الأربعاء ٣٠ حزيران (يونيو) ٢٠٠٤
اهتم بقضايا العرب والإسلام، وناهض الصهيونية

المؤرخ والعالم الاجتماعي مكسيم رودنسون... نموذج مختلف للإستشراق

بقلم: داود تلحمي ـ فلسطين

رحل، يوم 23/5/2004، في مرسيليا بجنوب فرنسا، العلامة والمستشرق البارز مكسيم رودنسون، عن 89 عاماً، أمضى معظمها في البحث والتنقيب العلمي واسع الأفق، خاصة في ما يتعلق بمنطقتنا ومحيطها وقضايا العرب والإسلام، برؤية اجتماعية – تاريخية يسارية.

ومكسيم رودنسون، الذي كان يقرأ اللغة العربية ولهجاتها القديمة بسهولة، كان يتملك أيضاً زهاء ثلاثين لغة أخرى، من اللغات الحية والميتة، بما في ذلك لغات جنوب الجزيرة العربية القديمة (سبأ وحِميَر) ولغات القرن الإفريقي، بما في ذلك لغات اثيوبيا القديمة، التي كانت اختصاصه الأول كأستاذ في كلية الدراسات العليا في باريس... وحتى اللغة المالطية، التي لا يتجاوز أهلها اليوم الأربعمئة ألف نسمة، والتي كان يشير فيها رودنسون الى كثرة الكلمات ذات الجذور العربية. كما كان رودنسون يجيد، بالطبع، عدداً من اللغات الاوروبية الحية. وهو بذلك كان موسوعي الاطلاع والمعرفة، ومن الحالات القليلة بين المستشرقين الغربيين الذين لم تكن تلوثهم الخلفيات الاستعمارية لعلم الاستشراق.

وقد أنصفه العلاّمة الفلسطيني الراحل ادوارد سعيد في كتابه الشهير "الاستشراق" على هذا الصعيد.

ذلك أن مكسيم رودنسون كان ماركسي التكوين الفكري والثقافي منذ شبابه المبكر. فهو ولد في باريس في العام 1915 لوالد من أصول روسية هاجر الى فرنسا، وقضى هو وزوجته، والدة مكسيم، ابان الحرب العالمية الثانية، في معسكرات النازية، لكونهما في آن واحد شيوعيين ومن أصول يهودية. فقد انتمى رودنسون الشاب عام 1937 الى الحزب الشيوعي الفرنسي، وبقي عضواً فيه زهاء العشرين عاماً، حيث انقطعت علاقته بالحزب إثر تدخل القوات السوفييتية في المجر في أواخر العام 1956 لضرب حركة التمرد القومي هناك.

وكان الحزب الشيوعي الفرنسي، آنذاك، في أوج نفوذه بعد أن خرج من الحرب العالمية الثانية مكللاً بغار الدور البارز في مقاومة الاحتلال النازي لفرنسا، بحيث استحوذ الحزب في الانتخابات اللاحقة على تحرير فرنسا عام 1944 على ما بين 25 و30 بالمئة من الأصوات في الانتخابات التمثيلية والتشريعية. وحتى عندما عاد الجنرال شارل ديغول مرة ثانية الى سدة الحكم في العام 1958، بقي الحزب الشيوعي الفرنسي "الحزب الأول في فرنسا" من حيث حجم ناخبيه، الى أن بدأ تراجع نفوذه بشكل بطيء في أواخر الستينات، وبشكل أسرع في السبعينات (عندما أعاد فرنسوا ميتيران بناء التيار الإشتراكي الديمقراطي، الذي لم يحقق في الإنتخابات الرئاسية في العام 1969 أكثر من 5% من الأصوات مقابل أكثر من 20% لمرشح الحزب الشيوعي، وأسس – أي ميتيران- الحزب الاشتراكي في العام 1971). وفي حين كان الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديغول يقول أن بين أنصاره والحزب الشيوعي ليس هناك إلا الفراغ، تمكن ميتيران، المنافس الأبرز لديغول في الانتخابات الرئاسية التي جرت في العام 1965، من تغيير هذا الواقع، فأصبح رئيساً لفرنسا بعد أيار/مايو 1981، وأدخل الشيوعيين في حكومته الأولى بعد انتخابه. وكانت هذه المشاركة مدخلاً لمزيد من إضعاف الحزب الشيوعي، الذي شارك في تحمل المسؤولية عن سياسات ميتيران وحكومته في العامين اللذين قضاهما في هذه الحكومة، فتراجع نفوذ الحزب الشيوعي بشكل متزايد مع تنامي نسبة البطالة في عهد ميتيران ومع صعود اليمين المتطرف، الذي استغل تفاقم المشكلات الاقتصادية الاجتماعية في الطبقات الأضعف من المجتمع.

"الماركسي المستقل"

وهكذا غادر رودنسون الحزب الشيوعي حين كان الحزب في أوج نفوذه، فتعرض، كما وغيره من المثقفين الذين غادروا الحزب في تلك الفترة، لحملة عنيفة ضده استمرت سنوات. ثم عادت الأمور، بعد ذلك، الى علاقة أهدأ، وسعت قيادة الحزب في أواخر الستينات الى إعادة العلاقة مع رودنسون من خلال إشراكه في عدد من الفعاليات والهيئات الثقافية القريبة من الحزب.

لكن مسألة استعادة العضوية في الحزب لم تعد مطروحة لدى رودنسون، الذي انكبّ على العمل البحثي والدراسي، معتبراً نفسه – على حد تعبيره- "ماركسياً مستقلاً". وبالفعل، انطبعت كافة أعمال رودنسون الفكرية وممارساته السياسية في الإطار الفكري والمبدئي بهذه السمة. حيث بقي وفياً لأفكار ماركس الجوهرية ونهجه التحليلي، كما بقي صاحب مواقف مستقلة يحددها ضميره وقناعاته النابعة من هذا الفكر ومن رؤيته للعالم وقضاياه الرئيسية.

وبما أنه من أصول دينية يهودية ويعمل في مجال الاستشراق، فقد اهتم مبكراً بقضايا منطقتنا، وخاصة الصراع العربي – الاسرائيلي. وكان يروي أن والديه اليساريين كانا مناهضين للحركة الصهيونية، التي كانت تلقى معارضة واسعة في أوساط اليهود في اوروبا الغربية في الثلث الأول من القرن العشرين، لأسباب متعددة، منها الانتماءات اليسارية والانسانوية بالنسبة للبعض، والرغبة في تدعيم الاندماج في مجتمعات الغرب الأوروبي وعدم الظهور كأصحاب مشروع خارجي بالنسبة للبعض الآخر، أو الخلفيات الدينية التي كانت ترى في المشروع السياسي الصهيوني تعارضاً مع المفاهيم الدينية التقليدية (وهو الموقف الذي ما زالت تعبّر عنه تيارات يهودية دينية مثل جماعة ناطوري كارتا، التي ترفض، حتى الآن، الاعتراف بوجود ومشروعية دولة إسرائيل، حتى بالنسبة لأعضائها المقيمين في القدس الغربية).

وبقي التيار السياسي الصهيوني أقلية في أوساط اليهود في اوروبا الغربية حتى وصول أدولف هتلر الى السلطة في ألمانيا في العام 1933 وحملات التمييز والإضطهاد التي مارسها بحقهم بعد ذلك، وخاصة خلال الحرب العالمية الثانية (1939-1945). ومن هذه الزاوية، اعتبر رودنسون أن مشروع هتلر العنصري تجاه اليهود في ألمانيا، وأوروبا التي احتلها، صبّ لصالح تدعيم نفوذ الحركة الصهيونية السياسي في أوساط اليهود الاوروبيين.

وهكذا كان رودنسون، ذو الأصول الروسية العمالية (والده كان عاملاً في مشاغل الخياطة)، ماركسياً أولاً، ومواطناً فرنسياً يحمل أفكاراً أممية وإنسانية ثانياً. ورغم تركيزه على العمل البحثي الفكري، لم يكن ليبقى بمنأى عن تحديد المواقف تجاه قضايا العصر الحارة، من حرب التحرير الجزائرية، التي ناصرها، الى الصراع العربي – الاسرائيلي الذي اتخذ منه موقفاً مبدئياً مناهضاً للصهيونية وداعماً لحقوق الشعب الفلسطيني الوطنية، مع حرص شديد على استقلاليته الفكرية الشخصية، من جهة، أي تفادي الظهور بمظهر "العميل للعرب" في مواجهته الفكرية للصهيونية، وعلى أممية وإنسانية الحل المنشود للصراع الفلسطيني والعربي الاسرائيلي.

وعندما شارك رودنسون في أيار/مايو 1966 في ندوة سياسية نظمها الاتحاد العام لطلبة فلسطين في إحدى قاعات العاصمة الفرنسية باريس في ذكرى "النكبة"، مؤكداً على مواقفه المناصرة للحل العادل للمسألة الفلسطينية والمناهضة للصهيونية، تعرّض، هو وآخرون شاركوا في هذه الندوة، التي غطت وقائعها بعض الصحف الفرنسية، لحملة صحافية وإعلامية شرسة من قبل الأوساط الصهيونية وأنصارها، التي وصفته في ما وصفته من تعابير مقذعة بـ "اليهودي الكاره لنفسه".

وكان المناخ السائد في فرنسا، آنذاك، مناخاً مناصراً لاسرائيل في معظم الأوساط والتيارات السياسية ووسائل الإعلام، باستثناء الشيوعيين والماركسيين وقلة من المهتمين بالشأن العربي من المثقفين أو الدبلوماسيين السابقين الذين نشأوا أو عملوا في المنطقة العربية. لكن رودنسون، الذي أزعجته هذه الحملة على الصعيد الشخصي، لم تتأثر مواقفه بها. بل عاد وكررها في مناسبات عدة، وخاصة بعد حرب العام 1967.

وكان الأديب والفيلسوف الفرنسي الشهير عالمياً، جان بول سارتر، قد عكف، منذ العام 1965، على التحضير لعدد خاص من مجلته الدورية الفكرية الثقافية "الأزمنة الحديثة" يتناول الصراع العربي – الاسرائيلي.

وكان موقف سارتر من هذا الصراع ملتبساً وتشوبه اعتبارات عاطفية، كما قال هو نفسه في مقابلة معه نُشرت في أحد الأعداد الأولى من مجلة "شؤون فلسطينية" الصادرة منذ مطلع السبعينات الماضية عن مركز الأبحاث الفلسطيني في بيروت. وقد شاء سارتر أن يعطي الكلمة في العدد الخاص من مجلته لكلا الطرفين، الاسرائيلي والعربي. وتأخر مشروع هذا العدد الخاص لفترة، خاصة بسبب الخشية الفلسطينية من طغيان الرأي الصهيوني، حيث كان مدير تحرير المجلة، جاك لانزمان، من الفرنسيين القريبين من الحركة الصهيونية واسرائيل، الى أن انتهى العدد الخاص بالصدور في أواسط العام 1967، ولقي رواجاً بسبب الحرب التي أعادت تذكير العالم الخارجي، على نطاق واسع، بسخونة الصراع العربي - الإسرائيلي.

وكان مكسيم رودنسون المشارك الوحيد في هذا العدد من غير العرب والإسرائيليين والصهاينة، بمقال طويل حمل عنوان "اسرائيل: واقع استعماري؟"، وهو مقال صدر لاحقاً ككتاب مستقل وترجم الى عدة لغات، بما فيها العربية. وكانت إجابة رودنسون في مقاله على علامة الاستفهام في العنوان لا تحتمل اللبس، حيث أكد كون إسرائيل واقعاً استعمارياً، مع التأكيد في الوقت ذاته على أن أي حل للصراع لا يمكن أن يقوم على أساس علاج مشكلة سياسية وانسانية وبشرية بخلق مشكلة جديدة، في وضع تعيش مثله بلدان أخرى في العالم الثالث كانت تضم كتلاً بشرية ناجمة عن الغزو الاستعماري، مثل جنوب افريقيا.

ومع الموقف القوي المنتقد لإسرائيل الذي اتخذه الرئيس الفرنسي شارل ديغول إزاء مبادرة الدولة العبرية لشن الحرب على الدول العربية في حزيران/يونيو 1967، ومع صعود المقاومة الفلسطينية واحتلالها لمساحة متزايدة من الاهتمام السياسي والاعلامي العالمي، خاصة بعد معركة الكرامة في آذار/مارس 1968، ثم سيطرة القوى الفدائية على منظمة التحرير الفلسطينية في العام اللاحق، تغيّر المناخ الى حد كبير في فرنسا، كما في العديد من دول أوروبا والعالم، وبشكل مضطرد... وبات اسم فلسطين معروفاً بعد أن كان مجهولاً الى حد كبير من الجمهور الواسع في بلدان العالم قبل هذه الحرب.

وهذا ما جعل موقف مكسيم رودنسون أقل صعوبة على المستوى الشخصي، وجعل كتاباته في الشأن العربي – الاسرائيلي أكثر رواجاً في فرنسا والعالم الغربي عموماً. وشارك رودنسون، مع عدد من المستشرقين الآخرين، مثل جاك بيرك، وعدد من المهتمين بالشأن العربي، خاصة من أنصار النضال التحرري لشعب الجزائر، شارك في تأسيس "جماعة البحث والعمل من أجل فلسطين" التي كانت تعقد ندوات وتصدر نشرات توضيحية حول الوضع الفلسطيني والصراع في منطقتنا في السنوات الأولى التي تلت حرب 1967.

وفي وقت لاحق، وخاصة بعد الثورة الإيرانية في العام 1979، أصدر رودنسون كتباً ومقالات عديدة عن الاسلام والحركات الاسلامية ونظرة البلدان الغربية له ولها.

وفي تراثه التأليفي الواسع منذ مطلع ستينات القرن الماضي، يمكن الإشارة الى كتابه الذي ترجم الى العديد من لغات العالم عن النبي العربي "محمد"، الذي صدر عام 1961...ثم في أواخر الستينات، كتاب "الاسلام والرأسمالية" وكتاب " إسرائيل والرفض العربي: 75 عاماً من التاريخ"، ثم كتاب "الماركسية والعالم الاسلامي" في العام 1972، وكتاب "العرب" في إحدى موسوعات دور النشر الفرنسية في العام 1979... وبعد الثورة الايرانية كتاب "جاذبية الاسلام" عام 1980 وكتاب "شعب يهودي أم مسألة يهودية؟" في العام 1981، و"الاسلام: سياسة وعقيدة" عام 1993، و"من بيثاغوروس الى لينين" في العام ذاته، وكتب ومقالات عديدة أخرى أصدرها أو كانت نتاج حوار طويل معه، ككتاب "بين الاسلام والغرب" عام 1998.

وإثر وفاته، كتب عنه المثقف والمناضل الجزائري، محمد حربي، القيادي السابق في جبهة التحرير الوطني الجزائرية، في صحيفة "لوموند" الفرنسية يقول: "لقد مات مكسيم رودنسون، ولكن ليست أعماله. وهذه الأعمال، الغنية والمنفتحة، والراهنة والدائمة في آن واحد، لن تبقى رهينة غبار المكتبات والنقد القارض للفئران... وهي تبقى إسهاماً مهماً يغني الحركة التقدمية العربية".

ومهما كان رأينا في أفكار وتحليلات رودنسون، ويمكن الاتفاق معها أو مع معظمها والاختلاف مع بعضها، وهذا من طبيعة الأمور، فإن ما لا يمكن إنكاره أن هذا الرجل، الذي نشأ في بيئة يسارية ويهودية الأصل الديني ولكن معارضة للصهيونية في آن واحد، شكّل علامة مهمة في مسار الدراسات الاجتماعية – التاريخية والسياسية العالمية الجادة عن العالم العربي والاسلامي، دون أن تلوثه نزعات الاستعلاء وخدمة المشاريع الاستعمارية، التي ميّزت العديد من الكتابات الاستشراقية، كما أبرز مثقفنا اللامع الراحل إدوارد سعيد في كتاباته الشهيرة... وخاصة "الاستشراق" و"الثقافة والامبريالية".

بقلم: داود تلحمي ـ فلسطين

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى