السبت ٢٩ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٧
بقلم بسام الطعان

أرخميدس

يا لها من ظهيرة حارقة، تذيب القار، تجــف الحلوق، وتجبر كل كائــن على أن يبحث عن جدارات فيء وحسوة ماء، في هــــذه الظهيرة التموزية، انطلق موكبنا السعيد، المزين بالورود والشـــرائط الملونة ونحن نرتدي كامل أناقتنا، نلوح بأيد مرحة، نصفق ونغني بأصـوات منتشية وحـين عدنا في المسـاء إلى بلدتنا، كانت ثيابنا ممزقة، شعورنا منتوفة، وأجسـادنا ملوثة بالـعرق والدماء.

قبل أن يفوته قطار الـزواج، جاء إليّ والفرح يتأبط زند مسـاماته، ودعانا زوجتي وأنا لمشاركته عرسه الذي انتظره طويلا، وقبل أن أسـأله متــى وكيف تعرّف إلى صاحبة الحظ السعيد، حدد لي الموعد وودعنــي دون أن يرد على أسئلتي

في أصيل جاف وصــلنا إلى المديـــنة الكبيرة، لكنـــنا بتنا مثل من يدخل متاهة مظلمة. كان الموكب السعيد يدور في الشوارع خلف سيارة الـعريس وكأن لا وجهة له، قطعنا شوارع كثيرة ونحن لا نعرف السـبب، بينما وجوهنا وأعناقنا تحولت إلى مزاريب يسيل منها العرق أما النساء والفتيات، فقد تغيرت وجوههن بسبب المكياج الزائد والعرق الغزير، لدرجـــــــة أنهن بدون وكأنهن مطليات بالطحينة أو زيت الديزل.

ما إن توقفت سـيارة العريس ومن خلفها سياراتنا في أحد الشـــوارع حتى تنفسنا الصعداء، وقبل أن نترجل أشار لنا العريس بيد تكتظ بالألم الدفين أن نبقى في أماكننا، ثم دخل أحد المحلات، سأل أسـئلة لم نعرف ما هي، وما لبث أن عاد برفقة خيبة ترف على رموش عينيه، لينطلق الموكب من جـديد في رحلة جديدة محيرة.

قطعنا ثلاثة أرباع الشـوارع تقريباً، وكانت نـــظرات العريس اليائســــة، الراقصة، تتجه حيناً إلى اليسار، وحيناً إلى اليمين في حالة قلق، وبينما كنا نتأفف ونمسح عرقنا أشار لنا بالوقوف وصاح كمن اكتشف معجزة:

ـ وجدته.

اصطفت السـيارات الكثيرة أمام أحد البيوت في شارع طويل، نزلنا بسرعة وشـوق ونحن نرتــــب أناقتنا التي تبعثرت، ولجنا خلـــف العريس تسبقنا أهازيجنا وضحكاتنا التي ســرعان ما ارتطمت بجدران الدهـــشة والغـرابة، شاهدنا عشرات الرجال وهم جالسون وصـــامتون كتماثيل من عجين، ولولا بعض الحركات التي بدرت منهم لقلنا أنهم في متحف، وكان النواح ينـبعث من الغرف المجــاورة لأرض الدار، غير أنــنا لم نسمعه في البداية لأن أهازيجنا وصيحاتنا كانت تغطي سماء الحي كله.

اتجـهت الأنظار نحونا موزعة بين الدهـشـة والاسـتنكار، الحيــرة والاستغراب، العتب والتقريع وفجأة ارتفعت الأصـوات بين حانق ومحـتج وساخر وشاتم. الحق معهم كان للمنـظر وقع الصاعقة عليهم. ولما اســتمر غناء النساء والفتيات اللواتي لم ينتبهن لما يجري بدأ الحفل بســــرعة ودون آلات موسيقية، صفعة قوية لرجل منا من رجـــــل له وجه تتصدره عينان كعيني البومة. أقسم أنه كان مسلحا بكراهـــية الفرح.

ارتفعت الصيحات عالياً، وساد المكان هرج،وخرجت النسوة المتشحات بالأسود من الغرف الكثيرة باتجاه نساءنا في خطوات عسكرية سريعة، نثرت الهذيان، وما لبثن أن صلبن الفرح على الجدران، ولم تمــض دقائق حتى بدأ عرض تمزيق الثياب ونتف الشعور.

من تحت أقدام رجل بدين لم أر مثله في حياتي كلها، رأيت امـرأة ترتدي الأسود، ثخينة، مربعة، نصفها الأول لا ينتمي إلى البشر، رأيتها تجــــلس بعذوبة فوق ظهر زوجتي النحيفة وتقول لها بحقد:"والله وبالله وتالله سـوف أجعلك (مامونية بلا سكر) يا خنفسـة يا أم أربعة وأربعين". بينما حبيبـتي المسكينة التي كنت انظر إليها بحسرة وغيظ، فكانت تصــيح:"آخ يابو..". ورأيت امرأة أخرى، تشبه قنينة بيرة، تنتف شـعر فتاة نتفاً عنيفاً، تغرقها فـــــي يم من البصاق وتقول لها باحتقار عميق:"يا جيفة متحركة يا سليلة إبليس". أما المسكينة فكانت تصيــح بصوت أقرب إلى الحشـرجة:"الحقوني..."وفي زاوية شبه مهملة، رأيت رجــلاً وجهه وجه خـنزير، وجسده جسد فيل، يرتدي سروالا أزرق وبلوزة صوفية حمراء، ويعتمر

كوفية من الجهل الخالص، رأيته بأم عيـنيّ ينفجر كالبركان ويوزع شتائمه بكل الاتجاهات ولم يستثن أحدا.
لأكثر من نصف ساعة، كانت العورات تظهر بشــكل مقــرف، وكان الدم يسيل مع العرق في جداول غير منتظمــة، وبعد أن نلنا نصيبنا من الضرب والشتائم والتوبيخ وشربنا ملوحة عرقنا، استطعنا أن نخرج من بيت الطغاة الخبيـث.
أما العريس، ارخميدس زمانه الذي كان نصيبه لكمات وبصـقات كثيرة من رجل قزم على شكل اسـطوانة غاز الذي كان يمســك بربطـة عنقه الزاهية الألوان ويقول بغضب مع كل لكمة وبصقة:"لماذا تضع في رقبتك رسـن الحمار؟". هذا العريس ظل يؤكد طوال الطريق أن البيت هو بيـت العروس فعلاً.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى