الأربعاء ٢٣ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
عتبات الطريق
بقلم محمد البوزيدي

عبــــــــد السلام

منذ زمان مضى عهدته يرتدي لباسا مزركشا وبذلة عصرية اختفت معظم ألوانها الزاهية ويصارع الزمن القاسي، ويحتفظ ببرودة أحواله المختلفة،كيف لا وهو عون بسيط في مؤسسة تعليمية.

يجلس على كرسي خشبي ليحتضن القادم من بعيد بابتسامة خاصة تخفي فلسفة خاصة للحياة، وعلى إيقاع السيجارة الشقراء التي يمتص تبغها بقوة خارقة، يستقر في نفس المكان طول النهار لا يتحرك منه إلا ليبتعد قليلا عن الأشعة التي تغازله كل صباح وزوال حتى أصبحت حبيبته التي تربت على كتفيه وتعانقه وتجعله على غير عادته يبتسم بصعوبة،إذ يدرك أن الابتسامة افتقدت مذاقا غير معهود إلى غير رجعة.

يحمل عصاه الطويلة التي تذكر بعصا سليمان ليهش بها على التلاميذ والغرباء الذين يستمتعون بممازحته وإثارته كل يوم واستصدار ضحكات طفولية منه عبر أفعال صبيانية فد تستفزه مثل المرور من أماكن ممنوعة على التلاميذ والعبث بالربيع الذي يزرعه مطلع كل شهر أو اللعب قرب راحته المشهورة أو الدخول من مكان غير مسموح به ......

حين أتأمله جيدا أقف مرعوبا من تجاعيد جبهته التي كادت تقفز من مكانها لإستقرار الحسرة بها وداخلها،فهو الذي بالكاد تم ترسيمه هذه السنة بسلم متدني فاختفت الأجرة الهزيلة إلى ميعاد مؤجل، رغم أنه يتكفل بإطعام أسرة يتجاوز أفرادها عدد أكف اليد الواحدة .

أسلم عليه: كيف الحال أيا عبد السلام ؟؟؟

يرد علي بنبرة خاصة :السلام ....بخير .....إلا خلاوني بني كلبون ف الراحة......
والحقيقة أنني بحثت عن هذا المصطلح دون إدراك المقصود به، بل لاأقدر على استفزاز كرامته بالسؤال عنه،فهل هم التلاميذ المشاغبون ؟أو الأساتذة ؟ أم جميع من يمر أمامه في هذه المؤسسة ؟؟؟؟؟؟

يتواجد كل لحظة وحين قرب الباب وحتى إذا اختفى فلكي ينام قليلا من جراء السهر والتعب حينها لا يمل كل من وجد الباب مقفلا أن يطرق الباب المجاور للمؤسسة صائحا: افتح ياعبد السلام.

هذه *البخير* أدرك جيدا أنها تضمر ويأسا بليغا غائرا وغضبا خفيا متنوع الدلالات تجاه الدولة التي اكتفت بإعطائه منزلا دون أجرة قوية مناسبة لتضحيات سنين قضاها في هذا المكان الذي تخرج منه تلاميذ سابقون ليصبحوا موظفين كبار في الدولة،ويبقى عبد السلام في مكانه المعتاد.

يتجول قليلا ليطرد روتين الجلوس، لكنه لا يبتعد عن الحديقة التي يتعهدها كل يوم بالغرس والزرع، لقد أينعت فمتى يحين ينعانه الخاص؟؟؟ أم أن أحلامه الخاصة ضاعت وسط أوراق الأشجار التي تسقط يوميا بضغط ظروف الطبيعية التي تتعرض لها المؤسسة.

حين تراه يتقدم وسط الساحة تبدو لك مشيته مثل زمن هارب يسبق الموعد، يجدف برجليه، ويتكئ بجسده النحيل تارة لليمين وتارة لليسار، يسعل بقوة من جراء آثار التدخين سنين عديدة، و القبعة الزرقاء التي تنتصب عالية فوق رأسه تحذرك من بعيد بعدم الاقتراب منه.

ورغم تجاوزه عتبة الخمسين سنة فهو لا يعرف موعد ميلاده، ورغم شيخوخته المبكرة فمازال يحتفظ بصلابة خاصة، يسقي الأشجار بحب دافق، ويكنس الأقسام بدقة، وعلى حين غرة يبتسم ابتسامات خاصة فتبدو أسنانه مثل متواليات توشك على السقوط المدوي، نظراته تشي بخبرة محدودة في الحياة كيف لا؟؟ وهو لم يغادر المدينة منذ أكثر من عشر سنوات رغم تمنيه بذلك.

لقد أصبح عبد السلام مكونا من مكونات المؤسسة، فهو لا يغادرها إلا لماما لحاجات شخصية محدودة، تتعاقب الإدارات على الصراخ فيه ونهره، والأساتذة على رفقته حتى يقضوا ساعاتهم المعروفة، ويتمرس التلاميذ على مداعبته أحيانا، حينها يحاول أن يكون حازما، لا تمل الفتيات من الابتسامة في وجهه، يحاول أن يبقى صارما وجديا لكنه في الأخير ينهزم بالضحك الممزوج بطرد كل من يقف في وجهه، حينها يرجع لكرسيه الخاص فيتذكر أحزان طفولة فوتت عليه فرصا للعب والمزحة والتمتع بحقوقه مثل باقي الأطفال .

ومع كل يوم جديد قطر القلب حزنا وكدما على رجل لم ينصفه الماضي، ولم يحتضنه الحاضر وأكيد سيخذله المستقبل في تحمل مصاريف أبناء تجاوزوا عتبة المطالب البسيطة ليطالبوا بحقوق عديدة يرون موادها تعلق كل وقت وحين في جدران مؤسسة رائدة في أندية التربية على حقوق الإنسان .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى