الخميس ١ تموز (يوليو) ٢٠٠٤
بقلم نجمة خليل حبيب

حكاية بريق الزيت

وقف يرقب حركة الشارع . لفت نظره مشهد حمامتين تجتمعان على شيء ما. كسرة خبز ربما. لا بد ان تكون تلك التي على الشمال هي الانثى، فهي الأسرع، الأكثر انهماكا في إلتقاط حصتها من الزاد. حتما هي الانثى. الاناث دائما هكذا. يأخذن الحصة الكبرى حتى في أغرق المجتمعات ذكورية. في هذه يأخذن بالحيلة, بالرياء, بالمداهنة. وفي تلك يأخذن على المكشوف. والنتيجة هي أن حصتهن دائما هي الكبرى. أمه مثلا، لها الحصة الكبرى في قلبه رغم كل اجتهادات أبيه ليحوز منه على مثل ذاك الحب. لسبب ما, يرى نفسه دائما منحازا إليها في كل خصام يقوم بينها وبين والده. . ساعي بريد على دراجته بدا له ملكا. لا حيطان إسمنت تقيده ولا اكواب شاي وقهوة ترتاد مكتبه. هو لا يحتاج لحيلة ما ليدخن سيجارته ولا رئيس قسم يتأفف غاضبا من تلكؤه . . سائق يطلق شتيمة غاضبة لان سيارة تجاوزته. . ما عدا ذلك فالشارع هادئ ليس فيه ما يزعج.

أحس بها تدخل الغرفة. التفت. كانت بعباءتها المخملية السوداء الموشاة بالذهبي كأنها واحدة من ملكات الشرق القديم، كان شعرها الاسود المنسدل فوق كتفين فخورين يكمل اللوحة الجمالية لأميرة من إميرات الف ليلة وليلة

 القهوة قالت بلهجة محايدة

دون ان ينطق بكلمة رشف رشفة من الفنجان الذي وضعته على المنضدة ثم استدار ثانية صوب النافذة.
رمقته بغيظ مكتوم. صرت على أسنانها. شعرت كأن نارا تسري في جسدها. تساءلت عن سبب هذا الصراع الصامت الذي يقوم بينهما. منذ أشهر وهما يبتعدان يوما بعد يوم عن بعضهما. . عبثت بأصابعها النحيلة الملقاة فوق حضنها. تأملت خاتم الزواج الذي يزين يدها اليسرى، دوّرته بأصابع يدها اليمنى عدة دورات وقالت في سرّها

 خبا الحب قبل ان يخبو بريق هذا الخاتم

استدار عن النافذة والقى بثقله فوق الكنبة المقابلة, ضم رجليه النحيلتين وطواهما تحت جسمه . كان يريد ان يخفي ما به من تشنج بتلك الحركة التي تصطنع الهدوء. نهضت من مقعدها واتجهت نحو النافذة, تأملت البيوت الحجرية الانيقة في الجوار.
لفت نظرها بعض عمال يصلحون أعطالا في الطريق. استوقفها واحد منهم ذو عضلات مفتولة مزينة بوشم خفيف. بدت من الرجل التفاتة. التقت عيناه عيني امراة جميلة بقفطان مخملي كأميرات الف ليلة وليلة فابتسم أعجابا ثم ما لبث ان انهمك في عمله
_وفيما هو يداعب أصابع قدمه سألها: ماذا قلت؟
_لم تجب.
في الحديقة العامة المجاورة، رأت عجوزين يتكئ احدهما على الاخر. تمتمت: انتهت ايام "لا يفرقكما الا الموت" وبدأ عهد تفرقهما حتى النظرة العابرة
استدارت. احست وكأن شيئا فيه طلب منها ذلك. كان لا يزال مجمدا فوق الكنبة وبعيدا عنها. تقدمت نحوه , جلست فوق السجادة ووضعت رأسها فوق ركبتيه
ـ لا تكابر يا أيمن قالت بصوت ذاهل مغناج. انت تحبني وانت تعرف انني احبك. وأحاطت خصره بذراعيها
سرت نيران في بدنه وقال بصوت عميق( طبعا انا احبك هل قلت يوما غير ذلك)؟
 وبنفس اللهجة المغناجة أضافت: يعني . . يعني. . تصرفاتك يعني . . ومرغت وجهها فوق ركبتيه. ما تفعله يا حبيبي غلط . . كبرياء لا لزوم له. . غيرة في غير محلها
امتلأ قلبه بالدفء وأقر انه لا يستطيع أن ينكر سحرها, ولكنه أمسك عن إرضاء غرورها وقول ما تريد منه ان يقوله. ظل على صمته. حّولت نظرها عنه وراحت تعابث الخاتم في إصبعها. عادت تقول بحيادية وصوت خفيض يوحي أنها إنما تخاطب نفسها: يغضبك ان يكون لي هذا المكان في قلبك . تكره حبك لي. تكره هذا الحب الذي يعيدك الى البيت في كل مرة يحصل بيننا خصام.
 نعم, نعم. أنت على حق. لقد انتصرت يا لمى
 انتصرت! ! . . . وتسمي هذا نصرا ؟! ! . . .
 ظل صامتا. .
 انت لا تستطيع ان تحب إمرأة . . أي امرأة. ولا مرة قمت بمبادرة لإنهاء سوء تفاهم يقوم بيننا، في كل مرة ينشأ خلاف بيني وبينك أبادر أنا. أندس في جسدك. أحضّر الطبق الذي تحبه. ألبس الفستان الذي يعجبك. وأشتري الموسيقى التي تهدئ أعصابك
 رجاء لا تفعلي . . لا تفعلي إذا كنت . .
 إذا لم افعل ينتهي حبنا . تنتهي علاقتنا . أناني! أناني هذا هو انت ! . .
بقي وجهه جامدا خاليا من أيّة تعابير
نظرت اليه فجأة. شدته اليها ثانية ودفنت وجهها بصدره وقالت:
 لا تتجاهلني يا أيمن عندما أرمي نفسي في حضنك. لا تفسر حبي لك على انه ضعف.
 انت لا ترمين نفسك في حضني: (أجابها بحزم)
أبعدت راسها وغرقت في لحظة تأمل ثم قالت بصوت هامس
 ماذا تسمي تصرفي هذا. كان صوتها رصينا هادئا هذه المرة
 أنت تعاملينني وكأنني دميتك الصغيرة. . تتلهين بها وترمينها عندما تشائين
ابتعدت عنه وقالت بلهجة ساخرة مستنكرة
 أنا . . أنا بعد كل ما فعلت من اجلك! ! . . .
رن جرس الهاتف
أجابت باقتضاب وإذ سألها من؟ قالت: ريشارد
 ومن ريتشارد
 سأخبرك فيما بعد.

انتابته موجة استياء عارمة فقال : ببساطة انا لا اصدقك
صرخت مستهجنة: لا تصدقني! ! . يا للمصيبة! الرجل لا يصدق
 قصة ريتشارد لا تبدو لي طبيعية باي شكل من الاشكال قال بهدوء
 المشكلة ليست بريتشارد ولا بغيره. المشكلة فيك انت. بعقلك الاعوج. تعيش في سدني ومتخرج من أحسن جامعة وتفكر مثل جدك. . نظرتك للمرأة على أنها امتداد لك تجعلك عاجزا عن رؤيتي مخلوقا قائما بذاته . أن يكون لي كياني شخصيتي المستقلة أمر لا تستطيع ان تستوعبه.

ظل صامتا فتركت الغرفة. بعد دقائق سمعها تدندن لحنا لعمرو دياب. أثار صوتها شجنه. صوت فيه لوعة, فيه لهفة. . كان لها صوتا جميلا الا انها تكسر اللحن فتغير في بعض الالفاظ. غناؤها كان دائما يشجيه, يلهب مشاعره نحوها ولكن ليس هذه المرة. جاءت بعد دقائق باسمة وجلست قبالته على الطرف الاخر من المقعد.

 أووه ايها الاحمق! ! ألست طفلا صغيرا؟! . . اقتربت منه، وضعت ذراعيها حول خصره، كانت تبتسم له وتنظر اليه بعينيها الكستنائيتين الواسعتين ولكنه أحس عندما تلاقت نظراتهما ان ضبابا خفيفا لا يزال يعكر صفو مشاعره إزاءها. .تدفقت موجة من الدم في شراينيه وبدأ قلبه يستجيب برّقة لمداعباتها متناسيا إحساسه ان ذلك البريق في عينيها وتلك المداعبات التي توحي بالدعة والرضوخ ليست إلا لعبة من ألاعيب حواء
 لماذا لا تترك نفسك تحبني سألت: تشنجت عضلات قلبه هل لانك تخاف! ! . . .
 أخاف! ! . . . مم أخاف؟
 تخاف ان تصدق نفسك
وعمهما صمت جعله يتوتر. باستطاعتها ان تجلس هكذا إزاء أيّ تشنج بينهما, تداعبه تستفزه , تسخر منه وتستعطفه. .
 لماذا لا تنطلق معي على هواك؟ لا تترك عواطفك دون لجام؟ أتخاف ان أسلبك شيئا إذا ما انغمست في حبي
 تسلبيني شيئا ما! ! . . . وماذا تسلبيني؟1!.
ساد الصمت ثانية بينهما فتلهت عنه بإشعال سيجارة. ضربت عود ثقاب فلم يعمل, رمته باهمال فوق الطاولة وأشعلت آخر
 لماذا رجعت؟ سألت ببراءة
 أخبرتك. أريد سلاما بيننا
 سلام! ! . . . أي سلام؟!. . منذ اشهر وانت لا تفعل إلا الحرب
 وانت لم تكوني ملاكا أجاب هازئا

 مهما يكن انا ضقت ذرعا. زهقت من الركض وراء إرضائك وانت لاتفعل شيئا بالمقابل. أحس بنفسي جوفاء خالية من أية قيمة. أشعر انني منهكة. ببساطة يجب ان أرتاح. . يجب ان ارتاح
انتفض الغضب في عروقه
 ترتاحين؟!. . نعم يجب أن ترتاحي. ترتاحي من هذه المشاغل الكثيرة التي لا تنتهي. وظيفة ومنظمات وحماية بيئة وجمعية متخرجين و. . و. . و
 أنا تعبانة منك. وتطاولت براسها في حركة ساخرة. . تجاهلك لي هو سبب تعبي. هنالك أمر ما فيك لا استطيع تحديده هو الذي يتعبني. انت لا تفعل شيئا لانقاذ حبنا. انت تستغل عواطفي. .
ابتعدت عنه فسقط رماد السيجارة فوق السجادة الصينية الملونة, لمحتها ولم تبالي. جلس وغضب يملؤه ولكنه تصنع الهدوء وسأل: هل لي ان أسالك كيف انني استغل عواطفك؟!

ظلت ساكنة. حاولت ان تجد كلمات تعبر بها عن مشاعرها . أخذت السيجارة من فمها. وبحركة مستعطفة مدت يدها نحوه وقالت: انت تريدني على مزاجك بغض النظر عما اشعر انا به . انت لا تتركني لحالي. لم تعطني لا راحة ولا امانا.
 مثلا . أعطني امثلة على اتهاماتك
 لا اعرف كيف أعبر عمّا أشعر به، غير أن عدم الرضا عن حياتي يؤلمني
ضربته موجة غيظ ثانية فقال:
 أنت تتكلمين بالالغاز. كوني واضحة ومحددة. أذكري وقائع, لا تتكلمي بالعموميات
 أعرف. أنا عاجزة عن أن اضع افكاري في كلمات ولكن باختصار انت لا تحبني. أنا اعرض نفسي دائما عليك. ببساطة انت دائما بعيد عني
بقي صامتا لوهلة ثم قال: ماذا عن ريتشارد ؟
كان الظلام قد بدأ يتسلل الى الغرفة. جلست صامتة لبرهة ثم اخذت السيكارة بين اصابعها قلبتها وقالت فيما هي تنظر اليها: إنني ذاهبة لملاقاته. صوتها كان حياديا وكأنه صادر عن شخص آخر.
أحس برأسه ينسحق وبأنفاسه تضيق
 من هو ؟ سألها رغم تأكده انها لا ترتبط بعلاقة ما, حتى ولو كان هنالك ريتشارد
 ستعرفه عندما يحين الوقت. عندما أعرفه اكثر
 ولكن من هو؟
 قلت لك ستعرفه في الوقت المناسب
سادت فترة صمت
 هل آت معك؟
 هذا هو انت قالت باستخفاف .

قامت الى النافذة, سحبت الستارة بهدوء وأضاءت مصباحا كهربائيا شحيحا ثم عادت الى مكانها. جلسا صامتين
قطع الصمت فقال بلهجة تتصنع الهدوء
 إذا أنت ذاهبة الى هذا الريتشارد, الفارس الذي سيأخذك على حصان أبيض الى قصر الأحلام.
 أنا لا اريد قصورا ولا احصنة . . اريد رجلا بسيطا يحبني ولا يخجل من حبه لي . شخصا يجعلني احس بكياني وقيمتي في قلبه, يخاف على مشاعري يفتخر بي ويحترم استقلاليتي.
 إذا فانت تريدين احتراما لاستقلاليتك
هه. ضحكت . لا حاجة لك بتأكيد ذلك. لا بد ان يكون اكثر مما هو أنت ليسلبني هذا الاحترام
 أستميحك عذرا! . ومن أنا لأفعل! . أحس قلبه يمتلئ مرارة وغيظا
 سأذهب وأرتدي ثيابي

بقي دون حراك في مقعده. أحس ألما يعتصره. ضربت أحشاءه موجة لهب عارمة ثم تلاشت رويدا رويدا . لم يكن يريد ان ينفصل عنها في مثل هذا الظرف الحرج من علاقتهما, فافتراقهما الان, تحت تأثير هذه الازمة, قد يؤدي الى أنهاء العلاقة . ربما لو ابتعد لبضعة أسابيع لأعطى لها ولنفسه فرصة مراجعة حساب. قد يستطيعان بعد فترة قصيرة تجاوز هذه الازمة وتنظيم افكارهما وإعادة الدفء الى علاقتهما. . أحس بدنه ثقيلا ولا طاقة لديه للقيام باي عمل. فكرة ابتعاده عنها أزعجته ولكنه أحس أنه أمر لا بد منه. بإمكانه ان يقضي بضعة ايام عند صديقه منذر ثم يذهب بعدها الى ملبورن او غيرها. من الافضل إفساح المجال لها لمراجعة نفسها فهي الان جامحة في ثورتها وهو في النهاية لا يريد لهذه العلاقة ان تنتهي بهذه البساطة

كان لا يزال على جلسته إياها عندما خرجت من الغرفة في رداء مسائي انيق يضيء وجهها فتبدو اكثر جاذبية واغراء. أكثر ألقا وتوهجا. أكثرعنادا وحماقة. .
استدارت نحوه وقالت: هل تسمح لي بمفاتيح السيارة؟
كان بإمكانها ان تذهب دون هذه المبادرة التي توحي بالمصالحة. هو يكره هذا الاسلوب الملتوي الذي تتبعه في تعاملها معه
 تريدين مني ان ابتعد لفترة؟ قال بلهجة هادئة
 نعم .أجابت جازمة
 حسنا, سأفعل. سأبقى عند منذر ليوم او يومين ثم أذهب الى مالبورن
 إفعل ما يحلو لك.قالت وفي نبرة صوتها شيء من تردد
 سأفعل لو كانت هذه إرادتك .
 أنا تعبة قالت وانتحبت .
 حسنا. آمل ان يريحك غيابي
لم تعلق. أكملت لبس قفازاتها. استدارت ناحيته ودون ان تلتفت صوبه وقالت:
 ستذهب إذا . . باي باي. .
طريقتها الوقحة في الانصراف أثارت مشاعره، فكرهها
 سأبيت عند منذر
ـ هل ستتصل بي من ملبورن؟
لم يجب على السؤال بل قال: لا تنسي معطفك
 لا, لن أنسى. وأخذت معطفها من فوق علاقة الثياب.
 هل تريدينني ان أذهب؟ قال ثانية بلهجة توحي أنه يريد منها أن تقول لا
عقدت ما بين حاجبيها. ضايقها ان تقاوم رجاءه بالرغم ما يجيش به صدرها من ألم ولوم وغضب. لقد احبته , أحبته بصدق. ولكنه لم يفهمها. من الافضل ان تتحرر منه لفترة . رغم إحساسها بأن التصاقها به هو قدرها, إلا انها ارادت ان تبتعد
 نعم. قالت بلهجة تتأرجح بين التردد والجزم
 حسنا!. . أجاب
اقتربت منه، طوّقت عنقه بذراعيها وقالت فيما هو يبعد خصلات شعرها عن وجهه
 انت لا تكترث كثيرا لهذه المسألة. اليس كذلك يا حبيبي؟ قالت مداعبة
 على العكس. إن هذه المسألة تعني لي الكثير. هي كل ما تتوقف عليه حياتي
ابتعدت عنه مغتاظة وقالت بلهجة حازمة
 يجب ان آخذ شيئا من الراحة.
يعرف هذه النغمة الممسرحة في أحاديثها وبسببها يكبر نفوره منها، إلا انه رغم هذا لم يستطع التخلي عنها. ا
 حسنا إذهبي واحصلي على راحتك عند ريتشارد
 لم لا؟ قالت باي باي وذهبت .
سمعها تقلع بالسيارة. قال في سره: هي حتما ذاهبة الى صديقتها ميساء

دخل غرفة النوم ليجمع حاجياته . آلمه منظر الغرفة. كانت تقول إنها تتخلى عن اي شيء في الدنيا لكي تنام معه. . لا شيء يستحق ان تندم عليه ما داما معا. شيء ما قام بينهما خلال الاشهر القليلة الماضية. يوم بعد يوم يشعران أنهما اكثر تباعدا. هي تحسه أليّ وبارد وتتألم بعمق وهي تراه يتحول عنه. هي لا تزال ترغب فيه. جسده كان دائما شيئا مثيرا بالنسبة لها, ولكن هل كانت هي كذلك بالنسبة له؟! ! . منذ مدة وهي تشعر انه, في جلساتهما الحميمة, لا يفعل أكثر من الاستجابة لغريزة محايدة. رأت نفسها تتمرد على جسده وترفضه، ولكنه لم يكن ليتركها تبتعد بل كان يحاصرها لا ليحبها بل ليجرها الى حظيرته. أحست أنها ستصاب بالجنون فهو لم يكن حريصا في لعبته ولم يسلك في سبيلها طريق الحذر والتمهل والدراية بل اقتحمها بوقاحة وعناد. ساءها أنه نجح الى حد بعيد في لعبته هذه, فقد احست أنها يوما إثر يوم تتحول الى دمية يحركها حسب حاجاته ورغباته. رأت فيه دراكولا يمتص دمها وحيويتها ويتركها جثة فارغة خلت من أي قيمة معنوية أو روحية

هو لم يفعل شيئا من هذا. هو أحبها. لم يكن يحتمل البعد عنها . جرب ان يسعدها ويعطيها ما تريد , ولكنه لم يكن يعي. لم يستطع ان يفهم سر هذه الشكوى والتأفف الدائم من معاملته لها. هو يعرف انها تحبه او بالاحرى انها أحبته وكانت مكتفية به وهو يعرف انه الرجل والحب الاول الحقيقي في حياتها. واما فيما عدا ذلك فقد كان هو نفسه. لم يستطع أن يفهم ما كانت تعنيه عندما تقول انه يستغلها ولا يبادلها حبها. ربما لأنه لم يفكر بها كشخص منفصل عنه أو ان لها حياة خاصة بعيدا عنه. جرّب ان يفكر بعقلها ولكنه لم ينجح . لم يستطع ان يمنحها السعادة. وهكذا نما النفور بينهما. الان يجب ان يعترف بالواقع ويبتعد.

ثوبها المرمي باهمال فوق السرير, جرابها المتروك فوق السجادة على نفس الهيئة التي خلعته بها, دبابيس شعرها المتناثرة بفوضوية فوق طاولة الزينة, قنينة عطرها المتروكة دون غطاء. كل فوضويتها أمور محببة تشعره بالمرارة وتجعل قلبه يقسو عليها حتى وهو يحبها.
. . .
لم يذهب الى بيت صديقه منذر بل ذهب الى الفندق. في المصعد والنادل الى جانبه بدأ يعي أنه على مسافة ميل واحد من بيته ولكنه يحسه على بعد مئات الاميال. كانت الساعة قد قاربت التاسعة. دخل الغرفة! التي سيبيت بها ليلته. غرفة حيادية كأي غرفة في فندق. الى جانب السرير مقعد وثير تحاذيه طاولة عليها بعض اوراق بيضاء وقلم حبر ناشف. فوق السرير رسم تكعيبي لم يستطع حلّ رموزه. نا! فذة الغرفة تطل على شارع فرعي مضاء من أحد جانبيه فقط. بعض افراد يمرون كالاخيلة المصعوقة, أيذهب رأسا الى النوم؟ . بل يستحم لتمضية بعض الوقت.

في خزانة الحمام كان كل شيء مرتبا ونظيفا. المناشف بيضاء ومعطرة و كذلك باقي المحتويات. كل ما هو حوله يذكره أنه في فندق: حرارة الماء المستوية، التدفئة المعتدلة التي لا تتذبذب، حيادية الاثاث! ونمطية ترتيبه. حاول من خلال تدفق المياه الدافئة فوق بدنه ان يعيد الحياة ثانية الى جسده الذاهل إذ.منذ بدأت تتحول عنه بدأ تدريجيا يفقد الاحساس بجاذبيته وكبرياء رجولته الذي نما فيه مذ أحبها وتزوجها قبل بضع سنوات. فقد التوهج الذي يملأ الرجل عندما يكون في حالة عشق متبادل. أمسى جسده مجرد نافلة لا قيمة لها. لم تستطع المياه ان تمنحه ما اراد ولا استطاع رذاذها الناعم الضربات ان يحرك فيه رغبة جسدية. تناول حمامه بروتينية مملة، التف بالمنشفة المعطرة ووقف يتطلع من النافذة وقد أدركته حالة من الامّحاء فكأنه ما عانى كل تلك الاحاسيس والمشاعر على مدى ساعة من الزمن
ثم تذكر انها لا تعرف اين هو. أدار قرص الهاتف وترك لها رسالة على آلة التسيجيل ختمها ب: "الى اللقاء"

انبطح على السرير واضعا يديه خلف رأسه وراح يتأمل الغرفة واللوحة المعلقة قبالته. احس عتمة تغلف روحه. تحركت فيه مشاعر ذكورية ضاق بها ذرعا. أحس انه محبوس في هذه البناية الكبيرة المتعددة الابواب. أحس رغبة في الخروج الى الفضاء ولكنه لم يفعل سوى ان حدق في العتمة

كانت أفكاره تحوم على غير هدى. فكر فيها تقضي ليلتها بتسليات برئية مع هذا الرمز ريتشارد. لم يعن له الامر الكثير ولم يذهب بعيدا في بناء تصور ما لذلك ال"ريتشارد". تساءل عن السبب الذي يدفعها للابتعاد عنه . لماذا بدأت تخمد بينهما تلك العاطفة الحميمة التي ربطتهما على مدى بضعة اعوام؟! . اتراها سئمت هذا الارتباط؟! . أتراها حنت الى السهل من حياتها السابقة الخالية من ! اي التزام ؟!. هل بدا يضايقها ان يكون للجزء العميق من ذاتها اتصالا مع مخلوق آخر. هل كرهت ان تكون في شراكة مع احد؟ ! . . . لا بد انها تريد ان تتحرر منه. كأنها لم تعد تحتمل الحميمية اللصيقة التي جرها اليها. أرادت لحياتها ان تكون ملكها لا أن تتعّرف على ذاتها من خلاله. لا تريد لهذه الذات أن تتجذر فيه . تريد ان تعود الى ايامها الخوالي تحس وتنفعل كما يحلو لها دون أن يكون لأي كان سيطرة على مشاعرها وانفعالاتها، متحررة من أي ارتباط أو التزام، وما هذا الرمز ريتشارد إلا مذراة أرادت بواسطتها إبعاده عنها. أحس ان جذوره تتفكك وانه يدور في حلقة غامضة ومضطربة كشيء مهدد بالاقتلاع من تربته

راودته هذه الافكار لساعات كان يهرب منها بين الحين والاخر بالتفكير في رحلته الى ملبورن. هجس بما يمكن ان يحصل له هناك
كأن ينسى معطفه في القطار. أو يختلط الامر على حرس الامن في الفندق فيخلطون بين اسمه واسم شخص آخر متهم بالارهاب . أو يتورط في الكازينو ويخسر كل ما يملك من مال. أو أن يصادف ابن عمّه فيحرج لكونه لا يصطحبها. أو لعل امرأة ما عابثة تبرز له فيعيش مغامرة عابرة تنسيه الى حين ما به من قلق واضطراب.

جالت كل هذه الهواجس في ذهنه إلا أن فكرة رفضها له ظلت ماثلة وتركت أثرها في جسده، فتزايدت دقات قلبه وأحس اختناقا في صدره وأطبق الظلام على روحه. دون ان يعي تألم تلك الليلة كما لم يتألم من قبل. حياته تذروها العاصفة، فلا العقل ولا المنطق ولا قوة الارادة بقادرة على إنقاذه مما هو فيه

في الصباح نهض خفيفا هادئا كأن هجعة النوم غسلته من أدران ليلة الامس. أحس صفاء ما بعد العاصفة. استحم وحلق ذقنه بتأن واتقان وخلال تناول الافطار في مطعم الفندق احس ذلك الاحساس الذي يحيق بالرجال المميزين !
عاد الى الفندق ظهرا, كان هنالك رسالة مسجلة على آلة الهاتف

 حبيبي ايمن، أنا انتظرك لنأخذ القهوة معا
أصغى الى الرسالة. أحس بتردد وحيرة. شيء ما قال له قاوم, لا تذهب. إلا أن ما حملته الرسالة من لهجة طفولية بريئة ونغمة اشتياق عذبة أضعف هذا التردد .

كان إحساسه بالاذى والاهانة قد فارقه وهو يستقل المصعد الى شقته. أنها الشقة التي حضنت حبهما على مدى ثلاث سنوات. فتحت له الباب. بدت, رغم لامبالاتها المفتعلة, وكأنها كانت تنتظره متلهفة. ابتسم لها بود وقبلها فوق الرقبة. في غرفة الاستقبال كل شيء هادئ ومريح. الستائر الحريرية المنسدلة كشعر حورية شقراء ، المقاعد بلونها الزيتيّ الهادئ، المزهرية الكريستالية التي تلمع ببراءة في زاوية الصالة، الزنبقات البيضاء الرشيقة القوام تآلفت جميعها لتجعلمن المكان لوحة فنية تبهج العين والروح

راحت تعد القهوة فيما اتجه هو الى غرفة الجلوس. هي غرفة واسعة بعض الشيء، يغمرها ضوء خريفي هادئ، أرضها مفروشة بسجادة صينية فاتحة اللون كالرخام غير المصقول وتنتهي اطرافها بورود رمادية وزهرية اللون، الارائك فوق المقاعد مبعثرة بعض الشيء كأنما فارقها جليس دون إعادة ترتيبها. غرفة تشعرك بالهدوء والبساطة وحريّة الحركة والتصرف دون أن تحسب حسابا لما يمكن إتلافه او كسره . . وصلت تحمل بيدها صينية عليها ثلاثة فناجين من القهوة وصحنا مليئا بالبسكويت الخفيف الهش, بدت مشرقة وهي تضع الصينية على المنضدة. رجل شاب نهض من الطرف الاخر
 تأخرت. . توقعتك قبل ساعة. (قالت وهي تتطلع إليه بنظرات زائغة فيما راح هو يداعب علاقة المفاتيح دون ان يعلق على كلامها)

 إنه هنري, زميل ريتشارد (قالت مقدمة الرجل الغريب)
شاب على وسامة, زاد عن العشرين بضع خطوات ولكنه لم يتعد الثلاثين. له عينان متوترتان ذو زرقة داكنة وشعر طويل داكن ممشط الى الخلف وحاجباه المشدودتان الى أعلى يضفيان على هيئته شيئا من الاندهاش. تطلع صوب الرجل وانحنى قليلا على عادة التعامل مع الاوروبيين. أحس نفسه يسقط في رقعة غريبة مفككة النسيج. استعاد جلسته وحاول ان يظهر بمظهر الرجل الواثق من نفسه. فكر في كلام يخدم هذه الغاية ولكنه لا يجيد الكل! ام كثيرا مع الاغراب, خصوصا هؤلاء الاجانب الموتورين بموضوع البيئة. فشعر بشيء من الانهزام وانتظر حتى تتخذ المحادثة منحى آخر يستطيع المشاركة فيها
بعد برهة أحسها زمنا, وقف الرجل مودعا واعدا بان يعود في مرة أخرى

ابتسم ابتسامة آلية باردة وأطلق زفرة من تخلص من همّ ثقيل
جلسا صامتين للحظات ثم قطعت الصمت قائلة
 ننسق معا لحملة الاحتجاجات على مشروع شق الطريق السريع في منطقة أحراج بلو ماونتن. حرام هذا التخريب للبيئة. مؤسف ما يفعلون بالطبيعة؟
 ماذا يفعلون بها؟ سألها ببرود ولامبالاة
 كأنك لا تعلم. كأنك من كوكب آخر
 لنرجع الى عهد الحمير إذن
 ولم لا؟ هذه المدنيّة هي سبب كل امراض البشرية
امتلأ قلبه بالغيظ . ماذا تريد من وراء هذا الادعاء الاجوف؟ إحتقر تعاطفها ورقتها التي بدت له كمؤسسة خيرية جوفاء تظهر الحنو والشفقة بآلية ميكانيكية خالية من أيّ عاطفة حقيقيّة. قال في نفسه:

 هذه هي المرأة. مخلوق لا قلب له. تتصّرف بعطف ولطف وإنسانية ولكنها لا تعرف الحب ولا تريد للرجل مكانا في حياتها. هي هكذا دائما، منذ عهد جدتها حواء وهي مصدر ألم ومعاناة للرجل. وما بلقيس وهيروديا ودليله وحوريات الاغريق اللواتي ضللن اوليسس إلا شهادات على قسوتها وجبروتها

هلو! . قالت مستهزئة: هل وصلت الى قرار بشأن علاقتنا التعسة؟ انا أكيدة انك لم تفعل
 انت ملكة في هذه الامور
 وأنت ما هو أنت؟ ! . .
 إسمك يجب أن يكون ليما لا لمى
شعر بالغضب وانطفأت في قلبه كل رغبة عشقية تجاهها. هو يستطيع الان ان ينظر في تينك العينين الوادعتين دون ان تتحرك في قلبه أية مشاعر ودية. أحس أنه يكرهها, وأحس بالسعادة لانها لا تعرف حقيقة مشاعره ابتسم في سره وردد: (ممتاز! خليها مخدوعة)
 عادت الى موضوع البيئة :
 أوه ! ! . . . لقد جعلني هنري احس بالتعاسة. لا احد يبالي بأمر الطبيعة. الناس جهلة
استشاط غضبه، كيف يخرجها من هذا الانهماك الكاذب؟ كأن كل مشاكل البشر حلت ولم يعد إلا الشجر.
قامت تعيد صينية القهوة الى المطبخ . سألته
 هل تبقى للعشاء ؟
 كلا . لا لزوم لذلك
 ولم لا ؟
علم من نبرة صوتها أنها تريده أن يبقى، ولكنها تكابر لتخفي حقيقة مشاعرها. جلسا صامتين . ثم ما لبثت ان سألته
 ماذا فعلت
 لا شيء. نمت باكرا,
 هل نمت جيدا؟
 نعم. هذا التهذيب المراوغ! ! ما ابرعها فيه. اراد ان يذهب. بقيا صامتين لدقائق ثم قطعت الصمت قائلة
 إلا تسألني ماذا فعلت أنا؟
 انا لا اهتم. انت قلت انك ذاهبة بصحبة شخص ما للعشاء
 لماذا لا تبالي بما افعله. ألا يهمك أمري؟
 ولماذا يهمني ! ! . . . إن كان كل أمرك هو إغاظتي.
 هه ! ! . . . إغاظتك! َ! أنا لم أفعل شيئا لإغاظتك. أنا امرأة واقعية وجادة في كل ما أفعل
 حتى موضوع ريتشارد
 نعم. . يجب ان يكون هنالك ريتشارد . وكأنك تهتم
 لو انك لا تكاذبين لكان الامر اقل سوءا
 انت لا تهتم لأمري. قالت بتذلل
 قولي ما يحلو لك
 وانت ألم تفعل شيئا البارحة؟
 تحممت ونمت باكرا. وسرح بنظره بعيدا عنها
 لا , هذا واضح انت لا تهتم لأمري.
لم يزعج نفسه بالاجابة, بل تطلع الىساعته. إنها السادسة.
هل ستذهب الى ملبورن غدا
 نعم. . . سانزل في الشيراتون. تعرفين رقم الهاتف. تستطيعين مكالمتي قال متمهلا كمن يرغم نفسه على الكلام
 . .
 ساغيب لمدة شهر تكونين في اثنائه مرتاحة وحرة.
هذا صحيح قالت في سره ومازجها شعور بالمرارة لهذه القسوة واللامبالاة التي تضمنتها إجاباته.

هو, من ناحيته، كان يشعر بثقل في صدره وصعوبة في التنفس. لقد احس ان هذا الانفصال الجسدي هو خطوة نحو انفصال أكبر , إنفصال روحيهما. هو إقرار بان الزواج قد فشل, وهذا أمر يشقيه. لقد بنى كل حياته مذ عرفها على طريق واحدة وقاوم في سبيل ذلك الكثير, وتشاجر مع كل من وجه اي انتقاد لعلاقتهما. تحدى امورا كثيرة وتخلى عن امور كثيرة ومع ذلك هي تتهمه بانه لا يحبها. شد بعنف على مقبض المقعد. هل ان هنالك شيء ما فيها؟ هل ان ما أراده منها هو العلاقة فقط؟. . رضى النفس الذي يحسه الرجل وهو في علاقة مع امرأة حتى ولو لم يكن حبا مكتملا؟ المؤسسة الثابتة التي تمنح الرجل بيتا وشعورا بالانتماء الى مكان تقيم فيه امرأة غير تلك المدفوعة الاجر؟ امرأة تهتم به لذاته لا لأجر الذي يدفعه؟ الخلاص من العزوبية ونشدان الرفقة التي تجعل الامور اسهل؟. هل كانت هذه هي الاشياء التي تهمه في هذه العلاقة وليس العلاقة بحد ذاتها؟!. ولكنه أرادها هي وهذه الاشياء فما الخطأ في ذلك؟ ربما يكون قد اخطأ بحقها , ممكن! ! . . . لقد كانت جادة بقولها. وما تقوله بجدية يجب ان يصدقه. إنه في النهاية تعبير عن ذاتها. شعر انه تعس.

عندما تطلع اليها كانت تتكوم فوق المقعد تحدق في باقة الزنبق وتقضم أظافرها بعصبية وكأنها لا تدري ما تفعله. علم انها هي ايضا تعاني، أن شيئا ما يحرقها، القلق في نظرتها، الاستسلام، اللهفة، امور جعلته يذوب شفقة عليها
 لا تقضمي أظافرك قال بهدوء
وبكل طواعية أخذت يدها من فمها. بدأ قلبه يضرب بقوة . بدأ يشعر ان جو الغرفة يتغير. فبعد ان كانت ثقيلة الظل مقفرة كصندوق كبير أخذت تبدو الان اكثر ألفة كأنها تشاركه تغير انفعالاته.

أعاد التفكير باتهامها له انه لا يحبها. عاد قلبه يخفق كعصفور صغير في قفص. هو متأكد انه يحبها ولكن على طريقته, أيمكن أن تكون طريقته خاطئة؟ طريقته هي حقيقته، هي ذاته. هل ان هنالك خطأ ما فيه هو؟ شيء لا يمكنه من الحب الحقيقي؟ خطأ في صميم كيانه؟. . هو لا يحس أن كيانه يشكو من شيء البتة. صارع كسمكة هوجاء في شباك صياد ماكر. هو لا يريد ان يقر بان طبيعته ناقصة. اين هو النقص؟ هل هو امر فيزيائي؟ قالت إنه لا يستطيع الخروج من ذاته وأنه لا ينفعها لانها غارق في ذاتيته. ماذا كانت تعني بذلك؟ هو لا يرى اي عيب في نفسه وقلبه يقول له إنها تحبه وإلا لما اهتمت لما فعله او يفعله.

حكايتهما أمست مثل حكاية بريق الزيت. يجب ان يذهب، يقضي ليلته في شيء ما، يتخذ عشاء خاصا في الفندق او يذهب الى المسرح
 حسنا. يجب ان أذهب
لم تجب. اكتفت بالنظر اليه وابتسامة مجاملة متحفظة في وجهها دلت على انها تتألم. برقت عيناه دون ان تعبر عن نصر ما واحتار في تفسير هذه النظرة وهذه الابتسامة. هل أن ما رآه هو تراجع ورجاء ام هو كبرياء مقنع؟ أحس ان صدره يكاد يسحق وأنه غير قادر على التنفس الطبيعي
 حبيبي!. (قالت, في إشارة مسرحية وشفاه تقترب منه وعينان تتسعان التماعا)
لم يشعر أنه المعني بذلك فقال وعيناه تحدقان فيها: ماذا ؟
ـ اووه يا حبيبي! . (قالت بدلال وابتسامة مواربة) ثم انزلقت عن المقعد وأتت نحوه ووضعت يدها بتردد فوق شعره. إندفع دم حار في جسده وتحول الالم في عروقه الى فرح كمثل من تخلص من شيء يثقل صدره وحلت عليه راحة ناعمة عندما لامست اصابعه نهدها. شد رأسها الى صدره, ارتجفت يده فيما هو يضغط برأسها صوبه وشعر ان كل مشاعر الغضب والاشمئزاز والرفض والكره قد فارقته. شعر الحياة تدب ثانية في أوصاله. كل ما عاناه امسى رمادا. هي الان تحبه وكل معاناة عاشها من جراء احساسه انها لا ترغب به تلاشى. . امسى تنفسه مريحا وعميقا وبدون اي تفكير ضمّ رأسها الى صدره. آمن بها من! جديد

تطلعت نحوه طفلة مرحة تدعوه بشفاهها، انحنى ليقّبلها وحالما اغمض عينيه ليبدأ قبلته لها رآها هي ايضا تغمض عينيها. ما اجمل هذا الشعور بالرضى والمصالحة

 هل تحبني؟ همست بإثارة مترفعة,
لم يجب. بل أحاطها بذراعيه بحنو. أحب الملمس الحريري لشعرها ورائحته الطبيعية. ازعجته تلك الدبابيس المنتشرة التي تعيق تحرك يده . . لم يفهم ما حصل له الا ان الهدوء عمه . راقبها في هدوئه العامر, غصة صغيرة كانت لا تزال تعكر صفاءه . كانت محبة عطوفة, مشرقة تضحك كطفل سعيد
- يجب ان أضع صينية البيتزا في الفرن قالت
لماذا سحبت نفسها من بين ذراعيه لتضع صينية البيتزا في الفرن ؟
وفيما هي منشغلة بأمر العشاء قام الى الستائر يرخيها واضاء المصباح الذي يرقد في الزاوية.فانبعثت إنارة شحيحة ذات دفء شاحب محبب
عادت اليه بعد دقائق. رفعت ذراعيها نحوه بإثارة مقتصدة. التحما ببعضهما, جسدا لجسد, كانت اندفاعة مشاعره هائلة , شعر بنفسه يضطرب ويشتعل بنعومة وهدوء بين يديها . هذا التواصل معها كان أقوى من الحياة والموت, الا ان تنهيدة ما كانت تكمن في قاع قلبه
كانت مرحة ومغرية على العشاء لقمته من يدها وكعاشقين مراهقين انتظرا هبوط الليل. إلا ان شيئا من مرارة الليلة الفائتة عكر صفو مشاعره
 انت لن تذهب الى ملبورن غدا. (قالت وكأن الامر ثابت ومقرر)
سكبت في صحنه أفضل ما على المائدة من طعام وملأت كأسه بالعصير ووضعت الثلج فيه, تماما كما يحبه. امر كان يبدو طبيعيا فيما مضى, إلا أنه الليلة ذا دلالة خاصة. أحس بفرح خجول. تذكر بعض الابيات الشعرية التي كانت تحبها. هو شخصيا لم يكن يعرفها بل تعلمها منها

لأني أحبك , أصبحت أجمل

وبعثرت شعري على كتفيّ. .

طويلا . طويلا.

لا تقبلني بعنف

زهرة الرمان ليست تتحمل.

لا تقبلني.

فلو ذاب فمي.

ماذا ستفعل؟

كانت تطلع في عينيه بين الحين والاخر وتقول كلاما جميلا يشعره بالرضى والسعادة ولكنها سعادة مغلفة بضباب التلاشي، إذ قد يكون ما هي فيه ليس أكثر من موجة فوران عاطفي مفاجئ يضربها الى حين فتتوجه فارسها وأميرها. أو قد يكون ما بها ليس أكثر ما في طفلة مدللة اختارت أن تستسلم لدميتها، وهو ليس اكثر من فارس وأمير في لعبة اطفال. . لقد احب ذلك ايضا واحب النظرة الحانية التي كانت ترمقه بها. لحظة, وعاد الالم الخفيف ثانية. لقد أحبها ولكن من الصعب ان يكون سلاما بينهما. قد تحضنه اليوم وترفس! ه غدا, كمثل ما تفعل العشيقة المزاجية بعشيقها، وربما كان هذا سببا إضافيا لهيامه بها. قد تكون ظنونه هذه حقيقة مؤكدة, ولكنه الان ليس على استعداد لتصديقها والانصياع لها. فكل ما ! كان وكل ما يمكن أن يكون ليس ذا بال.
الان هي تحبه وهذا هو الاهم . . هذا المساء يحس نفسه أميرا, ما هّم لو خلع غدا ؟!.

عيناها واسعتان وجميلتان تلتمعان بمزيج من اندهاش وابتئاس كأنما علمت ما يجول بخاطره وأنه لم يعد اليها تماما. وإذ شدها اليه , تمتمت بإغراء: "يا حبي ويا أميري". غلغلت أصابعها في شعره , تلاعبت بخصلاته متناسية كل ما كان بينهما من خصام . أحب ما تفعله. أحس رؤوس اصابعها تتغلغل في شعره وهي تقول : مثل ابولو . رفعت وجهه بين راحتيها، تأملته بشغف وابتسمت ابتسامة حب حانية وقبلته. أحب ما تفعله ولكن شعوره بالمرارة لم يفارقه كليا. قلقه على ما يمكن أن يكون شأنها في الغد أشعره بالغم. أحس أن عاطفتها موجة عابرة سوف تنتهي في الغد. عرف أنه ليس أميرا, هو لا يشعر بانه أمير حتى وهي تتوجه وتقبله
ضمها بعنف وقبلها. بعد القبلة أمسكها بانفعال عميق وكالألم تدحرجت الكلمات من فمه
 هل تكونين لحمي ودمي يا لمى؟
 نعم يا حبي. ( اجابت منفعلة)
عض على شفته بألم.
 ولكن يا لمى انا اعني, قلب لقب, وروح لروح, وجسد لجسد
شددت من قبضتها فوق ذراعه دون ان تتكلم. عرف هو وعرفت هي: أنها تتملص من الإجابة


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى