الثلاثاء ١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
بقلم أحمد منير يوسف

دهانات للبيـع

اليوم هو اول أيام دوامي في هذا المصنع ( مصنع الدهانات )، فقد كانت زيارتي البارحة فقط لمقابلة المدير والإتفاق معه على امور الدوام والراتب وليشرح لي طبيعة عملي هنا، والتي تتلخص في تسجيل طلبيات الزبائن، وتجهيزها من المستودع والتأكد من الكمية والعدد، ثم ارسالها للزبون عن طريق سيارة المعمل.

هذه الوظيفة ربما تكون من افضل الوظائف التي حصلت عليها مؤخرا اذا أخذنا بعين الاعتبار الطلبات الخيالية التي يطلبها ارباب العمل هذه الايام،

فمثلا لا أدري فعلا ما علاقة الدبلوم بوظيفة ( الكاشير )؟؟!!!

و هل صرافة العشر دنانير تحتاج الى شهادات جامعية و دبلوم!

على العموم الحمد لله اني تمكنت من الحصول أخيرا على هذا العمل.

في يومي الاول هنا حاولت ان أطلع على أنواع البضائع التي يتم انتاجها والتعرف عليها وعلى اسمائها، صحيح انها كلها دهانات ولكن يوجد العديد من العبوات ذات الاسماء والاسعار المختلفة، اكثر من عشرين صنفا حاولت ان احفظها بسرعة لأباشر عملي ،

زبائن المصنع في معظمهم من التجار والحرفيين الخبراء ( معلمين )، وقد لاحظت هذا من خلال حديثهم، حيث يحاول كل شخص منهم ان يُبين مدى خبرته ومعرفته بانواع الدهان المنتجة هنا، وما هي فُروقات وميزات كل صنف، وقد اسعدني هذا في الواقع، فلا أجمل من أن تتعامل مع أناس يتقنون عملهم ويفهمونه، فهذا يُريح جدا في العمل، ويُقلل من حدوث المشاكل والأخطاء .

أمضيت خمسة أيام في هذا المصنع على خير والحمد لله، الى أن طلب مني المدير أن أجهز له الف عبوة بشكل عاجل من نوعين مختلفين ( خمسمائة من كل نوع ) لإرسالها الى احد الزبائن، فأخبرته أن الكمية الموجودة في المستودع الآن لا تكفي، ولكني سأذهب الى قسم التصنيع وأتابع تجهيز الكمية بنفسي، فسُر الرجل و شكرني .

عندها ذهبت مسرعا الى قسم التصنيع ( و كانت هذه هي المرة الاولى التي أدخل فيها الى ذلك القسم )، وطلبت من العامل ( متولي ) تحضير الكمية على عجل، فطمأنني أن الكمية جاهزة وهي الآن موجودة في آلة الخلط ولكنه بحاجة الى بعض الوقت لتعبئتها،

بقيت واقفا انظر الى ( متولي ) و هو يعبئ الكمية المطلوبة، وما أن انتهى من تعبئة الخمسمائة عبوة من الصنف الاول حتى شرع في تعبئة الكمية المطلوبة من الصنف الثاني،

وهنا صرخت بـ ( متولي ) بشكل فاجأه و جعله يلتفت هنا وهنا وهو لا يدري ماذا يفعل، وقلت له: انتبه يا ( متولي ) فأنت تعبئ الصنف الثاني من نفس الخلطة الاولى!
عندها عادت الدماء الى وجه ( متولي ) وظهرت عليه علامات الارتياح، وقال لي: كله تمام يا أستاذ، ثم تابع عمله.

عدت مرة أخرى الى تنبيه ( متولي ) ليتدارك خطأه، ولكنه قال لي لا تخف، ليس هناك خطأ، فأجبته: وكيف هذا ؟ فقال: إسأل المدير.

خرجت مسرعا و توجهت الى غرفة المدير، وأخبرته بالذي حصل، فإبتسم الرجل وقال لي: اجلس، فجلست، ثم تابع يقول: يا ابني، ان الانواع الموجودة هنا هي من صنف واحد، ولكن تختلف العبوة والسعر،

ثم اخذ يحدثني عن السوق ومتطلباته، والذكاء و التجارة، و ظروف الحياة والاولاد، حتى أنه تطرق في حديثه الى مواضيع لم اجد لها اي صلة بموضوعنا هذا منها بطولة كأس العالم ومشكلة دارفور!

استغرق حديثه حوالي النصف ساعة، كل هذا وأنا جالس أفكر في هذا النصب والاحتيال، وكيف أمكن لهذا الرجل أن يجد مبررا لنفسه كي يتصرف هكذا،

كنت اهيئ نفسي للصراخ في وجهه واتهامه بالغش والنصب، لكن استوقفتني اخر جملة قالها في حديثه، وهي :

فضلا عن أن معظم زبائننا هم من اصحاب الخبرة ولم يشتكي منهم أحد أو يُبدي أية ملاحظة، بل على العكس تماما كلما انتجنا ( صنفا !! ) جديدا تهافتوا عليه مُرحبين ومُشيدين بميزاته،
يا ابني نحن مصنع مُرخص ومعترف به .

إستأذنت ولم اكمل حديثي معه، فبغض النظر عن قضية النصب هذه فقد انشغل تفكيري بنقطة هامة فعلا أثارها في حديثه، وهي أن معظم الزبائن هم من أصحاب الخبرة، فكيف لم يشتكي أحد أو حتى يلاحظ أنه لا فرق بين كل تلك الانواع !

هل هم أصحاب خبرة فعلا؟ أم أنهم يدعون ذلك؟ أم أنهم يعرفون الحقيقة ويتغاضون عنها لاسباب معينة؟

اكملت اسبوعي الاول هناك ثم قدمت استقالتي، وفي الساعة الخامسة خرجت من المصنع عائدا الى المنزل، ومع خروجي من الباب توقفت أمامي شاحنة كبيرة تحمل عبوات جديدة لصنف جديد!


مشاركة منتدى

  • نعم كل مصانع الدهانات هذه طريقتهم يوجد لديهم عدد من أشكال العبوات والمصب واحد لكي يغروا الزبائن بالتعدد ودرجة الجودة والسعر يختلف بينها . انا شخصيا وقفت عليها مصنع لديه 7 عبوات والحنفية وحدة

  • هل هذا صحيح؟ يبدو أن هذه المصانع لا تستخدم المعايير الصادقة في إنتاج الدهانات أو مواصفات تتميز بها منتجاتها عن غيرها؟

    و مصانع الدهانات الرائدة والتي لها جذور قوية في عالم دهانات تبقى قوية لأنها صادقة في منتجها الذي تطرحه للمستهلك.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى