية بخيلة والأولاد كبروا وعددهم ارتفع... البقرة الوحيدة ماتت منذ شهر والفدان لا يساوي ثمن بصلة. الزمن يدور كعادته دائما، كأنه لا يدري ما حل بالناس وبالقرية. هذا رمضان وذاك عيد وهذا صيف حار يعقبه شتاء بارد، وقائمة الحاجيات تطول... ملابس العيد وكسوة الشتاء وأمراض الصيف وحنة عاشوراء وحلاوي رمضان وكسكس الجمعة...

سعدك يا مسعود، عشت وشفت وسمعت العجب، وما سيأتي أغرب مما كان. وهذه المدينة أغرب من كل مكان، أغرب من الدنيا كلها. من البر والبحر وما تخفي الجبال والأرحام. هذه المدينة لا تستنشق الغبار ولا تحني قامتها تحت وطأة الجفاف. لا شحوب على وجهها ولا ضمور ولا حياء ولا استحياء. هذه المدينة غول، بحر صاخب ولغز عويص..." ومسعود منهك. قدماه لا تطاوعانه والألم يعبث بمفاصله. في أذنيه طنين حاد موجع وفي رأسه دوخة... الأرض تحت رجليه تدور بسرعة، بجنون، وعلى عينيه غشاوة التعب والإجهاد والضياع. يجلس ويغمض عينيه ويغفو.

لم يدر كم مضى من الوقت عندما هتف الهاتف من جديد. هذه المرة لم يقل له: "انتبه يا مسعود، إنك تسبح ضد التيار"، هذه المرة لم يأته الصوت خافتا قادما من بعيد، من مكان يضرب عميقا في الأرض أو السماء... في الروح أو الجسد.

"ماذا تفعل في هذا المكان أيها السكير؟"

حك رأسه وفتح عينيه بصعوبة. حلم جديد؟ لا، لم يكن حلما هذه المرة... حارس مدجج بعضلات ووجه عبوس وملامح لا تبشر بخير. سلاح وبدلة سوداء عليها حروف بيضاء: "أمن"، يعني تجاوزت حدودك يا مسعود واقتحمت ملكية خاصة. يعني انهض بسرعة ولا تعد للنوم في هذا المكان. يعني لملم أطرافك وتوغل عميقا في ظلام الليل الحالك. ابحث لنفسك عن مكان آخر. حقل قصب أو مطرح قمامة أو بناية مهجورة أو محطة حافلات أو مجاري مياه... أنت نفاية يا مسعود، شيء لا حاجة للدنيا به. هل تفهم يا مسعود؟

"حارس مدجج بسلاح وبدلة وكلب ضخم البنية، سمين وقوي. كتفاه أعرض من جسمي كله، عليه آثار نعمة وبذخ وسعة رزق وراحة بال، فلماذا جئت تنغصه يا مسعود؟

لا، هذا ليس حلما. هذه ملكية خاصة وفيلا أنيقة مهابة الجانب، وحديقة ليس للجفاف عليها سلطان. هذا حي لا يقربه من هب ودب و اتكل على الله وعلى قدميه مثلك... لا، هذا حي آخر يا مسعود، هذا شغل آخر فلا تجهد نفسك ولا تحاول أن تفهم ما ليس لك به علم. لملم أطرافك، هذا أفضل لك وللأولاد في القرية."

لعن حظه ونهض. لعن الكلب والحارس... ابتلعته دروب ضيقة وعتمة ليل دامس. البرد يجمد جسمه والجوع ينهش أمعاءه. تذكر رقية وفرن الحطب وفطائر المساء. تذكر النار والكانون. الأولاد ينتظرون نضج الفطيرة الأولى ليتخاطفوها ويتشاجروا ويتنابزوا بالألقاب ويلعن بعضهم بعضا. رقية تهدد وتصيح وتلوح بعصا صغيرة والدخان يتسلل إلى عينيها، فتحكهما وتسعل. تنطفئ النار فتنفخ فيها وتلقي دفعة أخرى من الحطب.

ابتلع ريقه و لعن حظه. ترحم من جديد على زمن السمن والعسل والناس الأخيارالطيبين... خبز القمح وزبدة الماعز وحساء الذرة. زمن الخير والغلة التي تفيض عن الحاجة وتبور في السوق إذا ذهبت للسوق.

الليل يرخي سدوله على المدينة، ومسعود يرخي حيرته، يغالب النوم والتعب ويبحث عن مكان ينام فيه. يضرب كفا بكف ويبتسم. "كم أنت غبي يا مسعود! كيف يغيب بيت الله عن ذهنك في هذا الوقت العصيب؟ ملاذ المضطر والمسافر وعابرالسبيل... وأنا مضطر ومسافر وعابر سبيل ومتعب وجائع وبردان..."

رفع بصره إلى السماء وقلب بصره بحثا عن صومعة تقوده إلى أقرب مسجد.

" أيعقل هذا؟ أيعقل يا مسعود، يا ابن أمه وأبيه؟ أيعقل أن تعلو البنايات الفانية على صوامع بيوت الله، فتغطي أهلتها وتحجب نورها؟ هذا منكر، المنكر بعينه. الصفصاف والنخيل في القرية يحني رؤوسه إذا جاور بيوت الله، ولا يجاوز بطوله الصوامع أبدا. صفصاف القرية ونخيلها، أما هذه، هذه البنايات والعمارات الوقحة السافرة... هذه لا تقيم حدود الله ولا تستحي ولا تغض بصرها ولا تحني رؤوسها تواضعا للصوامع والجوامع."

عاد ببصره إلى الأرض وراح يشق الدروب والأزقة وظلام الليل. عندما عثر على ضالته أخيرا، تنفس الصعداء وأسرع لباب الجامع يدفعه، لكنه لم ينفتح. كان موصدا بإحكام. طرق حتى كلت يداه. "أيعقل هذا ؟! أيعقل يا مسعود، يا ابن أمه وأبيه؟ أيعقل أن تغلق بيوت الله؟ هذا منكر، المنكر بعينه." أسند ظهره لباب المسجد وغطى وجهه بطاقيته ونام.

"مسعود، انتبه يا مسعود، إنك تسبح ضد التيار. ضد العولمة والنظام العالمي الجديد. ضد التبادل الحر والتجارة العالمية والدرع المضاد للصواريخ... ضد الديمقراطية وحقوق الإنسان."

حك رأسه وفتح عينيه بصعوبة. حلم؟ لا، هذا ليس حلما. هذا مخفر وشرطة ومحاضر وتحقيق.

"لماذا كنت معتصما أمام المسجد؟

هل زرت أفغانستان أو الصومال أو الأراضي المحتلة؟"

"أفغانستان؟ صومال؟ هل تمزحون معي؟"

"هل تحلق ذقنك؟ وتحمد الله إذا شبعت وتجشأت؟"

" أحلق ذقني إذا توفر لي الوقت وموس الحلاقة، وأحمدالله جائعا وشبعان وأشكره على الستر ونعمة العافية."

"إذن أنت عنصر خطير."

"إذا كان الأمر كذلك، فأنا لا أحمده. أو على الأقل لن أحمده مستقبلا."

"ستحمده رغم أنفك وأنف أمك وأبيك وعشيرتك أجمعين."

عصا ولكم واستنطاق... ومسعود يصرخ ولا يفهم شيئا."أنت هارب من العدالة متنكر في زي درويش وفلاح أمي بسيط يبحث عن عمل. أنت ببساطة إرهابي دوخت أمريكا والسي إي أي والإف بي أي والآن تريد أن تدوخنا. اعترف، هذا أفضل لك وأريح لنا. جفاف، رقية، قرية، فلاح... حكاية قديمة حفظناها عن ظهر قلب أيها الرهط!"

"هل تؤيد الجهاد في سبيل الله؟"

"ما تؤيده الحكومة أؤيده."

"وهل أنت حكومة؟"

"معاذ الله، أنا مسعود فقط."

"كيف إذن تتشبه بالحكومة وتؤيد ما تؤيده الحكومة؟"

"سعدك يا مسعود، وسعدك يا حكومة."

عصا ولكم ورفس واستنطاق... ومسعود يصرخ ولا يفهم شيئا. يترحم على زمن السمن والعسل والناس الأخيارالطيبين. يحك كدماته الزرقاء، الحمراء، يمسح الدم النازف من فمه.

" نمت أسفل عمارة بئيسة. سبحت ضد التيار. سرت في الشارع عكس اتجاه الناس.اقتحمت ملكية خاصة. اعتصمت أمام مسجد في الهزيع الأخير من الليل... و فوق هذا وذاك لا تحمل أوراقا تثبت هويتك. أيها الرهط أنت خطير متنكر في زي درويش وهيئة فلاح بسيط تاه في المدينة."

"سعدك يا مسعود وسعدك يا مدينة."


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى