الأربعاء ٢٦ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٧
بقلم زكرياء أبو مارية

حكاية الشجرة

كان لا بد من أن يصبح لها نفع آخر، ما عاد مهما أن تكون أشجار زيتون أو برتقال، حل الخريف، وكان قارصا أكثر مما اعتدناه في فصول سابقة، ومنذ أن عرّوا ما يزيد عن نصف حقلنا من أشجاره فكرنا أن لا تبقى بغير فائدة أخرى.

كنا قد عدنا لتونا من مراسيم دفن والدي، مات وهو يحاول أن يصد بيديه جرّافاتهم عن أشجارنا، كان كل واحد منا يحمل غصن زيتون تذكار عزاء من الجيران، وكان تفكيرنا ونحن آيبون لا يفتأ يدور حول البرد القريب، وحول استعمال الأغصان للتدفئة.

أخجلتنا الفكرة أولا، حتى إننا عقدنا جلسة عائلية مطولة تشاورنا خلالها، وخرجنا منها باتفاق تنفسنا له الصعداء أكثر مما ارتحنا لغايته القاسية في حد ذاتها، رغم أن أحدا منا لم يزح الزفيرُ المريح عن صدره إلا القليل من اختناق ما كنا نحس أننا مقدمون على اقترافه.

كان مدُّ مستوطناتهم يستفحل بيننا كسرطان، ولم تسلم حتى المساحات الغابوية المطلة علينا من جرافاتهم، تحسبا لأي مقاومة قد تهددهم من عمقها، وهذا كان يجعل مخلفات كل سنة من الحطب تكون أكثر من مخلفات السنة التي تسبقها، وكان هذا التزايد يحصل اطرادا مع تصاعد حدة البرد الذي كانوا يعروننا له باستمرار، وصار غياب مزيد من الأشجار في كل مرة يطيل فترة مكوثه بيننا، إذ ما عاد أواخرَ كل خريف بمقدور الكم المتواضع من أشجارنا أن يمتص إلا القليل من قسوته، ولم تشأ عمتي أن يستقر أغلب فائضه في عظامنا، فاقترحت أن تبدد المدفأة بعضَه، ليبدد بعضَه الآخر تجمعُنا في نصف دائرة صغيرة ودافئة حول النار الهادئة، مع نصيحتها لنا بأن لا ننهك حطب التدفئة، وأن نستعمله بأقل قليلا من حاجتنا لناره، وذهبت أنا في رأيي أبعد من ذلك، باقتراحي ألاّ نستغل الدفء إلى حدود الاستمتاع والشعور بالراحة، كنت أتمنى لو يبقى الكثير من ألم التذكر محاصرا لنا.

كانت عمتي لتوافقني، لأنني رأيت التردد للحظة في عينيها، لولا أنها خشيت على جدتي وأخي الذي كان ما يزال في بدايات قدرته على التحمل وفقده، أما إرضاءً لرأيي فقد عمدت عمتي وسط تشاورنا إلى مدّ أخي بصورة لوالدي، بينما مدتني أنا بمذكراته لأطالعها كلما اشتد عليّ الحنين إلى صوته، أو حاجتي لأجوبة عن أسئلتي.

لم تكن ظروف الاحتلال قد سمحت من قبل بتمدرسي، ولم يغب عن فطنة عمتي فحوى اندهاشي وأنا أقلّب مخطوط المذكرات بين يديّ، فأردفتْ أن والدي لم يدوّن مذكراته إلا بعد أن استبد اشتعالها بصدره، ولم يساعده على إطفاء هجيرها إلا أشجار زيتون حقلنا التي لم يكن يرتاح للكتابة إلا وهو بين ظلالها، وأنّ باستطاعة أوصالها الآن أن تحدثني بحديثه، وتجيبني إذا ما أجدت استماعي لها وهي تشتعل بدورها، وتبدّت لجدتي حكاية والدي أهم من أن يحكيها الزيتون لي وحدي، كان لا بد في رأيها أن يبقى مغروسا من أشجاره ما يحمل المذكرات لأجيال قادمة.

سألت جدتي: كيف؟

وقالت لي أن أسأل أغصان الزيتون، ثم أقدمت بأسى شديد على رمي الغصن الذي كان بحوزتها في فوهة المدفأة.

أدخلتنا حركة جدتي في صمت طويل، وحده غصن الزيتون تجرأ ليملأه بأزيزه تحت قوة اعتصار النار لزيته، كان كأنه يتألم ويئن، وكانت الشعلة أمامنا متحمسة وحركتها لا تخبو، لم تكن تتحرك كشفتين، ولكنها كانت تحكي بشكل من الأشكال وأفهمها كأنني أقرأ فعلا على شفتين، وعرفت أنها ستجيد الجواب أيضا إذا ما سألتها، فهمستُ بسؤالي لغصن زيتوني وألقيت به لها، لتنهي شرودي في التوهج فجأة فرقعة في المدفأة، ثم توالى جواب الأغصان ونحن نذكي النار بها، متكررا بين فترة وأخرى كأنه إشارة تأكد جوابا، لا كأنه صدى لأول فرقعة، بينما جعلت أنا أحدق بفهم في النار وهي تأكل زيتوننا، والسائل النقي والبراق ينز منه كنزف ودموع يحثانني.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى