الاثنين ١١ شباط (فبراير) ٢٠٠٨
بقلم ناصر الريماوي

لـــم أكــن وحــدي

الغرفة الموقوته تثير حفيظتي إلى حد الفزع، الجدران المطلية بالشيد، تظهر بدون مقدمات تمهد لوجودها، النافذة الوحيدة تشق نفسها على صفحة الجدار المقابل،تكرر ذاتها في كل مرة، ثم تصدح بصرير مقيت قبل أن تشرع للريح ظرفتيها المسكونتين بوهج الصبح، اللوحة الزيتية ذات الإطار البالي تفتح جفنيها بتثاقل مريب وهي تأخذ مكانها على الحائط المقابل للنافذة، لتكشف عن مشهد جديد للطبيعة الصامتة بحر، ورمل، وغابة مثقلة بحفيف أوراق الشجر.

هذيان مصحوب بأصوات قريبة تشبه هديل الحمام، يتسلل من خلال فتحة مستطيلة محبوكة ترسم خيطاً من ضوء خافت أسفل باب الغرفة الموصد، ودوماً أكون آخر المستيقظين على قائمة الحضور كعادة دارجة صار من غير المفيد حالياً التطرق لتعديلها، أدعو بقية حواسي للإستنفار الصباحي برشقات متتالية من ماء الخزان على وجهي، ثم أغادر وفي نيتي عدم الرجوع مرة أخرى لهذا الهذيان.

الشارع الإسفلتي يمتد في ظهور تدريجي لم يسبق له مثيل ثم ينعطف خلف المنازل عند زاوية الشارع العام ثم يتوقف عند حدوده، كذلك الأشجار على الجانبين، تنهض فجأةً، تنتصب في نسق متتالي، الباعة في تجوالهم الصباحي يظهرون أولاً ثم عرباتهم وكأن ستارة شفافة تنزاح جانبياً لتكشف عن وجودهم أمامي، لست معتاداً على هذيان الامكنة، لكنني بلا شك أحلم ... فأنا لم أستيقظ بعد، أو ربما أستيقظتُ على غير عادتي مبكراً قبل هذه الأماكن وهي الآن بدورها تنهض على عجل تريد أن تلحق بضوء النهار لتمارس دورها الأزلي في خدمة الآخرين.

تعمدتُ المرور بجانب الكشك الذي يحتفي بموقع ثابت عند الناصية، بعد إنبثاقه ككتلةً واحدة من فوق الرصيف عندما إجتزتُ مكانه المفترض، كان صاحب الكشك يدير ظهره للمارة وهو ينشر صحفه اليومية على حبل مجاور أمام الطريق، ألقيت عليه تحية الصباح للمرة الأولى في حياتي، فرد بأحسن منها ليزيد من دهشتي!!

عند موقف الباص على الطريق العام ساورني شعور غريب سرعان ما تحول إلى شك أخذ ينهش ما تبقى من خلايا عقلي المستيقظة، بأني لست في حالة نفسية جيدة تمكنني من الإلتحاق بعملي لهذا اليوم، وأنه من الأفضل العودة للسرير وطلب إجازة طارئة عن طريق الهاتف، أخذتُ أراوح في مكاني بين الإنصياع لهذا الحل او العدول ثم ركوب أول حافلة لمكان العمل وليكن ما يكون.

لم اعد أكترث لهذا الطارىء، وفي شيء من الإعتياد أخذت اتوقع حدوث هذا الظهور التدريجي المتعاقب للأشياء مع كل خطوة أخطوها، فالحافلة كانت تنهب الطريق بلا سائق، وبنصف العدد المعهود للركاب لكنني لم أستهجن الأمر واكتفيت بإطلاق العنان لبصري عبر النافذة في إستعراض إستثنائي لمشهد المدينة على جانب الطريق وهي تقذف بالمحال التجارية إلى حيز الوجود واحداً تلو الآخر، حتى ظهر السائق أخيراً برأسهِ المعهود وهويترنح خلف مقود الحافلة.

ترجلتُ من الحافلة، فالتقطني الرصيف على إمتداده، ثم تجاوزني مكملاً سيره في عجله ملفته ليتلقف بقية العابرين عليه، أكملتُ المسافة المتبقية لمبنى الشركة سيراً على الأقدام، حتى وصلتُ إلى موقعها المفترض بين هذين البرجين اللذين تجاوزا حدود البصر في صعود تدريجي من أسفل إلى أعلى في غرائبية تستحق الدهشة، لكنني أدرت ظهري، وتكومتُ فوق المقعد المخصص للمارة بإنتظار ظهور المبنى الذي يقبع بينهما بطوابقه القليلة.

مكثتُ أنتظر حتى تجاوز الامر حدوده المعقولة وحين تعذر ظهور المبنى، نظرتُ ورائي، فوقع بصري على شيء مختلف تماماً جدير بدهشة من نوع الثقيل، في خضم هذا الهذيان، لقد كان العديد من موظفي الشركة ومن بينهم بعض زملائي المقربين، يقفون أمام المكان المفترض للمبنى في حلقات عديدة تضيق بهم ثم تتسع وفقاً لجغرافية النقاش المحتدم، حتى تطاير الشرر.

توقفت سيارة فارهة وبشكل مفاجىء على مقربةٍ منّا، ترجل منها شخصان توجها بسرعة نحو حشد الموظفين، عرفت احدهما على الفور، تخامد نوعي للشرر أمام هيبة الشخصين ثم الإندماج في حلقة واسعة حولهما، لم يكن مبرراً وقوفي بعيداً فأعلنت إنضمامي بصمت وفي نيتي عدم البوح بما صادفني هذا الصباح حتى لا أتهم بالهذيان وخاصةً أمام هيبة الرجل المتنفذ في سلّم الهرم الوظيفي للشركة الذي بادر بالقول لمن حوله في حنق واضح:

  لسنا وحدنا في هذه المدينة... هناك آخرون، نعم هناك آخرون وهناك خسائر لا تقدر بثمن... لكن من تراه سيتحمل مسؤولية النتائج المترتبة على هذه التجربة؟؟ البلدية أم هيئة الطرق؟ لم يصغ أحد لما قلناه!!! لم يصغِ أحد...

يا إلهي... لم أكن اهذي، لقد كان هناك شيئاً ما يحدث في هذه المدينة والكل يعلم ... إلاّ انا، تملكني شغف مصحوب برغبة عارمة بالمعرفة، ثم الوقوف على سر هذه التجربة التي تحدّث عنها صاحب الفخامة... لكنني تراجعت في اللحظة الاخيرة، خوفاً أن اتهم بالامبالاة وقلة الوعي وضحالة الثقافة العامة، خصوصاً... امام هيبته.

إستطرد موجها حديثه للجميع في إستنكار شديد ثم التفت إلي فعبّرتُ له عن عميق إصغائي بهزة من رأسي، فوجه سؤاله لي مباشرة:

  لماذا لا نتعظ من نتائج التجارب السابقة للمدن المتحضرة؟؟
  نعم لا بد لنا أن نتعظ ...
  تعلم كما يعلم الجميع النتائج التي ترتبت على تجربة الإستنساخ الخارقة للمدن الحديثة ومن بينها مدينتنا هذه، كيف تقيِّم تلك التجربة؟؟
شعرت بالحرج الشديد أمام الجميع، وهو ينتظر مني إجابة على سؤاله المفاجىء، فأجبتُ على الفور قبل أن يتحول هذا الحرج إلى إرتباك غير محمود العواقب أمامه:

  كانت تستحق التقدير ... لقد كانت ناجحة
  ناجحة!؟ كيف تعتبرها ناجحة ، بالله عليكم كيف يمكن أن نعتبرها ناجحه؟؟

تحول في موجة من الغضب أخرجته عن وقاره المعتاد وهو يردد تلك الكلمات أمام الجميع، زاد هذا من حرجي فلم أكن مُلماً بتلك النتائج ولا مطلعاً على تلك التجربة، لكنني أحسست بأني لا أزال متماسكاً وغير مرتبك فبادرتُ معقباً على الفور لأتخلص من هذا المأزق وبصوت مرتفع يوحي بالحزم والثقة:

  نعم لقد كانت ناجحة إذا ما قورنت نتائجها بنتائج هذه التجربة، هذه التجربة كارثة...إنها كارثة يا سادة، بكل ما تحمل من معنى.

غمرني شعور بالإرتياح عندما أعلنَ عن تأييده لما قلته، لا بل تجاوز ذلك إلى تكليفي بترأس مسيرة الإحتجاج التي أخذ يحرض لها ويعول عليها في قلب النتائج رأساً على عقب، ثم مشى مخترقاً حشد الموظفين حتى توقف في قلب الفراغ الذي شغله غياب المبنى عن المكان وقال وهو يتخلى عن ملامح الوقار والقسوة المعتادة:

  غياب هذه الشركة لن يمنعني من الإستمرار في دفع الرواتب المستحقة، وللجميع …

هتف الجميع مؤيدين لهذه المسيرة وسط إستهجان غير معلن لذلك التصريح الذي لم يكن متوقعاً، لوّّح للحشد بحركة تشجيع من يده قبل ان يصفق باب سيارته الفارهة خلفَهْ مغادراً بصحبة مرافقه، إلى جهة غير معلومة.

حشود متفرقة قليلة العدد على الطريق المؤدية لميدان المدينة حيث المجلس البلدي المنتخب، أخذت تصب في عفوية مطلقة لترفد شريان هذه المسيرة بكميات ٍ اكبر من الدم الراعف، المتحفز لمواجهة محتمله مع المجهول، متنفذ آخر على الطريق العام يتكىء على فراغ المكان المفترض متخلياً عن لياقته المعتادة في الحديث لمن هم في مثل منصبه، وهو يطلق وعوداً بزيادة مجزية للرواتب عند إنجلاء هذه النتائج التي أدت إلى عدم ظهور مبناه المكون من ثلاث شركات ضخمة وسوق شعبي للعامة، أصدر أوامره غير الملزمة بالإنضمام لمسيرتنا الحاشدة التي مرت على مقربة منه وهو يهتف: لن نظل مكتوفي الايدي حتى نفاجأ غداً بتجربة صناعية للمطر ....تأكل الأخضر واليابس ...، ثم آخر تجاوز حد المعقول حين أغلظ بوعده في صرف مكافآت سنوية وبشكل دوري، كان يشير لما تبقى من برجه الضخم في شيء من الحسرة: لم يبقَ سوى هذين.... الجمعية الخيرية، وقسم الدعاية المخصص لترويج منتجات الشركة وكليهما مؤسسات غير منتجة ... وغير ربحية، لوّح بيده هو الآخر مشجعاً قبل أن يغوص تماماً في مقعده الخلفي من سيارته الفاخرة ليختفي...وإلى الأبد.

كنت أشعر بالزهو لهذه المسيرة الحاشدة التي تتحرك ببطء نحو ميدان المدينة، هتفتُ بمعظم الشعارات التي احفظها، ردد الجميع من ورائي بلا تردد حتى وصلنا إلى ساحة الميدان التي تحولت في هذا الصباح إلى منبر إحتجاج عفوي، توقف الزحف أمام بوابة المجلس البلدي المنتخب، لم يكن هناك احد بإنتظارنا، توقعت ظهوراً مفاجئاً لبعض الأعضاء للنظر في مطالبنا لكن ذلك لم يحدث، تبادلنا نظرات حائرة فيما بيننا أنا وبعض القريبين من مكاني في مقدمة هذا الحشد الكبير لتحديد الخطوة التالية لكننا عجزنا وفضلنا الإنتظار، حتى كان الظهور الأخير الذي أفزع بعض الحضور، عندما إنشقت المساحة الفاصلة بين الحشد والمجلس البلدي لتقذف وبشكل مفاجىء أرتال من رجال الأمن وحفظ النظام، مدججين بهراوات ثقيلة تترنح في الهواء منذرة بمواجهة شرسة من طرف واحد، تقدم ضابط برفقة مساعد له مني حتى صار بمواجهتي تماما، لكزَ صدري برأس الهرواة وقال :

هل أنت مناهض لهذه الحملة؟؟.... لم أفهم عن أي حملة يتحدث لكني حاولت التماسك والتظاهر بالشجاعة امام الحشد

  أنا ضد التجربة ونتائجها المخيبة
  تجربة! ... عن ماذا تتحدث؟؟
  تجربة الإستنساخ للمدن الكبيرة... والمطر الصناعي...

لم يستطع الضابط كبح جماح إبتسامة تحولت سريعاً إلى ضحكة شقت طريقها من بين ركام ملامحه الجادة بتلقائية لما قلته، لكنه سرعان ما تغلب على هذا الإنفلات العفوي لقسماته ليزيد من صرامة ملامحه في مواجهتي

  أي إستنساخ وأي مطر!؟ هل تسخر منا؟
  لست وحدي من يقول... يمكنك أن تسال الجميع
  أسال من؟؟

نظرت من حولي، كنت وحيداً في ساحة الميدان، أين ذهب الجميع؟ هل تفرقوا بهذه السرعة؟ ام ان الارض التي إنشقت عن هؤلاء منذ لحظات... قد إبتلعتهم؟

  إما انك تسخر منّا أو انك بارع في التمويه... وفي الحالتين...

نظر لمن حوله ثم أشار إلي وهو يكمل بلهجة آمرة: قيــــــِّدوه

بعد لحظات كنت مقيداًً أجلس في المقعد الخلفي بين إثنين من الشرطة في سيارة محاطة بقفص معدني، بينما أخذ المذياع الذي يبث برامجه من الإذاعه المحلية للمدينة يصدح بأغنية معروفة،لم يلبث ان توقف عن بثها ليذيع بياناً عاجلاً: ((لقد تم صباح هذا اليوم إطلاق حملة إعادة البناء لهذه المدينة تحت شعار نحو مدينة أجمل...)) لم انتظر لأسمع تتمة البيان لكني أخذت انظر لأحد الرجلين في توسل وانا ارجوه قائلاً: لم اكن وحدي... صدقني لم اكن وحدي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى