الاثنين ٧ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
الشاعر والروائي إبراهيم نصر الله للمجلة:
بقلم بيانكا ماضية

الشعر قصة حب طويلة والرواية زواج راسخ

والحرية لا يمكن اختصارها بكلمة

متحرراً من كل قيد يمكنه أن يسلب إرادته، ويقوقعها في قالب محدد، وثائراً على كل تقليد وشكل فيما يكتب من أحلام ومآس، وملاحم وأسماء، يطل الشاعر والروائي إبراهيم نصر الله بعد صدور روايته الجديدة (زمن الخيول البيضاء) لا ليقدم تجربة أخيرة من تجاربه الروائية، وإنما ليشكل ذاكرة جديدة تنضح بالمدهش والغائب معاً ، وليفسح المجال واسعاً أمام الخيال ليفضي بما تراكب فيه من صور وجدت ألوانها أخيراً في زمن أصبحت فيه الألوان باهتة وواهية .

إبراهيم نصر الله الذي جاء من رحم الحياة، وأتقن أساليب التعبير عنها، وسال حبره ظلالاً وتواشيح وفضاءات لينبض بمعاناة الشعب الفلسطيني وتحولاته وليكتب حياة هذا المجتمع كتابة مغايرة ذات حضور وتألق وإبداع، رسخ لنفسه اتجاهاً لا على صعيد الكتابة الشعرية وحسب وإنما على صعيد الكتابة الروائية أيضاً، اتجاهاً استطاع من خلاله الإمساك بمفردات العالم وجزئياته، مستخدماً لغة نستطيع القول عنها إنها لغة إبراهيم نصر الله، مشعلاً من أسلوبها نار أعمال هي حكاية شعب، وتاريخه، ومصيره، وانتفاضته، وأخيراً قدرته على الحياة بين أشباح الموت .

فمن تربة الكتابة ومن الحضور الزماني والمكاني للإنسان، ومن واقعه الغائص في مستنقعات الألم، ومن تعدد المحاولات والأشكال والرؤى، وتميزها وإبحارها في اللامتناهي واللامحدود واللاجاهز، تنبت تجربة الشاعر والروائي إبراهيم نصر الله، تجربة تكاد تختصر أشكال الإبداع كلها، فمن القصيدة إلى الرواية إلى الفن التشكيلي إلى المسرح الذي يحضر في ثنايا الرواية، إلى السينما، إلى جنس أدبي ربما باستطاعة هذا المبدع الروائي استيلاده من رحم المعاناة، ليكون جنساً أدبياً قادراً على الإحاطة بملاحم الحياة عامة، وبملحمة الشعب الفلسطيني خاصة، وبجرحه الذي لايندمل .

ومن هذه التجربة الرائدة والعريقة لهذا المبدع الإنسان، ندرك معنى الانتماء ونلامس قدرة الكتابة على الغوص في الخفايا وفي الخصوصيات، لاستجلاء واقع مرير لايزال يعاني منه الإنسان أنى توجه .

وفي هذه التجربة الإبداعية وفي هذه المسيرة التي يسيل على حوافيها حبر الكلام، ثمة روح تعلو، ونفس تسمو، وذاكرة ترسم لنفسها صورها، وعين تنتقي ماهو غير مألوف وغير عادي ... في هذه التجربة ثمة حلم يتجسد رؤى وأحلاماً وعواطف جامحة لايمكنها الثبات والاستقرار ...

وإبراهيم نصر الله من مواليد عمّان ، من أبوين فلسطينيين، اقتُلعا من أرضهما في عام 1948 ، درس في مدارس وكالة الغوث في مخيم الوحدات، وأكمل دراسته في مركز تدريب عمان لإعداد المعلمين. وغادر إلى السعودية حيث عمل مدرسا لمدة عامين 1976-1978، ثم عمل في الصحافة الأردنية من العام 1978-1996. وعمل في مؤسسة عبد الحميد شومان -دارة الفنون - مستشاراً ثقافيا للمؤسسة، ومديراً للنشاطات الأدبية فيها.

ومن أعماله الشعرية: الخيول على مشارف المدينة عام 1980 . ونعمان يسترد لونه عام 1984 وأناشيد الصباح عام 1984. والفتى والنهر والجنرال عام 1987 . وعواصف القلب عام 1989 . وحطب أخضر عام 1991 . وفضيحة الثعلب 1993 . والأعمال الشعرية (مجلد) عام 1994 . وشرفات الخريف عام 1996 . وكتاب الموت والموتى عام 1997 وباسم الأم والابن عام 1997 .

ومن رواياته: براري الحمى عام 1985 (ثلاث طبعات) والأمواج البرية- سردية عام 1988 (خمس طبعات) . وعو 1990 (طبعتان) . ومجرد 2 فقط 1992 (طبعتان) . وطيور الحذر 1996 (ثلاث طبعات). وحارس المدينة الضائعة -1998- بيروت. وطفل الممحاة 2000 .

نال نصر الله سبع جوائز على أعماله الشعرية والروائية منها: جائزة عرار للشعر1991 وجائزة تيسير سبول للرواية 1994 وجائزة سلطان العويس للشعر العربي 1997 .

وبمناسبة صدور روايته الملحمة (زمن الخيول البيضاء) للروائي إبراهيم نصر الله، وبعد احتفالية ثقافية بتجربة هذا الروائي العربي الكبير شهدتها مدينة حلب في الآونة الأخيرة عبر ثلاثة أمسيات بدعوة من مديرية الثقافة بحلب وبالتعاون مع نادي شباب العروبة للآداب والفنون ... التقينا الشاعر والروائي المبدع إبراهيم نصر الله ليتحدث عن قضايا تلامس تجربته الإبداعية، ورحلة معاناته مع الحرف والكلمة .فكان هذا الحوار:

 قلت ذات يوم: إن أصعب ما في كتابة الحكاية الفلسطينية هو أن عليك أن تكون ضد الذاكرة الجاهزة. كيف وقف الروائي إبراهيم نصر الله ضد هذه الذاكرة ليكوّن تفاصيل الحكاية الفلسطينية وبخاصة في روايتك الأخيرة (زمن الخيول البيضاء)؟
 أنت لا تقف ضد الذاكرة، أنت تعمل على تنقيتها أكثر، وأن تشتق منها ذاكرة جديدة. لم أكن معجبا في أي يوم من الأيام بالأعمال الأدبية والفنية التي لا تختلف في أطروحاتها وتفاصيل هذه الأطروحات عما تقوله أمي ويقوله جدي. كنت أرى في الأمر محاكاة فقيرة لا تضيف شيئا لي كقارئ، ولذا سعيت في (زمن الخيول البيضاء) لتقديم ذاكرة جديدة مشتقة من الذاكرة الجماعية، فيها روحها ولكنها لا تشبهها، أو تختلف عنها كثيرا، لأني كنت أريد أن أفاجئ من يعرف فلسطين بأنه لم يكن يعرفها تماما.

في (طيور الحذر) مثلا، ليس في ذاكرتنا كأطفال إلا اصطياد الطيور والتهامها، وهذا هو الأمر الشائع الذي يعرفه الجميع، ولذا طرحتْ الرواية شيئا مغايرا، فالطفل الذي يصطاد الطيور يقوم بتعليمها الحذر حتى لا تقع في فخاخ الأولاد الآخرين، مع أن الطفل يستند إلى خبرة جماعية في الصيد يعرفها الجميع، أما اختلافه عنهم فهو تعليمها الحذر، وحين حدث هذا انقلبت الذاكرة وغدت ذاكرة فنية جديدة أوسع بدلالاتها وفكرتها، وهكذا كان الأمر في (زمن الخيول البيضاء) وسواها من روايات الملهاة الفلسطينية، وكان الأمر كذلك في (حارس المدينة الضائعة) فمن الطبيعي أن يضيع أحد سكان عمّان، لكن من غير الطبيعي أن يضيع سكانها وهم مليونان! لكنهم ضاعوا في الرواية!

 تتحيز في كل ما كتبته إلى الإنسان، إلى معاناته، إلى أحزانه وأفراحه، إلى الحياة التي يعيشها والتي يجب أن يعيشها، ما هي فلسفتك تجاه الإنسان والحياة؟
 من الصعب أن يختصر الكاتب فلسفته، أو نظرته للحياة، بجملة واحدة، لأن كل ما كتبه وسيكتبه محاولة للتعبير عن هذا الأمر بعيدا عن فكرة الاختزال، قد أكتب رواية من ثلاثمائة صفحة للدفاع عن فكرة الحرية، لكني لا أستطيع اختصارها بجملة تقول: إن الحرية أعظم قيمة موجودة على هذه الأرض. يهيأ لي أننا نكتب لنكون ضد هذا الاختزال، وما الكتابة إلا الكائن الحي، أما التلخيص فهو الوصف الموجز والفقير له من الخارج.

في كل عمل يشتبك الكاتب مع فكرة، أو مجموعة أفكار ويحياها بالكتابة، ولا يمكنه أن يجيب مثل شخص عاش حياة طويلة ردا على سؤال: كيف كانت حياتك؟ فيرد إنها قاسية، أو رائعة. لأن حياته أكبر من هذه الكلمة أو تلك.
ثم إن لكل مرحلة من مراحل حياة الكاتب أسئلتها، فأسئلة كانت ملحة في العشرينات من عمره لن تكون هي الأسئلة نفسها في الخمسينات أو الستينات أو السبعينات.

أعتقد أن ما يشغلني مجموعة كبيرة من الأسئلة، وكل كتابتي هي بحث وتأمل لها مثل سؤال الحرية، العدالة، الموت، الجمال، الماضي، المستقبل، التقدم، التخلف، ولذلك ليس لدي إجابات جاهزة، حتى حين أجيب على سؤال ما، لأني في مرحلة تالية سأجد له إجابة أخرى، أو أكثر عمقا وربما مغايرة تماما.

 بدأت بكتابة الشعر والرواية معا، مع أن لكل جنس منهما أدواته وشكله ومقوماته، كيف وجدت نفسك في كل جنس أدبي قرعت أبوابه؟

 بدأت كتابة الشعر والرواية معا، لكني عُرفت كشاعر أولا، لأنني أصدرت أربع مجموعات شعرية، يمكن القول: إنها ناجحة، قبل أن أصدر روايتي الأولى.

جمْع فنين معا قضية شائكة وكبيرة، لأن كثيرا من الشعراء الذين حاولوا كتابة الرواية، أو كتبوها في العالم العربي لم يحالفهم التوفيق. فالشعر والرواية فنان مختلفان فعلا كما أشرتِ، بل إن طبيعة ممارستهما وما تتطلبه مختلفة تماما، فالشعر أشبه ما يكون بقصة حب طويلة، أما الرواية فهي أشبه ما تكون بزواج راسخ. بمعنى أن تعاملنا مع القصيدة أقرب إلى تعاملنا مع الحب، وتعاملنا مع الرواية أقرب ما يكون من تعاملنا مع الزواج. فأنتِ تحتاجين إلى بيت كي تنشئي أولادا وترعيهم وتؤسسي أسرة، والرواية قريبة من هذا إلى حد بعيد، لأنها تحتاج إلى وقت طويل من العمل وتكريس كامل للطاقة على مدى أشهر وسنوات متواصلة، بحاجة إلى نمط من الاستقرار حتى تنجز.

الآن أظن نفسي محظوظا إلى حد بعيد، لأنني أملك هذا الحب وهذا الزواج. وفي الحقيقة ما يدهشني دائما هو اكتشافي لعدد الحيوات التي في داخلي والتي كان يمكن أن تظل حبيسة لو لم أكتب الرواية. وأتساءل ما الذي كان يمكن أن يحدث لمئات الشخصيات التي كتبتها لو بقيت هناك في داخلي.

 حدثتنا في شهادتك بحلب عن قصة هجاء أستاذ اللغة العربية ومن ثم كتابة قصيدة رثاء له بعد استشهاده، برأيك ما الذي تصنعه تجربة العيش في المخيم في نفس الشاعر؟

 المخيم مكان مثل أي مكان آخر، لكن لكل مكان سماته وملامحه وظروفه، ولا يعني أن تعيش في المخيم أن تكون على صورة ما، يجب أن تكون عليها، بدلالة أنني عشت مع عشرات الآلاف من الأطفال تلك الطفولة، كما يمكن أن يعيش طفل ما مع عشرات الآلاف من الأطفال في حلب أو بيروت أو القاهرة، لكن الشيء الأساس هو: كيف يعايش كل من هؤلاء المخيم، حلب، بيروت، القاهرة..؟ هنا يتكوّن الفرق، وهذه مسألة مركَّبة، حتى لا أقول معقدة، فبعضهم يعيش المكان بكل ما فيه، وبعضهم يعيش مكانا آخر في المكان الذي هو فيه، وبعضهم لا يعيش شيئا، أو لا يتاح له أن يعيش.

يبدو أنني قد عشت المخيم إلى حد بعيد، ولهذا ترك هذا الأثر الكبير في حياتي، ودائما أقول إن ثمة قيما كبرى عشتها هناك، ولفرط انصهارها فيّ أصبح الدفاع عنها جزءا أساسا من حياتي، ولذا أصبحت هذه القيم وما تعنيه هي خط سكة الحديد لهذه الحياة وهذه الكتابة. يمكن أن أتصور نفسي ببساطة خارج تجارب كثيرة عشتها، أما تجربتي مع المخيم فلا أستطيع أن أتصور ذاتي خارجها، لأني عند ذلك لن أكون هذا الإنسان الذي أنا عليه اليوم.

 قلت في أحد حواراتك أنك عشت أيضاً في المملكة العربية السعودية تجربة غريبة وقاسية وصعبة جدا، حدثنا عن هذه التجربة وأين تكمن غرابتها وقسوتها وصعوبتها معا؟
 قسوة تلك التجربة هي قسوة تجارب الآلاف من المعلمين وسواهم الذين سافروا بحثا عن لقمة الخبز، لكنهم قدّموا الكثير من أعمارهم وخبراتهم للأجيال في الخليج العربي. كانت التجربة قاسية بالنسبة لي لأني رأيت كثيرا من زملائي يموتون في تلك المناطق التي كانت تسمى نائية، وكانت القسوة في الحقيقة تطحن أهل تلك المناطق أكثر مما تطحننا، فنحن، كان يمكن أن نعود إلى أهلنا في نهاية أي عام، ونُنهي عقودنا، لكن أهالي تلك المناطق لم يكن باستطاعتهم أن يغادروها، لأنها كل حياتهم.

صحيح أننا ذهبنا إلى هناك كمعلمين، ولكننا في الحقيقة كنا مجرد فتيان، لأننا لم نسافر من قبل ولم نعرف الحياة خارج رعاية أهلنا، وإذا بنا في العشرين من عمرنا، أو أكبر بعام أو عامين، نجد أنفسنا في وضع صعب كهذا، لمجرد أن علينا أن نعمل ونعيل أهلنا، في زمن لم تكن فيه الرواتب تتعدى مائتي دولار، بمعنى لم يكن هنالك فرق كبير بين راتب من يحالفه الحظ منا ويعمل في مدارس وكالة الغوث في أحد المخيمات، وبين من يذهب للتعليم في تلك المناطق، لكن الحاجة للخبز أقوى من الحاجة للحياة أحيانا، مع أننا نأكل لنحيا في الحقيقة. وهذا هو العبث في أمر كهذا.

 (هزائم المنتصرين) كتاب راصد للسينما فيه تعامل جديد مع النظرة إلى هذا الفن، كيف استطعت توظيف تقنية السينما في الرواية؟ وأي الروايات التي كتبتها تستطيع أن تقول عنها إنها فيلم سينمائي؟

 حين تعايش فناً ما زمناً طويلا يتسرب إلى داخلك بطريقة طبيعية تماما، فأنت لست في حاجة لأن تجلس وتضع خطة محكمة، كما لو أنك تقوم بمهمة مستحيلة، فالذي يحدث أن روايتك تتشرب تقنيات السينما كما تتشرب لغتك كشاعر وحساسية هذه اللغة دون أي جهد، لكن ما أنت بحاجة إليه فعلا هو الوعي بالأشكال، وحين تعي هذه الأشكال، وما يمكن أن يتوالد منها، يغدو الأمر طبيعيا تماما. كالفرق بين قيادتك لسيارتك في اليوم الأول لاستلام الرخصة، وقيادتك لسيارتك بعد خمس سنوات أو عشر سنوات.

كثير من رواياتي تأثرت بالسينما، إن لم تكن كلها، ولكن أبرزها رواية (مجرد 2 فقط) والرواية الأخيرة (زمن الخيول البيضاء) لكن سينما الأولى مختلفة تماما عن الثانية، فسينما الأولى سينما الفرد المُشظى في أزمنة متشظية، أما الثانية ففيها سينما الجموع الملحمية نظرا لطبيعة موضوعها المتعلق بستين سنة فلسطينية قبل نكبة عام 1948.

 في رواياتك استبطان للحالات التي يعيشها الإنسان الفلسطيني، ولكن الموت كان السمة الأبرز فيها، كيف تعاملت مع هذا الموضوع باعتباره الحقيقة التي لا يمكن تغييرها أبدا؟

 تعاملت مع الموت في الشعر قبل أن أتعامل معه في الرواية، فقد كتبت في أواسط الثمانينات قصيدة طويلة حوارية عنوانها (راية القلب – ضد الموت) وكتبت فيما بعد ديوان (كتاب الموت والموتى). كما كتبت عنه في عدد من الروايات، وقد ظهر بصورة واضحة كسؤال أساس في رواية (أعراس آمنة).

في راية القلب، كان الإنسان يواجه الموت كمجموع، ولذلك كان ينتصر، لأن الموت لا يستطيع أن يأخذ الجميع، وحين لا يستطيع فعل ذلك فيعني أن انتصارات صغيرة ما، عليه، لم نزل نحققها، ببقاء بعضنا أو كثير منا أحياء؛ أما في (كتاب الموت والموتى) فقد رأيت أن الإنسان بدأ يواجه الموت فردا ولذا غدت الغلبة للموت! وفي الحقيقة هذه الرحلة هي بين زمنين، زمن الحلم الذي كان قد تجسد في الثمانينات رغم كل شيء، وزمن الموات الذي بعثرنا في التسعينات وما بعدها.

في (أعراس آمنة) كان الأمر تحدِّيا، لأن الموضوع كله قابل للوقوع في دائرة الميلودراما، لأنه يتحدث عن الموت اليومي الفلسطيني في غزة بشكل خاص، ولذا كان يحتاج مني إلى يقظة كبيرة كي يظل الحزن نبيلا وعاليا، دون أن أحرمه من حرقته الإنسانية، أو أسقطه في التفجع المجاني. وأظن أنها من الروايات القريبة جدا من قلبي.

 تكونت رحلتك الإبداعية من محطات عديدة، وربما شكلت لديك مفاهيم جديدة سواء عن الوطن أو عن الحرية أو عن الإنسان، ما هي المحطة الأبرز في رحلة إبداعك؟ وما هو الأفق الذي يرنو إليه إبراهيم نصر الله بعينيه؟

 أكتب كل كتاب كما لو أنه كتابي الأخير، ولذا أعطيه كل ما لدي، وأحيانا أحس عند الانتهاء منه أن لا شيء قد تبقّى لدي يمكن أن يقال، ولذا حين أذهب لكتاب جديد أذهب كأنني سأكتب للمرة الأولى.

لا أستطيع الحديث عن محطة أبرز، ولكن أستطيع الحديث عن هاجس أقلقني كثيرا وهو رواية (زمن الخيول البيضاء) التي نشرت أخيرا، فهذه الرواية احتاجت أكثر من اثنين وعشرين عاما كي ترى النور، وكان يؤرقني كقارئ عدم وجود رواية تقول ما الذي حدث للفلسطينيين فعلا، ومن هم، في ذلك الزمان قبل النكبة. بالطبع هناك أعمال كثيرة أحبها وأحترمها مضت إلى جزئيات كثيرة، لكني كقارئ كنت بحاجة لما هو أوسع، ولذا لم أكن سعيدا في أي يوم من الأيام بإنجاز كتاب مثلما كنت حين بدأت بتلقي ردود الفعل عليها ممن طالعوها مخطوطة، وفيما بعد، بعد نشرها،ربما ينتابني هذا الإحساس لأنها العمل الأخير المنشور لي، لكن أظن أن الجهد الذي بذلته في كتابتها والتحضير لها كان جهدا استثنائيا لن أستطيع امتلاكه مستقبلا! لأنني ببساطه لا أستطيع أن أقول إنني سأكرس السنوات العشرين القادمة للتحضير لعمل ما.

 هل ترى أن الرواية في عصرنا هذا في حالة ازدهار أم في حالة انحدار، وما هي الأسباب؟

 قد تكون الرواية فعلا في حالة ازدهار، لكن ما يؤرقني أننا نعيش حالة انحدار متواصلة، ولذا فإن نهوض الرواية يأتي خارج الحاضنة الطبيعية له، أي خارج نهوض المجتمع، وهذا الأمر لا يؤشر إلى فكرة النهوض أبدا، حتى في الرواية نفسها.

 لا تزال القضية الفلسطينية قضية المبدع الفلسطيني، هل تجد أن هذه القضية قد جسدت نفسها حقيقة في الرواية؟ وأي الأعمال الروائية وجدتها أكثر غنى وتعبيرا عن واقع الإنسان الفلسطيني، عدا التي كتبتها أنت؟

 القضية الفلسطينية جسدت روحها في الشعر، لكن هذه القضية، كانت ولم تزل بحاجة إلى الرواية كي تتحقق بكل ما فيها من تفاصيل وتشعبات وأحداث وتواريخ وحكايات كبيرة وصغيرة. ولعل شوق الشعراء لكتابة رواية نابع من إدراكهم العميق أن هناك الكثير الذي لا يمكن أن يقوله شعرهم مهما تطور هذا الشعر ومهما قدم من اقتراحات فنية، لأنهم يدركون أن الشعر يمكن أن يكون جزءا من الرواية بسهولة، لكن الرواية لن تكون جزءا من الشعر أبدا.

هناك بالتأكيد أعمال مهمة قدمها كتاب فلسطينيون كثيرون مثل غسان كنفاني وإميل حبيبي وجبرا إبراهيم جبرا والجيل الذي تلاهم؛ المسألة قائمة في أن تطورات القضية الفلسطينية متلاحقة، ومن رحل لا يستطيع التعبير عن جديدها بالتأكيد، كما أنهم تركوا لنا مناطق شاسعة لم يعبروا عنها في الماضي وظلت أمانة في أعناقنا، لكن الحقيقة تقول في النهاية أننا نسبيون ولن نستطيع قول كل شيء، سواء عاش الكاتب منا أربعين عاما أو ألف عام!!

هل لا تزال قضية المبدع الفلسطيني؟ فهذا سؤال كبير، لأن كثيرين تحرروا منها بحجة الرغبة في أن يكونوا أكثر حداثة. كما لو أن فلسطين كموضوع أدبي أقل من طموحاتهم الكونية، وهناك من اندغم في التحولات التي طرأت على فكرة النضال ولم يبق منه سوى الموظف، وهناك من يحاول أيضا. لكن المسألة في اعتقادي لا تدعو للاطمئنان. وقد كتبت عن هذا ذات يوم فقلت: إذا أراد الكاتب الإسرائيلي أن يصل إلى العالم فإن عليه أن يتذكر، أما إذا أراد الكاتب الفلسطيني ذلك فإن عليه أن ينسى.
معادلة النسيان هذه ليست سهلة، وأسوأ ما يحدث هو الانصياع لها ولقانونها.

 الكتابة ملاذ الشاعر والروائي والقاص والأديب، كيف تحقق ذاتك في هذا الفن الإبداعي؟

 ربما أحقق ذاتي وأنا أنجب كل هذه الحيوات الجديدة، والقصائد الجديدة، أنجب كل هذا العدد من الشخصيات الطيبة والساذجة والشريرة والغائمة وأراهم حولي يتقافزون ويسألني الناس عنهم باعتباري المسؤول الأول والأخير عن وجودهم. إنها لعبة استثنائية؛ حين كنا أطفالا حلمنا بكائنات كاملة، ونحن نبتكر كائناتنا الخاصة ونبث فيها الحياة ونشركها في ألعابنا وأسرَّتنا، لكن الأمر كان في الماضي يدور بيننا وبين أنفسنا، أما اليوم فمن يستطيع أن يثبت أن محمد حماد بطل رواية (براري الحمى) غير موجود، ومن يستطيع أن يثبت أن آمنة، زينب، ياسمين، ريحانة، أحمد الصافي الحاج خالد غير موجودين؟
هذا أجمل ما في الأمر.

 ما الذي قدمه الأدب الفلسطيني للقضية الفلسطينية؟ هل أعطاها بعدا أم رؤيا أم حلا؟
 الأدب الفلسطيني هو الكتاب الروحي لهذه القضية، وقد كان أبرز مظاهر بناء الهوية الفلسطينية في أقسى الظروف، ظروف الاقتلاع، ومن النادر أن يلعب أدب مثل هذا الدور في حياة الشعوب. ولذلك فهو رؤيا وهو بعد وهو حل وهو حلم ويقين معاً.

والحرية لا يمكن اختصارها بكلمة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى