الاثنين ١١ شباط (فبراير) ٢٠٠٨

المتـــــواري

ضياء قصبجـي

حين دخلت هذا المكان أخذتني الدهشة .. هو لا يشبه بيوت البشر ..فلا مقاعد ومناضد ولا أسرّة ، بل صخور سوداء كبيرة كلّ واحدة لها فتحة معتمة .. عبرت من فوهــة تشبه حفـرة مستديرة إلى صخرة كبيرة لا يتسرَّب إليها غير ضوء شحيح يضيء تلك التماثيل الملحيّة التي تتدلّى من سقف هذه المغارة الهائلة ، سرت طويلاً في العتمة محنيّة رأسي ، حتّى أودى بي المسير إلى مكان فسيح ومُضـاء بنور كأنَّـه هابط من السماء .
هناك رأيت غابةً من القواقع الجميلة ، والتماثيل الصغيرة ، وشلالات تهبط ذراتها من صخرة أعلى إلى صخرة أدنى ، وفي أثناء مسيري رأيت بُرَكاً من المياه التي تتلوَّن كلّ لحظة بلون .. و عرائش من أضواء صغـيرة تضيء وتنطفئ .. وشجيرات صغيرة أوراقها رقائق من الذهب .
صمتٌ رهيبٌ يحضن المكان ، لا أزيز ريح أو هطول مطر ، و لا حفيف شجر ..أو حيوان يــموء ، وضفدع ينقّ .. لا صوت ، لا إنسان لا شيء .
كانت الأرض مفروشة بحصى يلمع كحبّات الماس واللؤلؤ والمرجان ..من بينها ممرّ يدلّ على طريـق لأناس سبقوني إليه، سرت فيه ، وفي كلِّ خطوة تزداد دهشتي ، من رؤى مناظر لم أرَ لها مثيلاً من قبل .
عن يميني كانت طبقات من الكتب المجلَّدة بجلدٍ أنيق قاتم اللون ، واسم مؤلِّف الكتاب يشعُّ بلّون أصفر .. عن يساري صور هؤلاء الكتّاب الذين تركوا تأثيرهم وأسماءهم إلى قرون بعدهم ، أعرف بعضهم ، وأجهل أكثرهم .

سرتُ أيّـاماً ربَّما ، بين مؤلّفـات الكتّاب العرب وصورهم ، وتفكـيري يتراوح بين المتعة والرهبة والخوف من المصير .
تعبــت ، جلست أستريح على جذع شجرة مقطوع ومحفور على شكل مقعد ، أخرجتُ نظّارتي ، ورحت أتناول كتاباً إثر كتاب .. أقرأ العنوان وسنة الطبع ، وأبحث من بين الصور عن صورة ملائمـة تتوافق مع المؤلِّف .
يا الله ..! كم جميلٌ ذلك الوقت ..!؟ لم أعد أشعر بالصمت والوحدة ، معي أناس حقيقيّون ، يتكلَّمون و يضيؤون الرّوح و المكان بأفكارهم .. كتّاب عرب ، أشعار قبل الإسلام وبعده ، أشعار حديثة في زماننا هذا ..روايات ، سِيَر ذاتيّة ، إبداعات في المنطق والفلسفة ، وعلم الطب والفلك ، جهاد ، حِكَم
طُرَف ، رحَل .. وغزل من أرقِّ وأرقى أنواع الغزل ، قرأت أيضاً لنساء مبدعات قديمات ومعاصرات.

لم أعد أشعر بانزياح الزمن ، حتى أحسستٌ أنني أكاد أموت من الجوع والنعاس ، لا أدري كم أمضيت
من الزمن ، لا أحمــل ساعة ولا رزنامة .. لعلّي أمضيت أيّاماً وسنين أقرأ دون مللٍ ، تساءلت ، ماذا سآكل هنا ..؟ وأين أنام …؟ من بعيد رأيت شجرة جوز الهند ، وشجرة نخيل كسرتُ( جوزة )هنـد
شربت ماءها ، وقطفتُ بلحاً أكلته ، ثمَّ حملت معي بعضاً منه ، وتابعت تجوالي

حياتي الآن لا أجمل منها ، سعيدةٌ أنا فوق حدود وصفي .. غفوت قليلاً ، مسندةً رأسي إلى جـدارٍ أحجاره بلون أزهار البنفسج ، تنبعث منه رائحة كعطره .
استيقظتُ رحـت أتابـع المسير .. بل الطيران كأنَّ لي أكثر من جناحين أرتفع بها بتؤدة ، وبتـؤدة أطيـر .
إلى أين تأخذني أجنحتي ..؟ يا إلهي كأنَّ الحبور بساط سحريّ يحملني إلى عوالم مبهجة.

لفت نظري وجود رجلٍ يشبه رجل الثلج ، اقتربت أكثر رأيتُ رجلاً وقوراً يتكَّئ على أريكة يرتـدي عباءة بيضاء بلـون لحيتـه وشعره ، وفي يده سبحة حباتها ورديّة اللـون ، إلا أنَّ وجهه وجه شاب ، وعينيه تلمع بالحيوية و حب الحياة .
( هدّيت ) أمامه ، فابتسم ابتسامة أشرقت في وجهه ، وسرَّبت لنفسي طمأنينة .
سألته مشيرة أن أجلس ، فوافق لي مشيراً أن اجلِسي .
بعد تبادل بعض الحديث ، وكسر طوق الخوف .. تجرّأت وسألته :
 مّن أنت ..؟ تفحَّصني طويلاً ثم تنهّـَد وقال :
 أنا التاريـــخ . قلتُ له مداعبة :
  وأنا الجغرافيا .
ضحك معي ، أضفته قطعة من جوز الهند ، وبلحتين . قال :
 أنا لا آكل .. فقط أكتب . قلت مازحاً :
  وأنا آكل ، وأقرأ فقط .
  قولي لي .. ما الذي جاء بكِ إلى هذا المكان ..؟!
  حبّي للمعرفـة و المغامرة .
  ما ذا تريدين أيّتها الإنسانة ..؟
  أريد أن أبقى هنا بقيّة حياتي .
  هاربةً من الدنـيا ..؟ أضفت ضاحكة :
  من الدنيا و" بلاويها ".
  أغبطكِ لسعادتكِ .
  وأنتَ ألستَ سعيداً ..؟! صمت حزيناً متأمِّلاً ، وراح هذا الرجل الوقور الأبيض يبكي بشدَّة ، وسبحته الحمراء تدور بين أصابعه بسرعة ، وأنا أكفكفُ له دموعه . سألته :
  ما الذي يبكيكَ يا صديقي ..؟ !
  ألم أقـل لكِ أنا التاريخ ..؟!
  أجل قلتَ لي ذلك ..
  نسيتُ أن أقولَ لكِ إنَّني تاريخ العرب .
أدركتُ عذابه ، خجلت من سؤالي ، وانخرطت معه في بكاء مرير . قلت له بندم :
  كنتُ سعيدة .. ليتني لم ألتـقِ بكَ ، أنا في حقيقة الأمر هاربة منك ، فلماذا برزت لي في أجمل لحظات حياتي ..؟
  أنتِ أتيتِ إليّ ، وأنا مختبئ هنا ، وخجل ، أتوارى من القوم من سوء ما آلوا إليه .
  تعالَ نهرب معاً ، دع قلمك وسجِّلكَ هنا ، وامتنع عن كتابة هذا التاريخ ، ذلك أفضل .
  لا لا .. اذهبي أنتِ ، سأبقى مكاني لأسجِّل ، هذا عملي ، وقد خلقتُ له .
  أنتَ حـرٌّ .

تركته ، حلَّقت بأجنحتي ، طرت بتؤدة في جوِّ المكان ، حتىّ رأيتُ شعاعاً يضيءُ الكونَ أمام ناظري ، رأيت جداولَ منسابة بمياه كشلالات الفضَّة ، وأرضاً من حصى البحر المصقول ..ولآلئه .

وفي الصدارة على مرتفـع من قطوفِ الزهر ، رأيت مصحفاً مغلقاً ، على جلده نقوش إسلامية رائعة
احتضنتُـه إلى صدري قبَّلته ، ثم فتحت صفحة من صفحاتـه وقرأت :
بسم الله الرحمن الرحيم ( واصبر على ما أصابك إنَّ ذلك من عزم الأمــور ) . صدق الله العظيم .

ضياء قصبجـي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى