الخميس ٢١ شباط (فبراير) ٢٠٠٨
بقلم إبراهيم ياسين

نـزوة مــتــأخـرة

كـان يـمـسـك رأسـه بـيـن كـفـيـه ويـسـائـل نـفـسـه عـن سـبـب هـذه الـمـحـنـة الـتـي تـمـر بـه وكـأنـهـا عـاصـفـة هـوجـاء، كـان مـن حـيـن إلـى حـيـن يـرفـع صـوتـه بـشـكـل مـفـاجـئ " تـفـو" يـصـاحـب صـوتـه ضـرب شـديـد عـلى الـطـاولـة الـمـوضـوعـة أمـامـه فـي الـمـقـهـى. لـقـد سـبـق لأصـدقـائـه الـمـقـربـيـن أن نـبـهـوه إلـى ضـرورة الـتـوقـف عـن هـذه الـحـمـاقـات خـاصـة وأنـه لـم يـعـد صـغـيـرا كـمـا أن الـفـتـاة الـتـي بـدأ يـلاحـقـهـا هـنـا وهـنـاك تـصـغـره بـأكـثـر مـن ثـلاثـيـن عـامـا، هـي ابـنـة الـثـمـانـيـة عـشـر ربـيـعـا أمـا هـو فـقـد تجـاوز الـخـمـسـيـن مـنـذ فـتـرة لا بـأس بـهـا. إن أكـثــر مـا كـان يـؤلـمـه ويـحـز فـي نـفـسـه هـو هـذا الـتـغـيـر الـمـفـاجـئ فـي شـخـصـيـتـه وفـكـره، خـاصـة وهـو الـشـخـص الـذي تـعـود أن يـأخـذ كـل أمـوره مـأخـذا جـادا عـقـلانـيـا، مـحـلـلا ومـقـايـسـا ومـوازنـا. لـم يـكـن للـعـاطـفـة حـيـز يـذكـر فـي قـراراتـه وتـصـرفـاتـه، بـل يـمـكـن الـقـول بـأن الأمـور الـعـاطـفـيـة لـم تـكـن ضـمـن بـرامـجـه بـلـه أن تـكـون مـن ضـمـن أولـويـاتـه. الـعـقـل ـ ولا شـيء غـيـر الـعـقـل ـ كـان سـيـد مـواقـفـه وتـصـرفـاتـه، وحـركـاتـه وسـكـنـاتـه. لـكـنـه هـذه الـمـرة أحـس بـأنـه لـم يـعـد يـمـلك إرادتـه كـمـا لـم يـعـد يـتـحـكـم فـي خـيـاراتـه.

كـانـت الأحـاسـيـس تـقـذف بـه مـن لـجـة إلـى أخـرى مـنـذ أن لـمـح تـلك الـفـتـاة الـغـضـة الـطـريـة... اللـيـنـة الـمـلـيـئـة بـالـحـيـاة. كـان يـقـف أمـامـهـا مـبـهـوتـا مـسـلـوب الإرادة، حـتـى أنـه كـان يـخـجـل مـن نـفـسـه، ويـتـسـاءل فـي قـرارة بـاطـنـه : هــل يـلـيـق بـه هـذا الـتـصرف وهـو الـكـهـل الـرزيـن ؟ هـل الأمـر يـتـعـلـق بـمـراهـقـة مـتـأخـرة ؟ أم أن الأمـر مـجـرد نـزوة عـابـرة ؟ هـل هـو تـصـاب وجـنـون طـفـولـي لا يـلـيـقـان بـمـقـامـه ومـركـزه ؟ أم أنـه مـجـرد هـفـوة أو ربـمـا سـحـابـة فـي سـمـاء يـوم صـائـف ؟
لـم يـكـن يـجـد جـوابـا، والأدهـى والأمـر أنـه لـم يـكـن يـود لا الـسـؤال ولا الـجـواب. كـل مـا كـان يـريـده هـو أن تـتـاح لـه الـفـرصـة قـلـيـلا حـتـى يـسـتـمـتـع بـهـذه اللـحـظـات، وقـد عـاش عـمـرا طـويـلا، بـطـولـه وعـرضـه، مـحـرومـا مـن كـل عـاطـفـة أو حـنـان. لـم يـكـن يـسـعـى حـتـى إلـى مـجـرد تـحـلـيـل الأمـر أو مـنـاقـشـتـه ولـو مـع نـفـسـه، هـذه اللـحـظـات تـسـتـحـق أن تـعـاش، لـكـن الأسـئـلـة كـانـت تـداهـمـه وتـقـتـحـم عـلـيـه نـشـوتـه.

كـانـت الأسـئـلـة تـتـنـاسـل، يـلـد بـعـضـهـا بـعـضـا فـي حـركـة لا تـتـوقـف، كـانـت تـفـرض نـفـسـهـا أمـام نـاظـريـه، فـيـعـجـز عـن إزاحـتـهـا مـهـمـا فـعـل. يـود أن يـصـرخ بـمـلء فـيـه : يـا نـاس، أي عـيـب فـي أن تـتـحـرك مـشـاعـر الـمـرء، وتـتـدفـق فـي شـقـوق الـنـفـس خـيـوط الأحـاسـيـس ؟ هـل يـمـكـن لأرض لا تـسـقـى بـالـمـاء أن تـعـيـش وتـثـمـر ؟ هـل الـحـيـاة كـلـهـا نـقـد وفـكـر وعـقـل وقـيـاس وبـرهـان ؟ أم أن للـمـشـاعـر والأحـاسـيـس نـصـيـبـا يـجـب أن يـصـان ؟ كـان الـرجـل الـكـهـل مـصـرا عـلـى أن يـسـتـمـر فـي اللـعـبـة إلـى آخـر الـنـفـق، لـكـن إلـى أي حـد يـسـتـطـيـع أن يـتـجـاهـل الـنـاس والــمـجـتـمـع، فـإذا امـتـلك الـجـرأة ـ مـثـلا ـ فـهـل فـي مـقـدوره أن يـضـرب بـأبـنـائـه وبـنـاتـه عـرض الـحـائـط ؟ كـيـف سـتـكـون نـظـرة هـؤلاء إلـى صـورة أبـيـهـم ؟ كـيـف سـيـكـون مـصـيـر هـؤلاء الأبـنـاء ؟ هـل يـمـكـنـه أن يـتـجـاهـل الاحـتـمـالات فـي حـال فـشـل الأمـر، أو فـي حـال عـجـز أو... ؟ هـل مـشـاعـره مـلك نـفـسـه وحـدهـا ؟ أم أن عـلـيـه أن يـراعـي الآخـريـن ؟ مـا ذنـب أولاده ـ مـثـلا ـ ؟ أو هـل مـن حـقـهـم أن يـمـنـعـوه مـن أن يـعـيـش ويـحـيـا وقـد فـارقـتـه زوجـتـه مـنـذ أزيـد مـن عـشـرة أعـوام ؟ قـدم خـلالـهـا مـا يـمـلك ومـا لا يـمـلك مـن الـتـضـحـيـات والـمـشـاعـر والأحـاسـيـس، عـشـر سـنـوات كـان فـيـهـا أبـا وأمـا. عـشـر سـنـوات طـوال أخـذت مـنـه الـشـيء الـكـثـيـر، حـتـى أنـه لـم يـكـن يـشـكـو أو يـتـألـم، لـم يـسـمـع لـه أنـيـن طـيـلـة لـيـال مـا كـان يـحـصـيـهـا إلا مـن عـاشـهـا بـعـقـلـه وقـلـبـه، عـاشـهـا وهـو يـقـدم دون أن يـأخـذ شـيـئـا، ومـا كـان لـه أن يـأخـذ شـيـئـا، ألـيـسـت الأبـوة عـطـاء وتـضـحـيـة ؟

فـكـيـف وهـو الـذي عـرف الأبـوة عـشـريـن سـنـة قـبـل مـوت زوجـتـه وعـرف الأبـوة والأمـومـة مـعـا بـعـد أن غـادرتـه وحـيـدا لـمـدة عـشـر سـنـوات أخـرى ؟ قـرر ألا يـصـحـب مـعـه أيـا مـن أبـنـائـه أو بـنـاتـه حـتـى لا يـقـلل ذلك مـن فـرصـه فـي نـيـل الـمـوافـقـة. ارتـدى مـعـطـفـا جـلـديـا أنـيـقـا، وحـمـل فـي يـده عـلـبـة فـيـهـا بـعـض أنـواع الـحـلـوى. طـرق الـبـاب ثـم دخـل... لـقـي كـل الـتـرحـيـب، لـكـنـه حـيـن اقـتـرح مـراده كـان مـصـيـره الـرفـض بـحـجـة أن الـفـتـاة فـي سـن إحـدى بـنـاتـه، ثـم إنـه لـو كـان أحـد أبـنـائـه هـو الـذي طـلـبـهـا لـكـان الأمـر مـعـقـولا، كـمـا أحـبـوا أن يـسـمـعـوه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى