الخميس ٢٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
بقلم مجدي علي السماك

وجه شارد

الجدار مليء بآثار مسامير قديمة وثقوب، بجوار الجدار طبلية ورثها عن أبيه، لها ثلاثة أرجل أما الرابعة فحل محلها علبة سمن فارغة، وإلى الطبلية تصوب عينان مفتوحتان صامتتان ووراء صمتهما أسئلة تدق من زمن بإلحاح.. هو إلحاح رافقه مذ جاء إلى الدنيا بصمت في هذا البيت العتيق.. وحين تصمت العيون تعمى الآذان وتُصمًّ القلوب.. أو تتظاهر بالموت وقت الكلام.. فيتحول الكلام إلى صمت فعال.

فوق الطبلية تلفزيون قديم غطاءه مثبت بواسطة حبال من مصيص، وأسفل الطبلية شبشب دائم التحول إلى عضاضة في فم طفل رضيع يحبو.. وبجانب الطبلية طشت قديم فارغ إلا من طفل في الرابعة من عمره يتربع في قاعه ويلهو بلا أي أداة للهو.

بعد أداءه صلاة المغرب بسرعة كأنه في سباق تمدد على الكنبة الممزق قماشها ومازالت قطرات ماء الوضوء تبلل خصلات شعره الناعم كفرشاة طلاء جديدة.. أخذ يشاهد مباراة كرة القدم بكل ما لدى جسده من خلايا قادرة على المشاهدة، خلايا بصرية أو غير بصرية.. بعينيه يشاهد، بعقله يشاهد، ويشاهد بخلجات قلبه الذي يدق بقوة مع كل ركلة للكرة.. مما استدعي تقلب عضلات وجهه من لحظة إلى أخرى ما بين تقطيب وانبساط.. وما بين تكشير وابتسام.

زوجته في المطبخ غارقة بين تلال الأواني المتسخة تنظفها و دوي ضجيجها يعلو على صوت التلفزيون مرة و يخبو مرة. ها هو ذا طفل آخر يمسك ثوبها بيد، واليد الأخرى تمسك بصحن به بقايا طبيخ ملوخية وقد أخذ يلحس قاعه بلسانه الصغير حتى دهن بها وجهه، فبدا كمن يلبس قناعا.. قناع من الملوخية أفضل ألف مرة من أقنعة المواقف و الكلمات.

وقفت زوجته بجانبه متعبة و حبيبات الماء تقطر من أطراف أناملها قائلة بملل مضن :

 لقد فرغت زجاجة سائل الجلي.. لم استطع تنظيف كل الأواني.

 إني أشاهد المباراة.. لا أستطيع الآن الخروج لشراء أي شيء.

 وصنبور المياه لا يعمل كما يجب.. يجب عليك أن تصلحه.

 قلت لك أنني أشاهد المباراة.. ألا تفهمين ؟

  هل المباراة أهم من مسؤوليات البيت واحتياجاته ؟

لم يحفل بكلامها. فظلت واقفة كشجرة البلوط.. ثم حدقت قليلا في شاشة التلفاز فاغرة فمها وغرزت أطراف أصابع كفها خلال أحراش شعرها المنكوش وحكت مؤخرة رأسها بهمة حكات سريعة متعاقبة، وشبكت ذيل فستانها في خاصرتها بعد أن مسحت بكمه شلالات العرق عن وجهها المتجهم الرفيع الأسمر، وعادت تزعق بعصبية وتوتر:

 أيعقل أن تتفرج على شباب يجرون وراء كرة مثل الأطفال في الشارع ؟!

 هذه مباراة فاصلة يا غبية ! أنت لا تفهمين بهذه الأمور.. قالها وقد ارتسم على وجهه تكشيرة صارمة كما الجنرالات.

 ليتك تنظر إلى وجهي مثلما تنظر إلى المباريات !

  وجهك ؟! وجهك مثل بوز طائرة الأباتشي !

رغم أنها لم تر في حياتها طائرة الأباتشي إلا أنها شعرت بواسطة قرون استشعار داخلية بالإساءة، فانقبض وجهها وارتعش خدها الأيسر وارتفع ليضغط على جفن عينها ليغمضها نصف غمضة، و زمت شفتيها صانعة بهما ثقبا صغيرا في وسطهما ونفثت منه بحرقة كما طنجرة الضغط كل ما احتواه صدرها من هواء حار مكبوت وغاضب.. تناولت بيدين مرتجفتين طفلها الرضيع وانتبذت به جانبا وأخرجت ثديها وألقت حلمته في فمه فأخذ يشفط منه الحليب كما "الطلمبة".

على حين ظل زوجها غارقا في مشاهدة المباراة.. انتهت المباراة بالتعادل دون أهداف فتمّ اللجوء إلى ضربات الجزاء الترجيحية.. فصار بأعصاب مشدودة و قد أخذ كفه بالانقباض والارتخاء بلا شعور منه، وما انفك وجهه يتقلص وينبسط دواليك حتى نفخ من فتحتي أنفه عاصفة اهتزت لها كومات الشعر الملفوفة والمتشابكة كالعش في أنفه الكبير المنفوخ كحبة الكوسا المقوّرة.

في هذه الأثناء، وعلى حين غرة انقطع التيار الكهربي ليحرق الأعصاب حتى التفحم ويُغرق الدنيا في السواد. وامتلأ وجهه كله بالعبوس حتى لم يعد هنالك متسع لذرة عبوس واحدة، فأخذ يصيح بزوجته ويصرخ :

 أمبسوطة يا وجه البوم؟

 لا ذنب لي ! إسرائيل هي التي قطعت التيار الكهربي.. قالت ذلك وهي تشعل شمعة صغيرة.

 إسرائيل قطعت الكهرباء لأن وجهك نحس.. وجهك يقطع الكهرباء والخميرة من الدنيا كلها.

  هي فرصة كي تخرج وتجلب لنا ما نحتاجه.

خرج من البيت منغص المزاج، وقد داهمه الغضب حتى تحول إلى كتلة ملتهبة من السأم والنكد.. وأخذ يقول بصوت لا يسمعه أحد سواه: إنها حقا غبية. هي تعتقد أنني مولع بالمباريات إلى هذا الحد، إلى درجة أن أهمل شؤون البيت، كأنها لا تعلم أنني لا استطيع النظر في وجوه الناس لكثرة ما تراكم علىّ من ديون لهم.. لكن الآن عتمة، وفي العتمة تعمى العيون.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى