الثلاثاء ١٥ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
بقلم مجدي علي السماك

أيام الخميس

أقبل الليل، بعتمته وسكونه، أقبل بثقله وهمومه. الآن يبدأ السمر، صحيح أنه مرّ إلا أنه سمر، وله بداية.. أطبق الليل شفتيه، فعم الصمت وعام به الليل فأغرق الدنيا بالسكوت.

لكن اليوم الخميس وليس ليله كأي ليل، فهناك شعائر زوجية تمارس وتقام طقوس زاخرة بشهوة الأجساد، وأرواح تنعش بالحب.. أوأللا حب.

عاد إلى البيت عابس الوجه، يرفل بجلباب لونه رمادي أقرب إلى لون الفئران، ألقى بطاقيته المخرّمة على كرسي خشبي متآكلة أطرافه وقاعه مخزوق. تقدم بضع خطوات وألقى نظرة متفحصة ملية علىوجوه كومات لحم نائمة مبعثرة بعشوائية ويختلط فحيح أنفاسها الساخن ليخدش هيبة الصمت، ثم تراجع خطوات قليلة وعلى الحصير تربع. اسند ظهره إلى الحائط المتسخ بالبقعوالخرابيش،واخذ يصغي لنقرات الماء في الحمام،وهسيس رشقاته المنسكبة على جسد زوجته،ويحدق في السقف الموشوم ببيوت العناكبوالممهور بالهبو.

خرجت زوجته من الحماموقد تدلى شعرها المبلول يقطرويغطى وجهها المدّور،ورائحة الشامبوالرخيص تفوح، وقد لفت جسدها بفوطة كبيرة، فطوقتها من أعلى صدرها إلى أسفل ركبتيها، ما أن رأته حتى فلت من فمها رشقات الضحك الرنان المتبوع بغنج،وأضاء وجهها مثل الشنبر.. فلم لا تضحك ؟ فكل شيء على ما يرام، فنهار الخميس قد انقضى وجاء الليل، هي ليلة الجمعة، والزوج زوجها وموجود أمامها بعظمه، صحيح أنه بلا أي شحم أولحم ولكنه زوج والسلام..وأكوام اللحم تغط في سبات عميق، إذن كل الظروف مهيأة لهذا الوقت المنتظر من أسبوع على أحر من الجمر.. كانتظار الأرض العطشى لماء المطر.

أقتربت منه حتى التصقت به، وأخذت تتدلل عليه وتتثنى بجسمها الأهيف ومالت عليه، فأخذ يتأوه...

 أي.. أي.. أي يا فتحية.. راسي يتفجر بالألم.. الدنيا تدور من حولي. أي يا ظهري.. ظهري يؤلمني يا فتحية.

 سلامتك ألف سلامة.. بعيد الشر عنك.. إن شاء الله بسيطة.. سأغلي لك بابونج.

 عيوني يا فتحية.. عيوني مزغللة.. أحس أني احتضر.. نفسي مكتوم.. مفاصلي منملة ومرتعشة يا فتحية.. كأن عظامي تسحب من لحمي.

  إن شاء الله أعداءك.. تعال.. تعال استرح في الفراش .وسأحضر لك الطبيب حالا.

جاءت فتحية بالطبيب، فأوصى بالمقويات والفيتامينات، والإكثار من أكل اللحوموالأسماك، فالزوج مصاب بسوء التغذية ودمه في غاية الضعف.. للحظات شعر بأن روحه تغلي، فهولا يملك النقود لشراء الأدوية والطعام، وتحولت ليلة الجمعة إلى وبال. مر بخاطره أيام كان قوياويهدّ الحائط بقبضة يده.. راحت أيام زمانوألآن زمن الحصار.. الأجساد محاصرة في غزةوالأرواح محبوسة والأفكار مضغوطة في جماجم الناس.. كل الأيام مثل بعضها..ولكنها بلا يوم الخميس. صوب نظرة ملية إلى فتحيةواخذ يتمتم...

 من أين لنا بالنقود يا فتحية ؟ الم يستطع هذا الطبيب أن يوصي بشيء آخر غير اللحوموالأسماك ؟ ليته أوصى بالباذنجان، أوالعدس مع بصل اخضر أوحتى ناشف، نحن في حصار يا فتحية.. حصار يمص العظمويذيب اللحم في الإنسان.

 وكّلها لله.. ربنا يجازي من كان السبب.

 منذ أسابيعوأنا ابحث عن عملولم أجد.. تكسرت قدمايوأنا ألفوأدورولم احصل على أي نكله يا فتحية..والأسعار مرتفعة جدا.. خاصة اللحوموالأسماك.

 سأبيع الثلاجة.. لا حاجة لنا بها.. فهي فارغة على الدواموقد عششت بها الصراصيروباضت.
 لا يا فتحية.. خسارة.. لا تفعلي ذلك.. فهي من رائحة المرحوم.

  ليست خسارة بك، صحتك بالدنيا.. أنت أغلى عندي من كنوز الأرض.

غرق الزوج في النوم،وتمددت فتحية بجانبه مفتوحة العينين تفكر في تدبر النقود، تريد القليل منها ما يكفي للطعاموالعلاج، كي يسترجع زوجها ما فقده من لحموشحموعافية،وأيضا كي يتسنى لها إحياء ليلة الجمعة.. هي لا تطمع إلى أكثر من ذلك.. أبدا لا تطمع.

*****

في الصباح باعت فتحية الثلاجة.. نعم باعتها.وعادت إلي البيت تئن بحمل سلة مليئة

باللحوم والفاكهة والخضار، والأدوية والمقويات. شمرت عن ساعديها وباشرت الطبخ والنفخ، فتعبق البيت بالروائح المتطايرة المبثوثة من الطناجر،وزوجها يصغي ويطرب لقعقعتها،ويتنسم روائح الطهي بكل خلية من خلايا رئتيه،ويستنشق رائحة تقلية الثوم المشتهاة بفتحتي أنفه الواسعتين، كأنه يخشى عليها أن تضيع هدرا.. فهي روائح كاد أن ينساها..وثمنها باهظ.

مع مجيء يوم الخميس التالي كانت القوة قد دبت بالزوج،واشتعل بالنشاط، فأخذ وزوجته ينتظران الليل بلهفة وشوق، كما يتلهف الصائم ويشتاق لأذان المغرب.. ذهب بهما الليل إلى أسرارهوذهبا به إلى سرهما.. توهج بهما الليل وتوهجا به.. أمسك الزوج الجردل البلاستيكي واخذ ينقر قاعه ويطبل. ثم صاح...

 الله يلعن أبوالحصار.. هيا يا فتحية.." حزميوسطك.. ارقصي يا فتحية.. ارقصي".

 أنا !.. ارقص !.. عيب !.. يا عيب الشوم.

 هنا بيتنا.. أنا زوجك.. هيا يا فتحية.. "هزي خصرك.. ارقصي ".

 نحن في حصار ! نحن فقراء.. ماذا سيقول الناس ؟

  أكثر أنواع الموت موتا يا فتحية هوالفقر. هل سنصبح أغنياء أويفك الحصار إن لم ترقص يا فتحية. هيا.. هيا.. نفسي افرح وأسلطن.

رقصت فتحية..وانقضت الليلة على خير ما يرام، لقد شبعت الأجسادوانتعشت الأرواح.. أيوفقا للخطة الأسبوعية.

*****

هكذا أذن أصبحت ليالي الجمعة.. كل ليلة تعني بيع أي شيء من أثاث المنزل.. لقد باعوا كل شيء حتى الغسالة الصدئةوالتلفزيون الخربان... لم يتبق لديهم ما يمكن بيعه.

 يعني يا فتحية لازم نبيع أي شيء كي نعيش حياتنا الزوجية.. أنا احسد الحيوانات فهي لا تبيع أي شيءوتمارس الزواج على كيف كيفها مجانا.

 هل تتمنى أن يسخطنا الله إلى حيوانات.

 لا. أبدا.. لكن الحيوانات ليست محاصرة مثلنا..وهي ليست فقيرة.

 أنا بصراحة أتمنى أن يسخطنا الله إلى قردة في الغابة. ماذا سنفعل لوأصاب احدنا المرض لا سمح الله ؟

 قال بحرارة : عندها سأبيع دمي يا فتحية.

 أبقي عندك من دمك ما يكفي أن تعيش ؟.. دمك القليل ضعيفوفي طريقه إلى النفاذ.

جاء يوم الخميس مسرعا هذه المرة، كأنه قفز عن بقية أيام الأسبوع.. اخذ زوجها يدلعهاويناغيها على ضوء الشمعة، فلمعت قرعته المبتلة بالعرق،وخياله الكبير على الحائط يقفزويتحرك كالغوريلا. اقترب منهاوأخذها بين يديه ليحضنها فصرخت : أي.. أي.. أي يا راسي.. راسي يتفجر بالألم.. الدنيا تدور من حولي.. أي يا ظهري.. كأن عظامي تسحب من لحمي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى