الخميس ٢٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨

الجاسوس الصغير

بقلم: شوقية عروق

وضع أذنه على الباب الخشبي المتشقق... يتسلل النور من الشقوق، لكن الهمس لا يتسلل، حاول حشر أذنه في أحد الشقوق لكن لم يستطع.. التصاق أذنه بالباب حول شعيرات أذنه الدموية إلى دروب تتسلق وتتدلى لعلها تجمع الحروف وتنسجها وتحولها إلى عبارة أو حكاية.. أما قناته السمعية فقد تضخمت وكبرت حتى أصبحت قناة يمر فيها سيل العبارات التي تخرج بطيئة سرعان ما تصل إلى أذنه حارة، ساخنة تلهب خياله وترضي والده..

أصبحت أذنه حمراء من كثرة احتكاكها بخشب الباب، لكن الهمس بقي يعانق الشفاه بهدوء يحمي الصدى من التبعثر...
في المساء أخذه والده إلى غرفة بعيدة حتى لا يسمع كلامهما احد...

 مين زار أمك اليوم؟

 خالتي...

 شو سمعت؟

 - ولا شي... كانوا يحكوا بصوت واطي كثير...

أجابه الصغير بخوف وارتعاش واضعاً كفه الصغيرة على أذنه..

 وحياة الله لم أسمع شيئا....

كذاب... كذاب... التصق الصبي بالجدار... لكن والده جره بقسوة.. لقط أذنه وأخذ يفركها بأصابعه الغليظة التي ينبعث منها رائحة الدخان..

 هاي بدي اقطعها إذا ثاني مرة ما بتسمع مليح....

منذ عدة أشهر وأبوه يراقب أمه... طلب منه أن يكون جاسوساً عليها، إلى أين تذهب في غيابه؟ من يأتي لزيارتها؟ ماذا تقول جدته وخالاته وأخواله عندما يزورونهم وماذا تقول لهم أمه؟ وماذا تقول للجارات اللواتي يشربن القهوة معها صباحاً؟ وهل تشتكي من تصرفاته؟؟ عليه أن يسمع جيداً، أن يحفظ كل كلمة وحرف وتنهيده، أن يقول ويشرح بالتفصيل الممل، وعليه أن يعيد الكلمات والعبارات عدة مرات أمام والده وأحياناً عليه أن يمثل الوضع والشكل وتقاسيم الوجوه حتى تكتمل اللوحة الجاسوسية..

 يا ويل إذا نسيت.. رح أنسيك الحليب اللي رضعته !
وأخ إذا التهيت باللعب، لما تشوف حدا جاي اترك كل إشي واسمع بس.. يا ويل.. شرر أحمر، احمر ناري.. حمم تنبعث من عينيه الواسعتين.. خوفه من الشرر سلمه إلى حضن الخضوع الكامل.. وضعة أمام اعتراف لأمه، لكن تردده سحبه إلى تابوت حيث دفن اعترافه بداخله وأغلق عليه قفص صدره الطري.. رأى نفسه الملاك الشرير الذي يقدم رأس أمه على طبق من ذهب لكي يأكلها والده... فلينزل التابوت إلى الأعماق.. لن يعترف لأمه، لن يخذلها في أمومتها...يراقبها ويسمعها ولن ينسى وصية والده..

 الأذن أهم من العين... اللسان يفضح، بالكلام نعرف كل شيء.. وشو بدور حولنا.. وحقيقة الأشخاص اللي منعيش معهم ومدى إخلاصهم لنا... العين بتكذب وبتبين المظاهر المزيفة والابتسامات المنافقة، لكن لابد اللسان يغلط ويحكي... من الصوت بتعرف حقيقة إلي قبالك...

قصة التجسس على والدته لم تطل... لأن والدته هربت.. أصبح لوحده تحت رحمة والده.. قالت له جدته أم والدته وهي تدعو على والده بالموت والحرق والعذاب..
أبوك جنن أمك.. أبوك مجنون بالشك... أمك العفيفة الطاهرة صارت عند أبوك مرة كأنه لمها من الشارع... أبوك رجل ملعون والرجل الشكاك عمره ما بصير مليح.. تزوجها وهي صغيرة، هو أكبر منها بثلاثين سنة.. ومن يوم ما جابتك وهو يقولها أنا مش أبوه للولد، اعترفي مين أبوه... كان بدو أمك تعترف كذب.. أمك شريفة، مسكينة تحملت المر من أجلك لكن صبرها نفذ وهربت وتركتك وتركت البيت..

 لكن ولا مرة شفت أبوي يضرب أمي..

 أبوك شيطان.. إبليس يعجز عن عمايله، أبوك لابس أقنعة، قدامك كان له قناع الأب الحنون، مع الناس قناع الجار والصديق الطيب، ومع أمك كان وجهو الحقيقي.. الوجه البشع، المجرم...

الغريب أن أمه لم تحدثه عن عذابها مع والده.. كانت تلتقي به في بيت جده مرة في الأسبوع... تحضنه تحسس على رأسه.. تعطيه بعض المال... وبعد أن تزوجت من رجل أخر لم يعد يزورها إلا في الأعياد..

بعد هرب أمه ارتاح من مهمة التجسس... لم يعد والده يطلب منه التجسس، لقد انكمش والده وابتعد عن الجميع.. الطعنة التي طعنته إياها أمه كانت عميقة، حادة لقد نفذت إلى رجولته.. لقد سمع أمه تردد " انه مش رجل " والده يردد أمامه وهو ينفث دخان " سجائر العربي " اللف- يلف سجائره بإتقان رجل متمرس –
يلعن أبو النسوان.... هاي أمك هربت وتزوجت.. كنت اعرف من زمان إنها شر....

هدأت قصة أمه لم يعد والده يذكرها ولم يعد هروبها يثير زوابع غضبه، بل استسلم للوحدة.. لكن اكتشف أن زوبعة أخرى تثور في داخله، يريد أن يستمع، أن يلصق إذنه على الجدران والأبواب والشبابيك، على كل مكان مغلق... شهية التصنت تثير خلايا يقظته التي ركنت إلى البرود.. أصبحت الأمكنة تكتسي باللحم والدم والألسنة... إنها تتحدث تمد ألسنتها أمامه تريد أن تتكلم وتبوح بإسرارها.. يريد أن يخترقها ليعرف سر لغتها وصمتها، وأسرار من يتنفس في أجواءها....

أذنه اليمنى تتسع... تصبح مساحة للكلام والثرثرة.. الفضاء الفارغ يمتلئ بأكوام العبارات... يفتش عن عبارة ترتدي أثواب الاهتمام وزينة الانتباه ليقف عندها... أذنه اليسرى عاطلة عن العمل، لا يعرف سبب اندفاع أذنه اليمنى إلى الشفاه وحبال الكلام.. لكن بدون تخطيط يجد أذنه اليمنى ترتخي وتمتد وتسحب جلدها لتكسو الأبواب والجدران.. يجد الراحة بهذا التمدد الذي يوصله إلى عمق التجسس..

في المدرسة كانت تثيره الصفوف المغلقة.. كان يخرج من دروسه بحجج شتى كي يضع أذنه على الأبواب.. في الاستراحة كان يقف قرب غرفة المعلمين حتى يستمع لأحاديثهم المتشعبة.. لاحظ المدير وبعض المعلمين تصرفه الشاذ... أرسلوا لوالده، الذي أبدي استغرابه من تصرف ابنه... لم يجرؤ أمام والده على القول (أنت المعلم الأول) أصبح يخاف من الذين يراقبونه... نامت أذنه واستيقظت عينه.. هناك من يراقبه من قبل المدير والطلاب... حذره دفعه للانزواء... لكن الطلاب أطلقوا عليه لقب) الجاسوس)...هرب من المدرسة حتى يتخلص من اللقب... لكن كانت البلدة قد وصمته..

سمع بعض الجواسيس الكبار عن مهارته في التنصت.. بعثوا إليه من يقنعه بالعمل معهم، رفض.. لكن خطفوه.. ضربوه... ثم هدوده بقطع أذنه فأنصاع لطلبهم... ووجد في داخله ضوءاً من الفرح الخفي... وبدأت غدد رغباته في جمع الكلام تفرز سائلها العسلي...

أصبح يعمل جاسوساً.. ينقل الكلام... يرصد بعض الأشخاص... انتشر عمله وتفوق به مما استدعى الذين يشغلونه إلى منحه عشرات الأوسمة.. وكل وسام جديد يحلق فوق صدره يدفعه إلى شد أذنه وترويضها والطبطبة عليها بحنان كأنها جرو يدربه على القفز داخل إطار مشتعل...

كبر وتزوج وأصبح له أولادا... وعندما كان أولاده يعبثون بأذنه يبعدهم حتى لا يصل عبثهم إلى القناة السمعية التي هي رأس ماله ومصنعه الذي يحرص على بقائه يقظاً.........
لم يخجل من ثرائه.. ومن لقبه بجاسوس، ومن الكاميرات المنصوبة حول بيته بعد أن أصبح هدفاً لتهديدات الذين أضر بهم... أصبح له أعوان يساعدونه في عملية قطف السمع.......

في الفترة الأخيرة شعر أن أذنه اليمنى بدأت تعاني من خلل في السمع... احتار الأطباء بهذا الخلل، البعض قال بسبب العمر، اقترحوا عليه أن يعيش مع هذا الخلل وأن يضع "سماعات بلاستكية" خاصة بفاقدي السمع عندما وضع السماعة البلاستكية على أذنه اليمنى خفق قلبه وبكى حنينه إلى الجدران والأبواب والأماكن المغلقة، لكن اكتشف أن أذنه لم تعد تمتد براحة واسترخاء... ويوما بعد يوم أصبحت أذنه من بطالة في العمل، أما الذين كان يفرغ الكلام في جيوبهم فقد تركوه لوحده يواجه الكاميرات المنصوبة........

بقلم: شوقية عروق

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى