الأربعاء ٦ شباط (فبراير) ٢٠٠٨
بقلم مجدي علي السماك

علبة حليب

اشتدت غزارة المطر، فأخذت السماء تنقر زجاج السيارة نقرات متواصلة وسريعة، محدثة صوت خشخشة أشبه بصوت قضم الخبز المقرمش.. المسّاحات تجاهد كي تتيح لعيوننا الرؤية عبر الزجاج المبلول، وبخار صدورنا المبثوث عبر أنوفنا وأفواهنا يتكاثف على زجاج النوافذ كالغبار، ليحاصر نظراتنا، وهيهات لها من النفاذ إلى الأفق في هذا الضباب الثقيل المنثور.

كنت اجلس خلف السائق، امسح بكفي البخار وأترك نظراتي تتسلل وتلهوا بين حبات المطر القريبة، تلاحقها أفكاري الصغيرة الهاربة بين زحام الأسئلة.. أسندت ظهري، ونظرت إلى امرأة في ريعان الصبا، كانت تجلس بجوار السائق، وفي حجرها كافولة من قماش أبيض ناصع، لا يعكر صفوبياضه سوى بقعة واحدة صفراء، قد تكون مخاطا سقط سهوا إثر عطسة قوية ومباغتة.

داخل الكافولة نتفة لحم حية وبضة، بلغت شهرها الثالث، لها رأس أملس وصغير بحجم برتقالة، وقد نبت به زغب ناعم، بالكاد خرج من فروته الطرية، وفم ضيق لا يتسع لحبة عنب، فقد رأيته مفتوحا على آخره حين وأوأ : وأ.. وأ.. وأ... لقد وأوأ بإصرار وعناد، كأنه قصد الإزعاج.. شعرت أنه يعاندني ويناكفني.

 اسكتي هذا الرضيع!

 إنه جائع! لا أستطيع إسكاته.

تظاهرت أنني انظر إلى الرضيع، ولكنني من تحت إلى تحت كنت انظر إلى صدرها، ظننت للوهلة الأولى أن ثديها صغير بحجم صفار بيضة مسلوقة، لأن جسدها نحيل كجسد شخص مسلول، ومعصمها رفيع كالخيارة، رغم أن ملابسها الداكنة واسعة وفضفاضة، إلا أن نظراتي ثاقبة مثل أشعة الليزر، فعرفت أن ثديها كبير بحجم حبة جوافة كبيرة.. إذن لماذا لا ترضعه؟ أتخشى على نهدها من الترهل! يا بنت الكلب!..

 إذن ارضعيه ليسكت طالما إنه جائع!

التفتت إليّ لفتة طويلة، فرأيت في بياض عينيها رجاء مدفونا، وفي سوادهما سؤال مكبوت، ربما أنني رأيت ما هوأكثر من رجاء وأكبر من سؤال.. لكنه سؤال موصول بالحياة، ورجاء مشمول بالأمل.. امتقع وجهها وانتفضت عضلات حول فكيها، وارتعشت شفتاها.. جاهدت طويلا وهي تحاول كبت الدموع ومنعها، لكن قوة داخلية ضغطت الدموع دافعة إياها إلى الخارج.. فصارت عيناها تنّزان رغما عنها وتذرفان دموعا محرومة ومشتعلة بالألم، ومحروقة بالقهر.

أخذت تناضل وتناضل محاولة أن تخرج الكلام من فمها، حتى برزت شرايين رقبتها، كأن حنجرتها مقيدة بأسلاك شائكة، فبدت كأنها تعتصر حنجرتها، ليقطر الكلام في فمها وينزلق منكسرا على طرف لسانها، وهي تكتم غصة في حلقها وتبلع ريقها المرّ كالعلقم.

 لا يوجد حليب في صدري.. لقد نضب.

 اشتر له حليبا صناعيا.

 من يومين وأنا ابحث، ولم أجد ولوعلبة حليب واحدة في كافة أرجاء قطاع غزة.. ورضيعي جائع من ساعات طويلة.. من ساعات طويلة وأنا احتال عليه بالماء.

خيم صمت، شبيه بصمت متواطئ، رغم أنه صمت مقهور.. ها هي ذي تنظر إلى وجهي وكأنها تستمد مني الأمل والمواساة، أوتبحث فيه عن بصيص حياة وخيط نجاة.. فحياة رضيعها قد توقفها علبة حليب، أوتبعثها من جديد.. في عينيها لمعت مأساة، وانطفأت حياة.

صحيح أن مشاعري اضطربت جوانبها، وأن قلبي ازداد خفقانه.. إلا أنني لم اعدم الوسيلة.. فوجدتني كمن وجد فكرة تائهة.

 أرسلي به إلى أي امرأة مرضعة.

 لا يوجد.. لقد نضبت صدورهن.. كلنا في الهم سواء.

أطبقت فمي، وأطلقت العنان لعقلي.. يا الهي! ألهذا الحد وصل بنا الحصار؟! ولكن ما ذنب الأطفال الرضع؟ سيول من الأسئلة تتلاحق.. وجدتني ابحث عن الإجابة في صرخات الرضيع المتواصلة بإلحاح، نعم. ذنبه أنه موجود ويصرخ!

طلبت من السائق أن يتوقف، واستأذنت منه النزول أمام مجمع تجاري كبير، علني أجد علبة حليب.. رجعت مبللا بماء المطر بلا حليب ولا بطيخ ولا ما يحزنون.

لم تتوقف أي خلية من خلايا مخّي ولودقيقة واحدة عن التفكير.. لا بد من البحث عن أنثى حيوان له حليب قريب من حليب الأم الآدمية.. لقد وجدتها.. والله وجدتها.. اقسم برب الكعبة أني وجدتها.. إنه حليب الأتان..

 ارضعيه.. ارضعيه يا أختي حليب أتان.. لا تستغربي.. إنه مثل حليب الأم!

 أليس الأتان في حصار مثلنا، وينقصها صنوف الطعام من تبن وشعير؟

 إذن فلنكسر الحصار بأي وسيلة.. سنحطمه بأرواحنا.. فأجمل أنواع الحياة هي تلك التي نموت من أجلها.

ترجلت من السيارة عندما وصلت قرب بيتي. وقفت، ترددت، غمغمت، همست، ورحت ابحث بين الأزقة عند البقالين عن علبة حليب.. أوحليب أتان، وأخذت أحفظ عن ظهر قلب عنوان بيتها وكأنه شعار كبير رنان.

وجدت علبة حليب في دكان قديم، اشتريت الحليب وعدت، رجعت اضحك.. وتوجهت فرحا إلى عنوان المرأة.. فوجدت الرضيع قد لفظ أنفاسه الأخيرة.. فأمسكت عن الضحك.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى